مراسل الموقع
12 Sep 2008, 06:46 AM
=
يعيش عبدالله عناد الرويلي (55 عاما) وزوجته وابنه وابنته المراهقان في ظلام دامس منذ أكثر من 8 أشهر. انقطعت الكهرباء عن منزلهم في حي الزهور بسكاكا في الجوف (شمال المملكة) لعدم سدادهم فواتير متأخرة تبلغ 21 ألف ريال سعودي. يتحول الأربعة إلى عميان فور أن ينهض الليل ويستلقي جسده على السماء. يتحركون ببطء وحذر في منزلهم الأصلع الخال من الأثاث معتمدين على ذاكرتهم المنهكة التي طالما خانتهم وأسقطتهم. يأكلون يوما ويجوعون ثلاثة. لا يملكون سوى الصبر والدموع التي يواجهون بها القيظ والفاقة.
لم يفرحوا بالإجازة الطويلة كالبقية، فهي تعني بقاء الابنة والابن وقتا أطول في المنزل وسط الحر والجوع والظلام، وتعني نحيبا أطول، وبكاء أطول.
يخجل الأب من ابنيه وزوجته. فهو لم يستطع سد جوعهم وإخماد ظلامهم. حاول مرارا أن يعمل، لكن دون جدوى. عمره ومؤهله العلمي يحول دون حصوله على وظيفة تضيء وجوههم المطفأة.
فقره وقلة حيلته، انعكسا على بنيته وهيئته. عندما تشاهده ستخشى أن تقتلعه الريح في أي لحظة من فرط ضعفه ووهنه. وكأني به يردد بيت المتنبي الشهير كلما تطلع إليه أحد:
كَفَى بجِسْمي نُحُولاً أنّني رَجُلٌ
لَوْلا مُخاطَبَتي إيّاكَ لمْ تَرَني
وأكثر ما يقلق عبدالله هو أن تتركه زوجته وابناه. فهو يرى أن صبرهم نفد، ودموعهم جفت، وأجسادهم ذبلت كأنهم زهور لم ترتوِ.
عبدالله يقبض 1400 ريال شهريا من الضمان الاجتماعي منذ نحو عام فقط. ولا يعلم كيف يصرفها. هل على ديونه المتراكمة التي أودعته السجن 4 مرات، أم يجمعها لتعود الكهرباء والحياة إلى شرايين منزله وعائلته.
حاول أن يحصل على قرض مساعدة من وزارة الشؤون الاجتماعية، لكنه لم ينجح. يرتطم بإجابة واحدة لا تشيخ كلما يمم وجهه شطر فرعها في الجوف وهي:"من يقبض على راتب من الضمان لا يحصل على قرض".
عبدالله يحتاج إلى 21 ألفا وليس مليون. عبدالله لم يقتل أحداً. عبدالله لم يسئ لأحد.
مشكلة عبدالله أنه متعفف. ومشكلتنا أننا لا نبحث ولا نتقصى ولا نفتش عن المحتاجين والمتعففين. مشكلتنا أننا ننزح إلى الأسهل. إلى من يفتحوا أمامنا أيديهم وأفواههم. لا نذهب إلى المنازل المظلمة. إلى البيوت المطلية بالصمت والكرامة!
عندما سألت عبدالله:هل تصلك تبرعات الجمعيات الخيرية جراء وجود اسمك في قائمة الضمان الاجتماعي؟ أجابني بـ"لا" أطول من برج الفيصلية. وقال لي إنهم في الجوف يطلقون على الجمعيات الخيرية"جمعيات التمر" نظرا لأنها لا تتبرع إلا بالتمر. ولكن (التمر) وحده لا يكفي. لا يغطي من البرد ولا يحمي من الشمس. ولا يمنع الأبناء من الانحراف. والأسرة من التفكك! لا تستطيع أن تشتري بالتمر دفاتر لأبنائك. لا تستطيع أن تسدد به فواتير كهربائك ومائك!
