رفحاوي
25 Sep 2003, 11:30 AM
إيلون لن يعود لإسرائيل
باريس- هادي يحمد- إسلام أون لاين.نت/ 22-8-2003
عندما غادرت مطار بن جوريون بتل أبيب متجها إلى مطار أورلي بباريس لم يكن في خاطري ساعتها إلا هذه الكلمة: (لن أعود إلى إسرائيل أبدا بعد اليوم).. كنت أنظر إلى الساعة الحائطية المعلقة في غرفة الانتظار وأترقب بشوق صوت المضيفة وهي تدعونا إلى ركوب طائرة العال، حينها نظرت إلى جواز سفري الإسرائيلي للمرة الأخيرة وأخرجت جواز سفري الفرنسي، وعندما أقلعت الطائرة ألقيت نظرة على سواحل تل أبيب الخلابة وأطلقت زفرة طويلة وهمهمت لنفسي: الآن سأعيش حياة جديدة.
كانت هذه أولى كلماته حينما التقيته بأحد مقاهي العاصمة الفرنسية باريس بعد أن عرفني به صديق فرنسي.
اسمه "أيلون حداد"، 30 عاما، وهو يهودي من أصل مغربي.. مزدوج الجنسية فرنسي إسرائيلي ولكنه يصر اليوم على فرنسيته أولا وأخيرا.
وقال حداد في شهادته لشبكة "إسلام أون لاين.نت": "بعد الأشهر القليلة التي قضيتها في إسرائيل أستطيع أن أعرف نفسي بأنني فرنسي من أصول يهودية، ولكني علماني لا أرى أن الدين يمثل لي شيئا ذا بال. كان لا بد أن أعيش التجربة كصهيوني مخلص لأختار فيما بعد وجهتي الحقيقية في الحياة".
وتابع قائلا: البداية كانت بنهاية دراستي الجامعية في كلية السوربون بباريس سنة 2001 ورغم أنني لم أكن من الناشطين في اتحاد الطلبة اليهود بفرنسا فإن أسرتي ومحيطي الاجتماعي جعلا مني يهوديا مخلصا ومحبا لإسرائيل حتى النخاع ومدافعا قويا عن هذا الكيان الذي أحسب أننا كنا كلنا معنيين بحمايته وتوفير شروط دوامه وبقائه.
أغنية (الأمل) أو (هاتكفا) بالعبرية، وهي النشيد الوطني الإسرائيلي، كانت تزيد جلساتنا متعة وإصرارا على الإخلاص لهذا الشعب والوطن الذي عاد من قلب التاريخ بعد ثلاثة آلاف سنة متجاوزا محنا كثيرة ومحرقة الهولوكست بعناد عجيب على البقاء.
طبعا كانت الصورة مثالية جدا في ذهني.. وكانت مسألة الهجرة إلى إسرائيل -التي تعني (عليا) بالعبرية- بالنسبة لي مجرد مسألة وقت.. لذلك لم أتردد حين طرح أحد مسئولي الوكالة اليهودية علينا في جلسة جمعت طلبة حديثي التخرج، مشروع الهجرة، وسجلت اسمي من بين العديدين، غير أن والدي نصحني أن أختار في البداية مشروع الهجرة الوقتية في إطار عمل تطوعي يدوم مدة زمنية محددة وهي التي ستمكنني من اكتشاف المكان كما ستمكنني من اختبار قدرتي على التأقلم.
كان اقتراح والدي جيدا، ولذلك طرحت الأمر على مسئول الوكالة اليهودية الذي عرض علي جملة مقترحات للعمل التطوعي، فرفضت عرض العمل في (يشوف قديد) الديني التابع لفرقة هامزراحي العمالية المتدينة، كما رفضت عرضا آخر للعمل في (يشوف بيت ساده) القريب من مستوطنة غوش قطيف جنوب قطاع غزة.. المهم أني وبحكم عدم انجذابي للانغلاق الديني الذي يتركز في اليشوفات (المدارس الدينية) اخترت التطوع العملي في منظمة نجمة داود الحمراء (ماقن داود أدوم - بالعبرية) التي قال لي عنها مسئول الوكالة: "إنها منظمة إنسانية ذات أهداف نبيلة".
