المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تقديرات طالبان .. وصفة للهزيمة



طلال الشمال
16 Nov 2003, 02:07 PM
طبقا للحسابات الرشيدة لموازين القوى، ما كان ينبغي لعاقل أن يتوقع خروج طالبان ظافرة في تصديها للحملة الأمريكية العسكرية ومحالفيها داخل أفغانستان وخارجها،


والواقع أن أحداً من الخبراء والاستراتيجيين لم تساوره الشكوك في تزحزح طالبان عن مواقعها في المدن ولجوئها الى الجبال والأرياف الوعرة من أجل استئناف خبرتها الممتدة في حرب العصابات، بعد أن يطأ الأمريكيون الأرض الأفغانية. بناء على هذا السيناريو المجازي، بدت الحملة وكأنها ستنقسم الى مرحلتين، تكون الغلبة في أولاهما لصالح الائتلاف الأمريكي بفعل ضرباته الجوية القاصمة. فيما تمتد ثانيتهما الى أجل غير معلوم وبنتيجة يصعب تشوفها، عندما تبدأ عمليات الكر والفر، بين طالبان والمتطوعين في صفوفها وبين قوات الائتلاف. وقد استند هذا التصور الى قراءة شبه حرفية لتجربة عهد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان بالدرجة الأولى. لكنه تغذى أيضا على خطاب قيادة حركة طالبان وتوصيفها للمعركة.


وحين تراجعت طالبان عن مدينة مزار الشريف وما جاورها في الشمال، ثارت ظنون الكثيرين، بأن المعطيات القتالية تسير وفقا للمتوقع، وظل هذا الاحتمال قائما لدى هؤلاء حتى بعد أن غادرت قوات الحركة كابول. ولهذا احتاج المتابعون الى بعض الوقت والتأمل، كي ينصرفوا جديا عن ظنونهم وسيناريوهاتهم المسبقة، ويتأكدوا من أنهم بصدد انهيار عمودي لهذه القوات وليس مجرد تراجع تكتيكي. لقد توالت المؤشرات على هذه الحالة بوتيرة مذهلة.. من الانسحابات العاجلة التي خلفت فلولا من الطالبانيين وأنصارهم الذين تعرضوا للسحق والتعذيب والقتل بالجملة، حتى صار عندهم الأسر أهون الشرور، الى التقهقر من مناطق نفوذ الحركة وسلطانها وصولا الى اللوذ بالأرومة القبلية الباشتونية في شريط ضيق لا يزيد على 20 في المئة من مساحة البلاد الى التفاوض على الاستسلام بشروط مهينة!


أصيبت حركة طالبان بحالة من العجز وليس في وضعها الميداني ما يبشر أو يؤذن بحرب الغوار التي وعدت بها. هذا إن كان هناك من يتوقع استمرارية وجودها من الأصل في معادلة الحرب والسلام الأفغانية بعامة!


الحروب إذن لا تتكرر بالاستنساخ وليس من حرب تشبه غيرها الى حد التطابق، فحرب الأمريكيين ضد طالبان ليست كحرب السوفييت - سابقا - ضد أفغانستان. التباينات بين الواقعتين كثيرة وكبيرة، ويبدو أن طالبان وقعت في إسار تحليلات وعمليات محاكاة معيبة، حين ساوت بشكل تلقائي بين مصير الغزوة الأمريكية وسابقتيها البريطانية والروسية.


وينبغي الاعتراف بأن آخرين غير قادة طالبان أخذوا بهذا العيب التحليلي، وراحوا يقيمون عليه صروحا من التصورات التي لم ولن تحدث في الواقع. يقوم هذا الاستنتاج على قراءة بعض التفاصيل التي أفصحت عنها التفاعلات الميدانية وما يفترض أن يتداعى عنها مستقبلا.