لا أعرف أحداً في وزارة الشؤون الاجتماعية أو في الجمعيات الخيرية لأنزف أمامه. لا أعرف سوى معالي الوزير يوسف العثيمين الذي أضع بين يديه قضية عبدالله. هذه القضية التي تأكدت من تفاصيلها وحيثياتها من الأخ الكريم حمود الشمري، الموظف في الشركة السعودية للكهرباء، مكتب خدمات سكاكا. والذي أكد بدوره حقيقة مأساة عبدالله الذي أتواصل معه يوميا منذ نحو شهر. هذا الرجل الذي ينهار هو وأسرته أمامنا دون أن نحرك ساكنا. في حين تمتد تبرعاتنا إلى خارج الحدود.
أدرك يا معالي الوزير جيداً أنك لم تتول هذه الحقيبة إلا قبل شهور قليلة ولا تملك عصا سحرية. ولكن أدرك أيضاً أن هناك منازل آيلة للسقوط، وجمعيات بحاجة إلى أن نعرف أين تذهب الملايين التي تردها من فاعلي الخير مادام عبدالله وغيره لا يصلهم شيء.
أرجو يا معالي الوزير أن تعمل على تسديد فواتير كهرباء كل من يستحقون الضمان. فمن أبسط حقوق فقرائنا علينا أن يعيشوا في نور.
أرجو يا معالي الوزير أن تزور مناطق ومحافظات المملكة واحدة واحدة. لتقف بنفسك على معاناة بيوت كثيرة في الجوف، والأحساء، وجازان، ونجران، ومكة، وعسير وتبوك والقطيف. ستتفاجأ من حجم البشر الذين تخبئهم كرامتهم بين أحشاء هذه البيوت. ستتفاجأ بمواطنين بلعوا ألسنتهم منذ زمن. بلعوها مع آلامهم التي مزقتهم، وشتتهم، وقتلتهم ومؤسساتنا الاجتماعية تتفرج. تقيم الاحتفالات الواحد تلو الآخر. احتفالات تطفح منها البشوت والبخور والإضاءة التي بوسعها أن تضيء ليس منزل عبدالله عناد الرويلي فحسب بل مدينة بأكملها!
عبدالله المغلوث - كاتب سعودي في الوطن
يعيش عبدالله عناد الرويلي (55 عاما) وزوجته وابنه وابنته المراهقان في ظلام دامس منذ أكثر من 8 أشهر. انقطعت الكهرباء عن منزلهم في حي الزهور بسكاكا في الجوف (شمال المملكة) لعدم سدادهم فواتير متأخرة تبلغ 21 ألف ريال سعودي. يتحول الأربعة إلى عميان فور أن ينهض الليل ويستلقي جسده على السماء. يتحركون ببطء وحذر في منزلهم الأصلع الخال من الأثاث معتمدين على ذاكرتهم المنهكة التي طالما خانتهم وأسقطتهم. يأكلون يوما ويجوعون ثلاثة. لا يملكون سوى الصبر والدموع التي يواجهون بها القيظ والفاقة.
لم يفرحوا بالإجازة الطويلة كالبقية، فهي تعني بقاء الابنة والابن وقتا أطول في المنزل وسط الحر والجوع والظلام، وتعني نحيبا أطول، وبكاء أطول.
يخجل الأب من ابنيه وزوجته. فهو لم يستطع سد جوعهم وإخماد ظلامهم. حاول مرارا أن يعمل، لكن دون جدوى. عمره ومؤهله العلمي يحول دون حصوله على وظيفة تضيء وجوههم المطفأة.
فقره وقلة حيلته، انعكسا على بنيته وهيئته. عندما تشاهده ستخشى أن تقتلعه الريح في أي لحظة من فرط ضعفه ووهنه. وكأني به يردد بيت المتنبي الشهير كلما تطلع إليه أحد:
كَفَى بجِسْمي نُحُولاً أنّني رَجُلٌ
لَوْلا مُخاطَبَتي إيّاكَ لمْ تَرَني
وأكثر ما يقلق عبدالله هو أن تتركه زوجته وابناه. فهو يرى أن صبرهم نفد، ودموعهم جفت، وأجسادهم ذبلت كأنهم زهور لم ترتوِ.
