المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شـــيـــخ عَـــرَفـــة !



الباحث عن الحق
07 Dec 2007, 02:52 PM
وفود الحجيج مقبلة على سحائب الغفران والرحمة المستقرة في جبل الرحمة.. وما حوله، في حجة عام سبع وتسعين ومائة من الهجرة النبوية.

توقف الشيخ براحلته على قمة رابية تطل على ساحة عرفة وجبلها.. متأملا، حيث الموقف العظيم، يوم الحج، اليوم الذي يباهي الله –تعالى– ملائكته بعباده.. دمعة ساخنة تجري على وجه الشيخ الذي أنهكه طول العمر، وخط الزمان عليه خطوطه.. تحكي الشوق، وتعلن دموع الفرح.

سبعون موقف عاشه في هذا المكان العظيم، فكل رابية فيه وجبل، وأحجار وسَهَل؛ احتوت قلبه الذي طالما غمره الخوف من الله -عز وجل -، ورجاء فضله ورحمته.. فينسى في هذا الموقف حين يرفع يديه لربه؛ شقاء السفر، وجهاد الحَج، وآثار الطريق، ويجد الأنس –كل الأنس– في مناجاة مولاه، خاضعًا متذللا باكيا راجيًا..

لطالما أدمى الشوق فؤاده لهذا الموقف، وحز الحنين في قلبه لقدسية هذا المكان، فما إن تطأ قدماه أرض الرحمة، حتى تجده مستغرقًا في الدعاء والتعبد والتذلل للرحمن الرحيم؛ فلا يبالي بالدنيا كلها، فدنياه عرفة.. ولا شيء غير عرفة. وهذه حاله منذ سبعين سنة؛ قد اتصل بماضيه كله عبر دمعة ساخنة، ونحيب محزن، وصلاة خاشعة، وتلاوة ندية.. ولا ريب؛ فهذه الباقيات هي ماضيه وحاضره، أفلا يكون ارتباطه بماضيه يسير؛ فالمكان عرفة، والزمان عرفة، والقلوب اتحدت على الخضوع، والاتجاه قِيدَ بـ: (لبيك)، والألسنة تصدح بذكر الله -تعالى-، واللباس واحد. ما أعظمه من نهارٍ تتلاقى فيه أيام هذا الشيخ.

حثّ الشيخ الخطى؛ فحلم الوصال قد لاح له، كأنه العاشق الحالم..، لكنه المخلص الذي لا يرتوي من طول الوصال، فهو في ظمئ دائم له؛ غير أنه لله -تعالى-، ومحدد بإتباع شريعة سيد الخلق محمد بن عبدالله –صلى الله عليه وسلم-؛ فأنعم به من وصل ربانيٍّ عظيم.

هاهو يقترب إلى جموع المسلمين في عرفة؛ تستحثه دموع عابد، وتوبة غافل، ودعاء عجوز، وأيدٍ تنوعت في لونها، وأصلها، وقوتها، وعمرها.. لكنها رُفعت تضرعًا للكريم الرحيم الذي يستحي من رد عبدٍ رفع يده له طالبا خاضعًا متذللا.

وبين الجموع تتابعت على النزول الدموع، وخفق القلب تعظيمًا للجبار -جلا جلاله-، وأنزل رأسه متذللا له -سبحانه-، ولسان كل خفقة، وحال كل دمعة:


فليتـك تحـلو والحيـاة مـريرة **** وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر **** وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين **** وكل الذي فوق التراب تراب

ليتك ترضى يا رب ولو غضب الأنام ...

رفع بصره فإذا جبل الرحمة يتشح بالبياض؛ لعظم ما عليه من البشر، وكأنهم كانوا عليه مذ كان؛ وكأنهم الشجر قد رسخت جذوره في أعماق الجبل.. هذا الجبل، ما أعظمه وأبهاه، إن كانت الجموع عليه كالشجر الراسخة جذوره؛ فهذا الشيخ قد رسخت جذور روحه في أعماق هذا الجبل منذ سبعين سنة.. وحتى هذه اللحظة العظيمة.

