المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقامة القطارية .



qaswara
20 Jan 2007, 08:13 PM
بسم الله الرحمن الرحيم .

حدثنا قسورة بن حيدرة ، قال :
كان لي سفر بعيد الى مدريد ، فامتطيت قطارًا سابق الرياح، وجعلت أخترق الهضاب والبطاح .. فبينما أنا أخذت مقعدي للجلوس ، مع خلق الله فمن البشوش و منهم العبوس . فإذا بصديق قديم أمامي ، يرنو الي في قلق ٍ ، و هو غير مصدّق .. فبادرته أنت فلان حين سألته .. فأجابني أنت علان و عانقني ... و بعد تجادب أطراف الحديث ، و عن العمل كان التساؤل الحثيث .. بادرني ، اتعلم تاريخ هذه الأراضي الشاسعة ؟.. أنها الاندلس الفردوس الضائعة .
و أخذ زمام الكلام و ذكّرني ـ حين جادلني ـ بالقصة الصادمة ،....والحقيقة المؤلمة ، التي تقول : إن ضياع الأندلسِ ، موطن الطمأنينة و الأنسِ من أيدي عرب، بعد ثمانية قرون و بلا حرب ، من بناء واحدة من أرقى الحضارات و مدنيّّة فاقت كل الأزدهارات
و حسبك بما كُتِب عنها نثرًا ، وما قاله ابن خفاجة شعرًا :
يا أهـــــــــل أندلـس للـه درُّكمُ ****** مـاءٌ وظــــلٌ وأنهار وأشجار
ما جنة الخــلد إلاّ في دياركمُ ****** ولو تخيرت هـــذا كنت أختار

و لكن أهاج حزني و كمدي ، حين ذكّرني بشعر ابي البقاء الرندي :

لكـلّ شيءٍ إذا ما تـمّ نقصـــانّ ***** فلا يغرّ بطيبِ العيش إنسانُ
هـي الأمور كماَ شاهدتها دولُ ***** من سرّهُ زمنٌ ساءته أزمان.

فأزبأر صاحبي و زأر ، و حدجني ببصره و عكر ، ثمّ استجمع فكرة المقال ، و استرجع انفاسه و قال : إن ضياعها ، لم يكن عقب معراك عسكرية ، و لا انهزامات حربية ، هزمت فيها الجيوش الإسلامية ، لانعدام توازن القوة، و اتساع الهوة ، ولم تسقط آخر حواضرها في ثلاثة أسابيع ، كما سقطت بغداد في فصل الربيع.. وأنه ما بين تسليم مفاتيح قرطبة وسقوط غرناطة المغتصَبة ، قرابة القرن والنصف أو يزيد ، من الشهور و السنوات العديد .
فقلت له :
تالله ! كنت آمل في صاحب من الخلان ليسرني ، فإذا بك تسرد من الأحزان لتذكرني ، و سكن لساني الجرار و تهاطل دمعي المدرار ، و ساءني الحال و كدرتُ ، حين تذكرتُ . قول الشاعر :
كم يستغيث بنا المستضعفون و هم ****** قتلى و أسرى فما يهتزّ انسانُ .
فقال لي أزيدك من الشعر ابياتًا ، تمزق الفؤاد أشتاتًا
يا رب أم وطفـــــل حــيل بينهمــــــا ****** كما تفرق أرواح وأبـــــــــدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت ****** كأنما هي ياقوت و مرجـــــــــــان
يقودها العلج للمكروه مكرهــــــــــة ****** والعين باكيــــة والقلب حيــــران
لمثل هذا يبكي القلب من كمـــــــــــد ****** إن كان في القلب إسلام وإيمان
و تابع قائلاً:
ذلك أن سقوط الأندلس كان بفعل انهيار داخلي ، و عدم اكتراثٍ و تصارع عائلي.. كان قوامه استشراء الفساد، و تعطيل مصالح العباد فعمّ الخراب في البلاد.. و طغى الفساد السياسي والمالي والأخلاقي في أوساط النخب الحاكمة ، وانتشر ذلك الفساد بالمؤانسة في جسم الأمة واقتداء العامة