عبدالله يقبض 1400 ريال شهريا من الضمان الاجتماعي منذ نحو عام فقط. ولا يعلم كيف يصرفها. هل على ديونه المتراكمة التي أودعته السجن 4 مرات، أم يجمعها لتعود الكهرباء والحياة إلى شرايين منزله وعائلته.
حاول أن يحصل على قرض مساعدة من وزارة الشؤون الاجتماعية، لكنه لم ينجح. يرتطم بإجابة واحدة لا تشيخ كلما يمم وجهه شطر فرعها في الجوف وهي:"من يقبض على راتب من الضمان لا يحصل على قرض".
عبدالله يحتاج إلى 21 ألفا وليس مليون. عبدالله لم يقتل أحداً. عبدالله لم يسئ لأحد.
مشكلة عبدالله أنه متعفف. ومشكلتنا أننا لا نبحث ولا نتقصى ولا نفتش عن المحتاجين والمتعففين. مشكلتنا أننا ننزح إلى الأسهل. إلى من يفتحوا أمامنا أيديهم وأفواههم. لا نذهب إلى المنازل المظلمة. إلى البيوت المطلية بالصمت والكرامة!
عندما سألت عبدالله:هل تصلك تبرعات الجمعيات الخيرية جراء وجود اسمك في قائمة الضمان الاجتماعي؟ أجابني بـ"لا" أطول من برج الفيصلية. وقال لي إنهم في الجوف يطلقون على الجمعيات الخيرية"جمعيات التمر" نظرا لأنها لا تتبرع إلا بالتمر. ولكن (التمر) وحده لا يكفي. لا يغطي من البرد ولا يحمي من الشمس. ولا يمنع الأبناء من الانحراف. والأسرة من التفكك! لا تستطيع أن تشتري بالتمر دفاتر لأبنائك. لا تستطيع أن تسدد به فواتير كهربائك ومائك!
لا أعرف أحداً في وزارة الشؤون الاجتماعية أو في الجمعيات الخيرية لأنزف أمامه. لا أعرف سوى معالي الوزير يوسف العثيمين الذي أضع بين يديه قضية عبدالله. هذه القضية التي تأكدت من تفاصيلها وحيثياتها من الأخ الكريم حمود الشمري، الموظف في الشركة السعودية للكهرباء، مكتب خدمات سكاكا. والذي أكد بدوره حقيقة مأساة عبدالله الذي أتواصل معه يوميا منذ نحو شهر. هذا الرجل الذي ينهار هو وأسرته أمامنا دون أن نحرك ساكنا. في حين تمتد تبرعاتنا إلى خارج الحدود.
أدرك يا معالي الوزير جيداً أنك لم تتول هذه الحقيبة إلا قبل شهور قليلة ولا تملك عصا سحرية. ولكن أدرك أيضاً أن هناك منازل آيلة للسقوط، وجمعيات بحاجة إلى أن نعرف أين تذهب الملايين التي تردها من فاعلي الخير مادام عبدالله وغيره لا يصلهم شيء.
أرجو يا معالي الوزير أن تعمل على تسديد فواتير كهرباء كل من يستحقون الضمان. فمن أبسط حقوق فقرائنا علينا أن يعيشوا في نور.
أرجو يا معالي الوزير أن تزور مناطق ومحافظات المملكة واحدة واحدة. لتقف بنفسك على معاناة بيوت كثيرة في الجوف، والأحساء، وجازان، ونجران، ومكة، وعسير وتبوك والقطيف. ستتفاجأ من حجم البشر الذين تخبئهم كرامتهم بين أحشاء هذه البيوت. ستتفاجأ بمواطنين بلعوا ألسنتهم منذ زمن. بلعوها مع آلامهم التي مزقتهم، وشتتهم، وقتلتهم ومؤسساتنا الاجتماعية تتفرج. تقيم الاحتفالات الواحد تلو الآخر. احتفالات تطفح منها البشوت والبخور والإضاءة التي بوسعها أن تضيء ليس منزل عبدالله عناد الرويلي فحسب بل مدينة بأكملها!
عبدالله المغلوث - كاتب سعودي في الوطن