نص رواية طرقة باب. للأستاذ/ سهل الشرعان
القصة الأولى بعنوان مجرد نظرة
القصة الثانية طرقة باب
أما الثالثة فهي بعنوان الحقيقة
أخترت لكم اليوم
القصة الثانية طرقة باب
ملاحظة . الرواية متوفره عند مكتبة ألوان
النص:
تتسارع الأيام بشكل غريب حتى انك تنسى أنك تدور في فلكها . فلا تمتلك من سرعتها الغريبة إلا أن تجاريها لأنك إن لم تفعل فقد يتعداك الزمن وأنت ما تزال في ذهولك !! ومع مجاراتك للزمن – إن سلمنا بأنك قد فعلت – تتراكم أحداث في ذاكرتك وتموت في مقبرة الذاكرة فتظن أنها انتهت وتلاشت في غياهب المجهول. لكنها ما تلبث أن تعاود الظهور فجأة لتجدها قد بُعثت من ثنايا الذاكرة لتتمثل أمامك فجأة بجميع أحاسيسها وتفاصيله كأنها حدثت بالأمس . وهذا ما حدث لي فعلا عندما بدا شريط الأحداث يمر من أمامي معلنا دخولي إلى بوابة الماضي. كانت الشرارة التي قدحت وأضاءت ذلك المكان المجهول في ذاكرتي والذي ظننت أنه تلاشى وانتهى إلى العدم هو ذلك المقال الذي تصدر إحدى صفحات الجريدة التي استقبلني بها ابني محمد لدى عودتي من الجامعة .كان ذلك اليوم بالذات هو الذي يكون جدولي مثقلا بمحاضرات مارثوانية ألقيها بين ثلاث كليات في الجامعة وأحاضر فيها عند غير المختصين مما يعني حضور أجساد أجبرها الخوف من (الحرمان) على التصنم أمامي كأنها تماثيل فرعونية . أخذت الجريدة وأنا أهش في وجه ابني محمد وارتميت على المقعد وفي يدي الجريدة . ربما مكان المقال البارز وعنوانه الغريب هو الذي جعلني أبدأ به. نظرت إلى الاسم فعرفت صاحبة المقال ...وكيف أنسى ....نادية !! ما أن انتهيت من قراءته حتى انزلت الجريدة واسترخيت وأنا أحاول أن أضبط الصور التي بدات تظهر في ذهني تترا بعد أن مكثت هناك ما يقارب عشر سنوات....
لم أنسى تلك الليلة التي كان الطرق على الباب عنيفا . ومما زاد الطين بلة هو أننا لم نتوقع أحد في تلك الليلة حيث أن جميع الزملاء (العزاب ) قد انفضوا بعد أن تصدقت عليهم بعشاء محلي ينسيهم هم الوجبات السريعة التي كانت تزخر بها الولاية التي كنا ندرس فيها. لبست معطفي واتجهت إلى الباب وأنا اسمع زوجتي وقد كانت حاملا بمحمد آنذاك وهي تتعوذ من الشيطان وتطلب مني آخذ الحذر لأن القتل هو النتيجة الحتمية إذا تأكد السارق أن الذي معك أكثر من ثمن الطلقة ..!!
اقتربت من الباب وقد دجج بجميع وسائل السلامة – بناء على أوامر أم محمد -. نظرت من العين السحرية للباب فرأيت ما لم أتوقع أن أتخيل. أعدت النظر لأتأكد فكان ما رأيته في المرة الثانية مطابق للنظرة الأولى فتاة شابة ذات سحنة عربية تميز وجهها بحبة خال توسطت خدها مما جعلها – وإن اغضب هذا الكلام أم محمد- اكثر جمالا وأناقة .
لم أجد بدا من فتح الباب ففتحته وأنا أسمع ام محمد خلفي تقول وهي مبهورة
" ماذا تفعل"
وما أن فتح الباب حتى بادرتني صاحبة حبة الخال
" السلام عليكم"
ربما لهجتها التي تدل على أنها من نفس بلدنا هي التي جعلتني أقول وأنا أزيل السلاسل التي أصرت أم محمد على أن تغل بها الباب
" وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته... تفضلي "
لا ادري لماذا اتجهت عيني إلى محمد وأنا أدعو ضيفتنا للدخول إلى أم محمد والتي رأيتها تتمتم مستغربة
" تفضلي "
أشرت إلى ضيفتنا بالدخول . وما أن رأتها أم محمد حتى أخذتها الدهشة لدرجة أنني خفت أن يحصل لها مكروه فبادرتها وأنا أغمز لها بعيني
" أم محمد ... عندنا ضيفة"
أحسست بالغرابة من هذا للفظ الذي يخرج لأول مرة من فمي . اقتربت أم محمد بهدوء من عقدت الدهشة لسانه مما حدا بي أن أقول ملطفا الجو
" سلمي على الأخت "
نظرت إليها مستفهما . فردت باستحياء
" نادية "
قالت أم محمد بحياء اشد وقد بدا لسانها ينفلت
" حياك الله "
ردت صاحبتنا بابتسامة ودية
" الله يخليك "
قالت بعدها أم محمد ما اكد لي أن الدهشة ما تزال تضرب بأطنابها على تفكيرها :
" سأجهز العصير"
رددت بسرعة بعد ان واقفتها بيدي
" أنا الذي سأجهز العصير "
قالت نادية بصوت متهدج وهي تنظر إلينا
" في الحقيقة أنا .. أنا لا أريد شيئا.. أنا ..أنا " ثم أجهشت بالبكاء بعد أن احتضنت وجهها بكفيها . كان المنظر حزينا وهذا في الحقيقة ما كان ينقص أم محمد مشهد بدايته مرعبة ونهايته حزينة . أخذت أم محمد تحاول التهوين على نادية وهي تبكي معها ... كم هي طيبة أم محمد تحب المشاركة في جميع الأعمال .....حتى في البكاء..!!