وهاهي ساحة عرفة.. كما رآها في اللقاء الأول منذ سبعين سنة، عظيمة بذكر الله -تعالى-، يراها فيغمره شعورٌ يُعَمِّق عبوديته لله -جل وعلا-، ويزيده تذللا له، وخضوعًا لعظمته، واعترافا بوحدانيته –سبحانه وتعالى-، ولسان الحال:


يا رب عبدك من عذابك مشفق **** بك مستجير من لظى النيران
فارحم تضـرعـه إلـيك وحـزنـه **** وامنـن عـليه اليـوم بالغفران

فلبيك اللهم لبيك..! إن شِبْت يا رب، فما شاخ قلبي عن ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وإن رُدِدت إلى أرذل العمر في جسدي وقوتي، فلن ترى –ربي– بإعانتك إلا عزة الشيخ المؤمن في روحي، وهي التي أجدها –بفضلك ومنتك– مذ أقبلت عليك منذ سبعين سنة.. وحتى اليوم.

لبيك اللهم لبيك..! ارحم –ربي- شيبي، وتجاوز عن شيخ أنهكه دولاب الدهر، وأنصبه سير الأيام، ارحم -يا رحمن- ضعفي، وأغث قلبي بإيمان يعتق رقبتي من النار.. بفضلك وكرمك وجودك يا كريم.

لبيك اللهم لبيك..! أسألك -ربي- الفردوس الأعلى. يا ضيعة حياة انتهى أمر صاحبها إلى نار تلظى، وحرم من جنة عرضها السماوات والأرض، رباه..! شيخ ذليل وقف ببابك طالبًا.. وأنت الكريم. عبدٌ ضعيف مدّ يديه خاضعًا.. وأنت الرحيم. أسألك عملا متقبلا، وعفوًا من لدنك ومغفرة.. وحسن خاتمة يعقبها تجاوز ونجاة من عذاب الآخرة.

انتبه فإذا هو قد أفاق من جميل التفكر ليرى نفسه وقد دخل الموقف، والدمع قد بلل لحيته البيضاء، تأمل لحاله.. والشيب قد اشتعل في رأسه، هزل جسمه، وتراخت مفاصله، وخط على وجهه الدهر؛ فقد دفعه تكرار الأيام، وانطواء السنين، وانصرام الأعوام.. إلى عيش أرذل العمر.

صلى مع جموع المسلمين، ثم اضطجع على فراشه مستغرقًا في التفكير، منغمسا في التأمل، ثم انحدرت دمعة ساخنة على خده، وتتابعت الدموع؛ فالتفت لمن هم حوله وقال : "قد وافيت هذا الموضع سبعين عامًا أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر العهد، وإني قد استحييت من الله لكثرة ما أسأله ذلك".

إنه الإحساس بدنو الأجل، وانقضاء العمر، وإلقاء الستار على حياة علم من أعلام الحضارة الإسلامية، وأفول نجم من نجوم السلف الصالح، وشمسٍ غيّبها قدر الله -تعالى- وسنته في هذه الحياة الدنية.

قال ابن أخيه: "رجع الشيخ من حجّه هذا، وتوفي في السنة الداخلة".

رحمة الله –تعالى- على الإمام الحافظ سفيان بن عيينة الكوفي، وجمعنا به في مستقر رحمته.



_________________________



قد يقول قائل: مالك وللحديث عن عرفة، وبيننا وبينها أيامًا ولياليَ..
قلت: إنما الحج عرفة، وما كتبته إلا تشويقا لمن لم يُحْيي عرفة.. في عرفة.

فهد
07 Dec 2007, 06:20 PM
جزاك الله خير

ليث
07 Dec 2007, 07:59 PM
الله يبارك فيك ابو عبدالله

الدب المنفلت
07 Dec 2007, 11:03 PM
الله يجزاك خير ويبارك فيك

البندق
07 Dec 2007, 11:14 PM
تسلم اخي الباحث

ذويبان11
08 Dec 2007, 01:52 AM
بورك فيك اخي

مرضي بن مشوح
08 Dec 2007, 02:47 PM
جزاك الله خيرا

هبساوي
08 Dec 2007, 05:00 PM
مشكووووووووووووور