تكلفة الرحلة كما الإقامة لم تكن مشكلة فالوكالة تنهض بأعباء معظم المصاريف، لذلك حزمت حقائبي أوائل شهر يناير 2002 وغادرت فرنسا إلى إسرائيل حيث أدمجت في وحدة العمل التابعة لنجمة داود الحمراء بمدينة الخضيرة شمال تل أبيب (هاكديرا)، وفي المركز الشبابي بالمدينة التي تشرف على المتوسط بدأت دورة تدريبية دامت 9 أيام بدأت بعدها بالعمل في سيارة إسعاف تغطي كل المنطقة الوسطى (ساحل شارون)، كانت أيام هادئة وجميلة قضيتها ليلا بين ملاهي تل أبيب جنوب مدينة الخضيرة وحيفا شمالها حتى أفقت على مسلسل الرعب والجحيم الذي لم ينته.
في الأيام الأولى لاستقراري بالخضيرة وفي بداية أيام التدريب وقعت عملية العرس التي فتح فيها مسلح فلسطيني النار داخل عرس عشية يوم 17-1-2002 والتي أدت إلى مقتل 6 إسرائيليين وجرح عشرات آخرين، طبعا نجمة داود كانت حاضرة، فيما رفض "ميشال" مديري في التدريب أن يروي لي بشاعة الحادثة، وقال لي: ستتعود على مثل هذه الحوادث.
تعددت العمليات التي تقوم بها المنظمات الفلسطينية المسلحة، وانخرطت بدوري في العمل التطوعي مع نجمة داود الحمراء وبدأت في المشاركة بعمليات الإنقاذ التي تتلو كل عملية. لقد أصبح مشهد الجثث والأشلاء أمرا معتادا بالنسبة لي، ومع كل عملية جديدة نهُب لجمع أشلاء الجثث في الأكياس التي تعد لذلك. كانت دوامة رهيبة من العنف وجمع الأشلاء، ومع كل عملية يقوم بها جيش الدفاع الإسرائيلي (التشحال) كنا نستعد بارتداء أزيائنا الحمراء؛ ففي كل لحظة سيصدر لنا نداء بأن ننطلق إلى مكان ما فهناك عملية.
بدأت أشعر بالملل وبالقرف من هذا الجحيم الذي لا يتوقف، وربما كانت عملية نزل بارك بمدينة نتانيا القريبة من الخضيرة بداية التفكير فعليا في مغادرة إسرائيل. يومها جاءنا نداء عاجل، فقد فجر فلسطيني نفسه يوم 27-3-2002 في باحة النزل مخلفا 19 قتيلا وحوالي 120 جريحا حينما كانوا بصدد الاحتفال بعيد السدر. يومها أصابني دوار وسط أشلاء اللحم المحترق، وأعياني البحث عن بقايا الجثث بين أكوام التراب والصخور وتذكرت جملة توراتية تقول "لا جديد تحت الشمس يا أبت ستعاود ما فعلته بالأمس الكل باطل وقبض الريح".
حقيقة كنت أعيش في حلقة مفرغة لا بارقة أمل وراءها وأصبحت أطرح أسئلة تؤرقني: هل اخترت المجيء لإسرائيل لأجمع بقايا الجثث؟ أليس لهذا الليل البهيم من آخر؟
عزمت على الرحيل، وكتبت لوالدي بريدا إلكترونيا قلت له فيه: اليوم عرفت أن اختيارك الهجرة الوقتية تحت عمل تطوعي لفترة معينة كان مصيبا، وربما اختياري للعمل مع نجمة داود الحمراء مصيبا أكثر؛ ففي هذا العمل اكتشفت أن الإسرائيليين يعيشون محرقة حقيقية وأن الحياة هنا لا معنى لها.
وعندما كنت أجمع حقائبي استعدادا للعودة إلى باريس سمعت أن أحد أصدقائي الفرنسيين من الذين جاءوا للتطوع في ياشوف ديني قد لقي حتفه في انفجار قام به انتحاري فلسطيني يقود سيارة اصطدمت بحافلة في منطقة (براد حنا) القريبة من الخضيرة يوم 21-10-2002 وخلفت 14 قتيلا.. وكان هذا الخبر مدعما لاختياري الذي قررته: لن أعود إلى إسرائيل بعد اليوم.