لم أرى أفضل من أجهز العصير و أعود وقد هدأ الجميع . وبالفعل عندما عدتُ ومعي العصير كانت ضيفتنا قد تماسكت قليلا . قدمت العصير لأم محمد التي كان أسوا حالا من ضيفتنا . تناولت أم محمد العصير وناولته نادية وهي تعتذر
" المعذرة فهذا ليس الواجب لكن نحن في بلاد لا تعرف الواجب"
هكذا هي أم محمد ، عندما تسيل الدموع من عينيها تسيل الدرر من فمها.
قلت بعد أن هدأ الجووتماسك الجميع :
" والآن هل يمكن أن تحدثينا عن مشكلتك لنرى كيف يمكن أن نساعدك "
حاولت أن تتماسك وقالت بصوت متهدج:
" أنا اسمي نادية وقٌد أرسلني والدي هنا للدراسة "
أكملت أم محمد وهي ما تزال في شاعريتها
" مع زوجك"
ترددت قليلا ثم قالت
" في الحقيقة لا "
" آه أتيت إلى هنا مع أخيك"
" لا . لم يأتي معي أحد "
لم اكن اعرف أن لأم محمد عينان واسعتان إلا في هذه اللحظة فقد اتسعت عيناها واحمر خداها فقالت وهي ما تزال تحاول أن تحافظ على هدوءها
" هل تريدين القول بأن أباك أرسلك إلى هنا... لوحدك "
قالت وهي تنظر إلى الأرض:
" في الحقيقة نعم . ولهذا أنا هنا . لا أعرف كيف أشرح لكم وضعي . لم أشعر بحياتي بمثل هذا الشعور من قبل . كنت قبل أن آتي إلى هنا ادعي الشجاعة أما الآن فإن الخوف يسيطر علي ..بل .. بل .. الرعب .. نعم الرعب هذه أنسب كلمة لحياتي هنا في بلد بدت أشعر أنهم من كوكب آخر ... أنا لا أعرف ماذا أفعل " ثم انفجرت باكية مرة أخرى . لم تشاركها أم محمد البكاء هذه المرة بل لزمت الصمت وقد أخذتها الصدمة إلى عالم آخر . لما رأيت الوضع وصل إلى هذه النقطة قلت لها وأن أحاول أن أبدو هادئا :
" أظن الوقت متأخر لذا يمكننا مناقشة ذلك في الغد إن شاء الله " التفت إلى أم محمد وأنا أقول :
" لماذا لا تجهزين للأخت نادية مكانا تبات فيه"
قالت نادية وهي تمسح الدموع من عينيها:
" أشكركم أنا اسكن في فندق قريب من هنا وسأذهب إليه "
ثارت أم محمد وهي تمثل الأصول العربية :
" فندق ولوحدك ؟! أعوذ بالله . ستسكنين معنا حتى يفرج الله أمرك "
ردت نادية
" شكر لكم . حقيقة لا أعرف كيف أشكركم فقد أزاحت عني هذا الجلسة الكثير من الهموم التي لازمتني في الأيام الماضية حتى أنني فكرت في الانتحار. إلا أنني أشعر الآن بأن أموري تتجه للأحسن خصوصا بوجود أناس مثلكم يشعر المرء بالأمان وهو يعيش بالقرب منهم "
قاطعتها أم محمد وهي ما تزال في ثورتها العربية
" تقصدين معهم "
لو كان هناك جائزة نوبل للكرم لحازت عليها أم محمد بدون منافسة . ردت نادية على هذه الدعوة بقولها مصحوبا بابتسامة
" لا أريد أن ضيق عليكم وأرجو أن تأذنوا لي "
لا ادري لماذا نظرت إلي بعد ذلك ، إلا أنها بعد أن فعلت قلت على الفور :
" أظن الغرفة الشرقية تصلح لأن تكون لضيفتنا . أليس كذلك يا أم محمد "
ردت أم محمد بحزم
" نعم "
كانت هذه هي الضربة القاضية التي جعلت نادية تستسلم وتنقاد طائعة مع أم محمد إلى الغرفة . جلست في غرفتي أفكر فيما حصل حتى دخلت علي أم محمد التي قالت بعد أن أغلقت باب الغرفة
" ليس لهذه البنت إلا واحد من اثنين. زوج أو الديرة "
- يتبع -