لقد اتضح أن سواد الأفغانيين لا يمكن أن يشكلوا بحرا تسبح فيه بأمان قوات طالبان، أو ما تبقى منها، إن هي شرعت في شن غارات ضد الغزاة. ومن المعروف أن توفر البيئة الشعبية العاطفة على قوى المقاومة الحاضنة لرجالها، شرط لا غنى عنه لتأمين هذه القوى من غائلة الاستئصال والتصفية. ويفهم افتقاد هذا الشرط الى حد كبير بالنسبة لطالبان - أقله في أكثر من نصف البلاد - من مظاهر السرور التي عمت بعد انسحابات الحركة، والشعور العام بالارتياح فور زوال سطوتها المباشرة.


لم تظهر جماهير المدن التي غادرتها طالبان أسفا على ذلك. وكان هذا باديا أكثر بين شريحتي النساء والشبان اليافعين، أي بين نصف المجتمع وقوته الفتية معا. إنه موقف احتجاجي وتمردي شبه عام يستحق التأمل والدرس، لاسيما وأن الحركة هيمنت على البلاد خلال السنوات الخمس الماضية.


لكن الذي يعنينا الآن هو أن هذا الغضب الشعبي سوف يؤثر سلبيا على فعالية أي نزوع من هذه الحركة لاستعادة زمام المبادرة.


المؤكد أن طالبان، وهي تبدع وسائل قهر الخاضعين لحكمها، لم تضع في اعتبارها يوما ستحتاج فيه الى حماية هذه الشريحة الواسعة من أبناء الشعب الأفغاني المعذب. ومن الملفت أن قطاعات عريضة من الباشتون، المرجعية القبلية للحركة، أشاحت عنها، وهي تتطلع الى بديل باشتوني منها، تكون قيادته أكثر قبولا بالنسبة لهم وللمعنيين بمستقبل الحكم والسياسة في أفغانستان.


من ناحية أخرى، أضحت طالبان في عزلة اقليمية ودولية مقبضة، بما يقطع باستحالة التعامل معها بالعون والمدد من أي نوع على هذين الصعيدين. وكانت هذه العزلة قائمة قبل الحملة الجارية، فالدول التي تواصلت مع حكومتها دبلوماسيا لم تزد على ثلاثة - السعودية والامارات وباكستان - لكنها باتت الآن بلا نصير يؤمل منه التعاطف على الاطلاق. اللهم إلا اذا استشعرت بعض القوى والتيارات الباكستانية مصلحة لها في ذلك. غير أنه حتى في حالة كهذه، فسوف يظل العون من هذه الجهات محفوفا بالسرية وعرضة للحصار والتصفية في أجل قصير، نظرا للاجماع الدولي والاقليمي على رفض الحركة.


الى ذلك كله، يمكن التشكيك في حدوث تماس ميداني واسع يجعل القوات الأمريكية في متناول يد مغاوير طالبان، مثلما كان الحال إبان الغزو السوفييتي مثلا؟.. فحرب طالبان لن تكون على الأرجح - إن كان لها من فرصة للاستئناف - ضد وجود أمريكي مباشرة. لقد تمت أفغنة الحرب، ولا يقف في الساحة وجها لوجه سوى قوى أفغانية بحتة، وسيظل هذا الحال قائما حتى أشعار آخر. وفي حرب يديرها الأمريكيون وغيرهم بالوكالة، ستقع هذه الحركة فريسة خيارات صعبة. على الاقل لأن خصومها المحليين يعرفون أنماط القتال التي يفترض أن تخوضها. وهم علاوة على ذلك يتفوقون عليها بميزة خطوط الامداد المشرعة عليهم من اتجاهات كثيرة.


لقد تغير كل شئ من حول طالبان، فيما بقى خطابها الداخلي والخارجي الثابت الوحيد في المعادلة الأفغانية شديدة التعقيد. ولاشك أن فشل هذه الحركة في تقديم نموذج سياسي وفكري جذاب، داخليا وخارجيا، هو الذي أهلها للهزيمة من الجولة الأولى.