أحوال الأمة اليوم في المشرق، كما في المغرب العربيين، تقترب من أحوال الأندلس في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين.. حتى أنه يخشى عليها من التسليم الطوعي ، لمفاتيح ما بقي من الحواضر مجانًا لا البيعي .. طوعا من "عبادلة" هذا العصر، كما فعلها "عبادلة" الأندلس في ذلك الدهر..
و" صدام" يكون قد استجمع تلك الشجاعة ، عندما واجه بها جلاديه وحبل المشنقة في تلك الساعة ...إحساس صادق أنه كان كبيرًا، حتى وإن أخطأ في إدارة دولته كثيرًا ، فحسبه ، أنه لم يرتكب خطيئة الاستسلام والتسليم ، كما يفعله نظراؤه بتسليم الأوطان لكل لئيم ...
فقلت : وماذا عن الرعية ؟ فهل يكفيها ما أصابها من بليّة ؟..
فقال لي : انت غلطان ، و اسمع مني ياإنسان .
وكما نفعل نحن الرعية ، فقد انسلخنا من كل هويّة ، حين استسلمنا وسلّمنا أمرنا لهذه الزمرة الفاسدة، طمعت فينا من هي على ديننا حاقدة ، و نهبت خيراتنا و ليست لنا حامدة .. كيف نعيب على حكّام ما هم عليه من تسفل ، و للاجنبي من تزلف و تطبل ، و على جميع المستويات، وسوء تسييرهم لمصالح الأمة و الإدارات ، وخضوعهم لكل للإملاءات ، هذا و دون ثورة لعدو أو مقاومات ..
يا صاح ! نحن نفعل حيالهم ما هو ألعن، و هل غيّرنا منكرًا مع أن لنا ألسن .. الكثير منا في إدارة عائلته الصغيرة قد أفلس ، و على جمع المال بلا عملٍ فحريص و أحرس .. و منّا من لا يتوخى السبل الحلال والطيب من القوت، و هو أحرص على حياة و مصيره الى الموت ِ.. ونفعل ما هو أسوأ بهذا الاستسلام الفظيع ، لزمرةٍ حاكمةٍ و نساق كالقطيع ، زمرة جمعت بين الفساد والجور والاستبداد، و علت في الأرض و استعبدت العباد .
ولكن قبل أن نحاسب هذه الزمرة الفاسدة الفاشلة، و لخيرات البلد الناهبة و الآكلة .. نبدأ بمحاسبة أنفسنا كأفراد أوائل ، وكأولياء على أسر وعوائل.. ونراقب أنفسنا علنا ، مع من هم أقل قوة و شأنا على البطش من بوش وبلير، و نحاسب أنفسنا على الكبير و الصغير .. كيف نشجب ، ما يبدو على ملوك ورؤساء الأمة و نصرخ و نصخب الذل والهوان العابس ؟... وهم يهرولون لدعوات خطة " رايس "، و فينا ولا يجد غضاضة في تأييد الخطة ، و يغور سقطة تلو سقطة . مع إنها خطة لإبادة ما بقي من أشقائهم من عرب العراق، فجاء العداء و ذهب الوفاق . وفينا من لايفتأ يهرول لدعوات و مساندة هؤلاء الحكام ، لإبادة ما بقي من العروبة والإسلام ، حتى في دور التعليم ودور العبادة، بل وحتى في عقر الدار المعتادة ، إن لم يكن بعضنا قد سلّم مفاتيح غرفة النوم ، بعد أصبح رهن إشارة هؤلاء القوم . لو أن عرب الجزيرة والشام ومصرلم تسلّم مفاتيح هذه الأمصار، فما كانت حاضرة العراق يُسلّم مفاتيحها جهارًا في وضح النهار . وبلا مقاومة لهذا الفصيل من الرخويات ، و هذا الهجين من الفطريات و " ا لبكتيريات.
، ، • يذكر نظام الملك في كتابه "سياسة تام" أنه باستطاعة حكومة أن تستمر مع فجورها مع العدوان ، لكنها لن تصمد بالقهر والطغيان.. ولم يخطر بباله ، و لا جال عن سؤاله ، أن الحكومات تستطيع أن تصمد وتستمر، لو جمعت بين الفجور والقهر والاستبداد ماشاء ان تعمر ، إذا كانت الرعية قد استسلمت للفجورو الفساد ، الذي يعميها عن تحسس مواطن القهر والاستبداد..
جاء أحدهم إلى علي ـ كرم الله وجهه ـ ببعض الغمز في سياسته ، و لم يفصح ما في درايته ، و يثني على من سبقه من الخلفاء الراشدين و يمدح ، و كأني به في حكم عليّ يقدح ... فما كان من الإمام إلا القول: "لقد أُمّر هؤلاء على أمثالي وأُمّرت أنا على أمثالك"..
فكما نكون يولى علينا ، وهذه الزمرة الفاجرة المستبدة إنما أمّرت على أمثالنا، فكيف نحاكمها إلى من أمر على أمثال علي فنخاصمها .
و انتهت الرحلة .
بعد ان صمت صاحبي و سكن ، لأنه فارق الأهل و الوطن .. فتذكرت كم قفار جبتها ، و أوطان زرتها .

ذويبان11
20 Jan 2007, 08:25 PM
مقامه رائعه الله يعافييك

أبو زيد الهلالي
21 Jan 2007, 12:31 AM
مقالة ومقامة متميزة ولك الشكر

ليث
21 Jan 2007, 07:23 PM
راااائع السمي .......... دمت مبدعا

qaswara
27 Jan 2007, 03:09 AM
مقامه رائعه الله يعافييك

الفاضل / ذوبيان .
أسعدك الله في كل أوان وزمان ، وأبقاك بنعمةٍ ما شاء في ظل الأماني والأمان... شكري اليك سمير ذكري، ونديم فكري.

تحياتي

بيدبا
27 Jan 2007, 01:46 PM
دخلت لأسجل إعجابي

بيدبا

qaswara
28 Jan 2007, 12:51 PM
مقالة ومقامة متميزة ولك الشكر

الفاضل/ ابو زيدالهلالي.

اشكرك شكر الروض للمطر ، و الساري للقمر . بل شكر الظمآن الوارد للزلال البارد .
و إنني لشكرك لفائز ، ولكني قاصر عن رده ما أعتذر معتذر و أقرّ عاجز.

تحياتي.

qaswara
30 Jan 2007, 12:01 PM
راااائع السمي .......... دمت مبدعا

الفاضل / ليث .
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

ان الروعة و الإبداع هما لمن كانت مداخلته ـ رغم قصرها ـ ألفاظ تأنق الخاطر في تذهيبها، ومعان عني الطبع بتهذيبها..
عهدي بك يا ليث ! أنك توجز فلا بالمعنى تُخل، وعندما تطنب فلا القارئ يشقى أو يمل.


تحياتي.