باريس- هادي يحمد- إسلام أون لاين.نت/ 22-8-2003
عندما غادرت مطار بن جوريون بتل أبيب متجها إلى مطار أورلي بباريس لم يكن في خاطري ساعتها إلا هذه الكلمة: (لن أعود إلى إسرائيل أبدا بعد اليوم).. كنت أنظر إلى الساعة الحائطية المعلقة في غرفة الانتظار وأترقب بشوق صوت المضيفة وهي تدعونا إلى ركوب طائرة العال، حينها نظرت إلى جواز سفري الإسرائيلي للمرة الأخيرة وأخرجت جواز سفري الفرنسي، وعندما أقلعت الطائرة ألقيت نظرة على سواحل تل أبيب الخلابة وأطلقت زفرة طويلة وهمهمت لنفسي: الآن سأعيش حياة جديدة.
كانت هذه أولى كلماته حينما التقيته بأحد مقاهي العاصمة الفرنسية باريس بعد أن عرفني به صديق فرنسي.
اسمه "أيلون حداد"، 30 عاما، وهو يهودي من أصل مغربي.. مزدوج الجنسية فرنسي إسرائيلي ولكنه يصر اليوم على فرنسيته أولا وأخيرا.
وقال حداد في شهادته لشبكة "إسلام أون لاين.نت": "بعد الأشهر القليلة التي قضيتها في إسرائيل أستطيع أن أعرف نفسي بأنني فرنسي من أصول يهودية، ولكني علماني لا أرى أن الدين يمثل لي شيئا ذا بال. كان لا بد أن أعيش التجربة كصهيوني مخلص لأختار فيما بعد وجهتي الحقيقية في الحياة".
وتابع قائلا: البداية كانت بنهاية دراستي الجامعية في كلية السوربون بباريس سنة 2001 ورغم أنني لم أكن من الناشطين في اتحاد الطلبة اليهود بفرنسا فإن أسرتي ومحيطي الاجتماعي جعلا مني يهوديا مخلصا ومحبا لإسرائيل حتى النخاع ومدافعا قويا عن هذا الكيان الذي أحسب أننا كنا كلنا معنيين بحمايته وتوفير شروط دوامه وبقائه.
أغنية (الأمل) أو (هاتكفا) بالعبرية، وهي النشيد الوطني الإسرائيلي، كانت تزيد جلساتنا متعة وإصرارا على الإخلاص لهذا الشعب والوطن الذي عاد من قلب التاريخ بعد ثلاثة آلاف سنة متجاوزا محنا كثيرة ومحرقة الهولوكست بعناد عجيب على البقاء.
طبعا كانت الصورة مثالية جدا في ذهني.. وكانت مسألة الهجرة إلى إسرائيل -التي تعني (عليا) بالعبرية- بالنسبة لي مجرد مسألة وقت.. لذلك لم أتردد حين طرح أحد مسئولي الوكالة اليهودية علينا في جلسة جمعت طلبة حديثي التخرج، مشروع الهجرة، وسجلت اسمي من بين العديدين، غير أن والدي نصحني أن أختار في البداية مشروع الهجرة الوقتية في إطار عمل تطوعي يدوم مدة زمنية محددة وهي التي ستمكنني من اكتشاف المكان كما ستمكنني من اختبار قدرتي على التأقلم.
كان اقتراح والدي جيدا، ولذلك طرحت الأمر على مسئول الوكالة اليهودية الذي عرض علي جملة مقترحات للعمل التطوعي، فرفضت عرض العمل في (يشوف قديد) الديني التابع لفرقة هامزراحي العمالية المتدينة، كما رفضت عرضا آخر للعمل في (يشوف بيت ساده) القريب من مستوطنة غوش قطيف جنوب قطاع غزة.. المهم أني وبحكم عدم انجذابي للانغلاق الديني الذي يتركز في اليشوفات (المدارس الدينية) اخترت التطوع العملي في منظمة نجمة داود الحمراء (ماقن داود أدوم - بالعبرية) التي قال لي عنها مسئول الوكالة: "إنها منظمة إنسانية ذات أهداف نبيلة".
