هل نحن متناقضون بما فيه الكفاية ؟؟
هل تكون دخلت مرحلة الهرم.. يجب أن لا أصدقها دائماً.. وهي من هي .. لا شيء ثابت في هذا الكون .. كل شيء يجري نحو شيء ما .. ينبغي أن أحسب لها أولا .. متى ولدت؟! .. طبعاً لا أعرف ذلك بالضبط .. ومن هي أمها؟! .. كذلك لا أدري .. فقط.. وجدناها ملفوفة في كرتون صغير مقيد في ركن من أركانه بخط ضارب في الصغر .. اسمها .. وعمرها .. وجنسيتها .. وما هي إلا أيام حتى اعتدت عليها .. صرت أرمقها بإعجاب .. أحببتها .. صرت لا أستغني عنها .. عن النظر إليها.. عن حملها معي أينما ذهبت ..
يبدو أن مرحلة الحيوية والنفور قد تلاشت .. وبدأت تدب في أركانها مرحلة جديدة .. إنها مرحلة الكهولة والهرم .. مرحلة الذبول واليبوسة والفوضى .. حشرجة صوتها تشي بذلك .. عودها الرشيق وهو يتهادى مفرغا من كل نشاط .. حتى وصلت بشق الأنفس إلى الثامنة .. الثامنة صباحاً .. ما جلعني أجزم أن أشتري ساعة بدلا منها ..إنها قديمة موغلة في القدم.. حتى أني أكاد لا أذكر السنة التي اشتريتها فيها..
كالعادة نزلة برد تجتاح مفاصلي كسيل عرمرم.. وأيضا كالعادة أحمل معي كيس الأدوية إلى المكتب .. كيس فارغ إلا من مضاد حيوي اسمه (بنامكس) وعلبة بنادول .. نصحني بهما الطبيب ..كنت أنتظر مداهمة الثامنة .. فتحت كيس الأدوية .. كان لزاماً علي أن آكل حبة من المضاد مع حبتين من البنادول .. ولكن ما حصل هو العكس.. التهمت حبتين من المضاد الحيوي وحبة من البنادول.. اتبعتهما بحسوات من الماء .. وما إن تجاوز الدواء الحنجرة.. حتى استدركت الوضع .. تيقنت أني أخطأت في الجرعة.. أمسكت علبة الدواء (بنامكس).. أخذت أقرأ .. ولكن قراءتي لعلبة الدواء نزلت عليّ كماس كهربائي يهزني من الهام إلى الإبهام.. قوة الدواء (500) ملجرام .. وبحسبة سريعة تأكدت أني تناولت (1000)ملجرام ..
الظلام ينزل كالمصيبة أمام ناظري.. الأرض تفقد اتزانها .. تدور عشوائيا.. أحسست أني سأموت .. وثبت من مكاني إلى دورة المياة .. تذكرت قول الإمام ابن القيم أن القيء ينقّي المعدة ويقويها وينبغي أن يستعمله الصحيح في الشهر مرتين متواليتين.. ولكنّ يا للأسف نسيت قوله بوجوب عصب العينين وربط البطن.. جلست (أنجّخ) فمي ..أغرس أصبعي كالمجنون حتى كدت أصل إلى الأمعاء الدقيقة من شدة الخوف ..ومع كل تيار هوائي وصوتي يخرجان من المعدة تجحظ عيناي متوثبتان للقفز والدموع تتراقص فيهما.. بعد أن أصبحتا من الحمرة كالقشطة .. حاولت .. حاولت .. ولكن بؤت بالفشل !!
خرجت بعد أن غسلت وجهي بالماء الفاتر مدارياً آثار معركة دامية مع حبتي الـ (البنامكس).. جلست مستسلماً للمجهول .. تمنيت أن أكون بارعاً في رياضة اليوغا .. رياضة التحكم الواعي في الوظائف اللاإرادية لأنها تحقق لأصحابها القدرة على التحكم في معدل النبض والتنفس والهضم والوظائف الجنسية ونشاط الكلى.. تذكرت بحسرة إن بعض الممارسين المهرة أمكنهم إبطاء ضربات القلب والوصول إلى حالة السكون الكامل، أو خفض درجة حرارتهم إلى ما يطلق عليه (مستوى الموت)، أو إبطاء التنفس بحيث يكتفون بشهيق وزفير واحد كل عدة دقائق، وهم يتحولون إلى حالة شبيهة بحالة البيات الشتوي التي تعمد إليها بعض الحيوانات..
تمنيت أن أتحكم في معدتي كما فعل الأمريكي (هوديني) بطل اليوغا الذي عاش في نهاية القرن التاسع عشر عندما وُضع في صندوق محكم وأغلق عليه بمفتاح من الخارج، ثم قام جمهور المتفرجين الذين حضروا لمشاهدة مهاراته بإلقاء الصندوق في النهر.. تذكرته عندما أبهر الحاضرين.. عندما ظهر بعد دقائق عائماً على سطح الماء.. لقد كان ماهراً في التحكم في عضلات الجهاز الهضمي إرادياً، فكان يبتلع مفتاحاً آخر قبل البدء في التجربة، وعندما يستقر في القاع يمارس قدرته على دفع المفتاح إلى فمه من معدته ثم يفتح الصندوق من الداخل.. تمنيت أن أتحكم في هذه المعدة اليابسة كالزير .. تمنيت أن أجعلها تنقبض تنقبض ثم تنتفض تنتفض ثم تقذف حبتي (البنامكس) مسافة 10كيلومتر ..
فجأة .. اقتحمت علي صورة صديقي الدكتور أبو إسلام الخيال .. اتصلت به بسرعة : ألو دكتور محمود؟! فرد علي أحد أصدقائه : لا والله الدكتور بأقازة ويمكن ييجي بعد شهر ؟! .. شهر ؟؟ شهر تكون الحبة تحللت في ستين داهية .. وربما أكون أنا قد تحللت إلى مالانهاية من الدواهي..
أعوذ بالله من الشيطان !! اتصلت على صديق آخر صيدلي : هاه أبو فلان ..صباح الخير .. وشلونك طيب.. والله الحمد لله بخير .. حاولت أسأل لكن دخلنا بموضوع فرعي ما أدري كيف مسكنا الردمية وأنا أستخدم عبارتين : إيه ..لا .. إيه .. لا .. وكأنّي أرى مفعول الحبتين بدأ يتسلل خارجاً من بوابة المعدة.. والطحال يسأله : الأخ وين رايح؟ فيرد اللعين : والله أبروح أترزق الله بهالجسم الفسيح.. يمكن أمر القلب آخذ عنده فنجال !!
وشوا القلب ؟!!! اسمع يا بوفلان قاطعته لا إرادياً : أنا أخطيت وأكلت حبتين من دواء اسمه (بنامكس) حجم 500 !! في خطورة في شيء؟! فقال بثقة : لا إن شاء الله ما في خطورة !! استرحت قليلاً ولكن ما إن قطعت الاتصال : حتى غزتني الهواجس والظنون .. طيب يمكن الرجال ما هو متأكد .. طيب يمكن أخطأ.. طيب يمكن يمكن الخ الخ الخ.. اتصلت على المستشفى مدفوعاً بالفزع وكأنّي أتخيل الدواء اللعين ممتطيا صهوة الدم .. على بعد سنتيميترات من القلب : ألو وين الطبيب العام ؟!.. فقالت لي الموظفة : لحظة نحولك عليه..
ـ ألو .
ـ ألو السلام عليكم.
ـ وعليكم السلام.
ـ الطبيب ؟
ـ نعم إتفدل.
ـ أنا يا دكتور فلان بن فلان الفلاني اللي أشتغل بالمكان الفلاني جيتك أمس بعد الظهر..كنت لابس ثوب وغترة وعقال مايل جهة اليسار!!
ـ أهلا وسهلا .. أأمر؟
ـ أنا يا دكتور أخطيت وكليت حبتين (بنامكس) قوة 500 يعني كليت 1000 ملجم.. وش أسوي؟؟ ..
طبعاً أحس الدكتور أني مرتبك .. مرعوب .. فقال وكأنه يرش علي الهدوء:
ـ اطمئن يا حبيبي .. متخفش .. المودوع بسيط أوي .. ومافيش أي مشكلة .. بس لازم تاكل كويس عشان ما يحصلش حاجة ..
آآكل كويس ؟؟ بس ؟؟ أبشر .. أبشر من عيوني
ـ شكرا يادكتور !!
أصبحت كأني خلاطة اسمنت أطحن كل ما يقع بين يدي من طعام.. اتصلت على (أم العيال) .. السلام عليكم.. لو سمحتي أكبسي لي دجاجة مع رز مع زبادي مع سلطة مع جرجير.. خرجت بعد الظهر مستأذنا من الدوام .. وما إن ركبت السيارة حتى تخيلت الدركسون (كبسة) .. والسيارات التي تمر بجانبي (دجاجات محمّرة) .. نزلت .. اقتحمت المنزل بعجلة .. وجدت الصحن يتوسط سفرة بلاستيكية متر*متر والدجاجة المحمّرة تقل (وجه ابن فهرة) زلط ملط مستلقية على قفاها وكأنها على شواطئ ولاية ميامي !! وحاولت أن آآكل (كويس) كما قال لي الطبيب .. وزوجتي وأولادي ينظرون إلي بفزع .. حتى إن أحدهم لا يتجرأ أن يمد يده على الصحن .. إذا كانت مخالبي متجهة إلى هناك ..
وما إن أكلت (كويس) كما قال لي الطبيب .. وغادر الخوف آخر ذرة من جسمي.. حتى قلت في نفسي: لماذا كل هذا الخوف من هذه المواد الكيماوية.. سموم فلتكن !! .. لماذا نفزع ونخاف منها .. نسأل عنها بحرص .. نقرأ كل شيء عنها .. نتقيها.. نحاول التخلص منها.. لماذا لا نتعامل مع الحرام بهذه الدرجة من الخوف والحذر والفزع والحرص ـ كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما وقع في جوفه شربة لبن لم يكن يعلم أن مصدرها حرام ؟؟؟ ـ
أليس أكل وشرب الحرام أشد ضرراً وموئلا ؟! قال عليه الصلاة والسلام : ( كل شبر نبت من سحت فالنار أولى به ) !!