تكلفة الرحلة كما الإقامة لم تكن مشكلة فالوكالة تنهض بأعباء معظم المصاريف، لذلك حزمت حقائبي أوائل شهر يناير 2002 وغادرت فرنسا إلى إسرائيل حيث أدمجت في وحدة العمل التابعة لنجمة داود الحمراء بمدينة الخضيرة شمال تل أبيب (هاكديرا)، وفي المركز الشبابي بالمدينة التي تشرف على المتوسط بدأت دورة تدريبية دامت 9 أيام بدأت بعدها بالعمل في سيارة إسعاف تغطي كل المنطقة الوسطى (ساحل شارون)، كانت أيام هادئة وجميلة قضيتها ليلا بين ملاهي تل أبيب جنوب مدينة الخضيرة وحيفا شمالها حتى أفقت على مسلسل الرعب والجحيم الذي لم ينته.
في الأيام الأولى لاستقراري بالخضيرة وفي بداية أيام التدريب وقعت عملية العرس التي فتح فيها مسلح فلسطيني النار داخل عرس عشية يوم 17-1-2002 والتي أدت إلى مقتل 6 إسرائيليين وجرح عشرات آخرين، طبعا نجمة داود كانت حاضرة، فيما رفض "ميشال" مديري في التدريب أن يروي لي بشاعة الحادثة، وقال لي: ستتعود على مثل هذه الحوادث.
تعددت العمليات التي تقوم بها المنظمات الفلسطينية المسلحة، وانخرطت بدوري في العمل التطوعي مع نجمة داود الحمراء وبدأت في المشاركة بعمليات الإنقاذ التي تتلو كل عملية. لقد أصبح مشهد الجثث والأشلاء أمرا معتادا بالنسبة لي، ومع كل عملية جديدة نهُب لجمع أشلاء الجثث في الأكياس التي تعد لذلك. كانت دوامة رهيبة من العنف وجمع الأشلاء، ومع كل عملية يقوم بها جيش الدفاع الإسرائيلي (التشحال) كنا نستعد بارتداء أزيائنا الحمراء؛ ففي كل لحظة سيصدر لنا نداء بأن ننطلق إلى مكان ما فهناك عملية.
بدأت أشعر بالملل وبالقرف من هذا الجحيم الذي لا يتوقف، وربما كانت عملية نزل بارك بمدينة نتانيا القريبة من الخضيرة بداية التفكير فعليا في مغادرة إسرائيل. يومها جاءنا نداء عاجل، فقد فجر فلسطيني نفسه يوم 27-3-2002 في باحة النزل مخلفا 19 قتيلا وحوالي 120 جريحا حينما كانوا بصدد الاحتفال بعيد السدر. يومها أصابني دوار وسط أشلاء اللحم المحترق، وأعياني البحث عن بقايا الجثث بين أكوام التراب والصخور وتذكرت جملة توراتية تقول "لا جديد تحت الشمس يا أبت ستعاود ما فعلته بالأمس الكل باطل وقبض الريح".
حقيقة كنت أعيش في حلقة مفرغة لا بارقة أمل وراءها وأصبحت أطرح أسئلة تؤرقني: هل اخترت المجيء لإسرائيل لأجمع بقايا الجثث؟ أليس لهذا الليل البهيم من آخر؟
عزمت على الرحيل، وكتبت لوالدي بريدا إلكترونيا قلت له فيه: اليوم عرفت أن اختيارك الهجرة الوقتية تحت عمل تطوعي لفترة معينة كان مصيبا، وربما اختياري للعمل مع نجمة داود الحمراء مصيبا أكثر؛ ففي هذا العمل اكتشفت أن الإسرائيليين يعيشون محرقة حقيقية وأن الحياة هنا لا معنى لها.
وعندما كنت أجمع حقائبي استعدادا للعودة إلى باريس سمعت أن أحد أصدقائي الفرنسيين من الذين جاءوا للتطوع في ياشوف ديني قد لقي حتفه في انفجار قام به انتحاري فلسطيني يقود سيارة اصطدمت بحافلة في منطقة (براد حنا) القريبة من الخضيرة يوم 21-10-2002 وخلفت 14 قتيلا.. وكان هذا الخبر مدعما لاختياري الذي قررته: لن أعود إلى إسرائيل بعد اليوم.