تعد خطبة الجمعة وسيلة عالية التأثير في الناس متى ما أحسنت إعداداً وإلقاءً ، وذلك لعدة عوامل من أهمها فطرة الناس الدينية ؛ ومما يساعد على نجاح الخطبة كون الشارع الحكيم جعلها بهذه الصورة الحسنة من كونها مفروضة مرّةً في الأسبوع ، ودعوة الناس إلى السعي إليها والحضور بخشوع ووجوب الإنصات وتحريم الكلام أثنائها ، وحتى ارتفاع الخطيب ، كل ذلك عوامل للنجاح ، إلاّ أن فئة من الخطباء يأبون إلاّ أن يقدموا خطبهم بهذه الصورة الركيكة التي نراها ، مع أن أكثر فئات الناس تأتي إليها ..
ولن أعرض لفئة الخطباء المتميزين المفوّهين – وهم قلّة قليلة – لأني أريد بحديثي هذا الخطباء الذين لم يحققوا الدرجة المطلوبة والتأثير المرجوّ من خطبة الجمعة ..
لهؤلاء أقول لقد وضعتم أنفسكم في مكان كان من الأجدى وانتم لا تحسنونه أن تنزووا عنه لا أن تقتحموه بهذه الصورة المتهالكة التي أصبحنا نعانيها كل ما حضرنا خطبكم الركيكة في نظر المتبصّرين ، والجميلة في نظركم ..
لقد أصبحت فئامٌ من الناس تنظر إلى هذه الخطب على أنها فرضٌ أسبوعيٌّ مجرّد ، وأضحى أفرادٌ كثُر يحسّون بأنَّ هذه الخطب – المجوّفة – أضحت لزاماً عليهم أن يستمعوها كل جمعة مرغمين ..
يعتقد هؤلاء الخطباء – إن جاز لنا تسميتهم بالخطباء – أن الناس منصتون لهم وهم في وادٍ والناس في وادٍ آخر .. مشكلتهم أنهم يظنون أن لديهم لغةً سحريةً تجذب المستمعين وأن عندهم بلاغةً تتضاءل أمامها بلاغات الآخرين ، فإذا ما عجزوا اتكؤوا على جهد غيرهم بنقلٍ سقيم فينقل وهو لا يعي ما ينقل ، وإن أجهد نفسه بكتابة خطبة واحدة كانت المحصلة أنها جاءت ركيكةً ضعيفةً مملّة ..
يعاني هؤلاء الخطباء من فشلٍ في الأسلوب ، وتكلّفٍ في العرض يُعجز أذهان أكثر السامعين ، والحكمة في معالجة القضايا عند هؤلاء غائبة وذلك ناشئٌ عن سطحيّة الفهم لديهم وضيق الأفق وقلّة الفقه ، يظنون أن الخطبة مجال للتبرئة أو الاتهام ويتغافلون – ربما من حيث لا يشعرون – عن الجانب التصحيحي والتوجيه الإرشادي ، ويخوضون في أمور يبسطونها على أنها من المسلّمات ثم يعمدون إلى تعميمها ، يحسّون أن النصوص هي نصوص مجرّدة فقط لا علاقة لها بالواقع ..
هذه الفئة من الخطباء لا يحضّرون خطبهم بما يكفي وربما أطالوا على الحاضرين ، للانعكاسات النفسية في خطبهم نصيب ، بعيدين عن الواقع ، تجدهم متأرجحين بين نظرةٍ مفرطةٍ في التفاؤل ، أو مغرقةٍ في التشاؤم ، لا يعرفون منهج الوسط ، وربما أكالوا الاتهامات من على المنبر لأشخاص وفئات من غير ما تبصّر ، لا يجيدون فنّ عرض الخطبة ، أهملوا إعدادها ، وبالغوا في عرضها وربما خاضوا في مسائل خلافية ليس من الملائم بسطها ، يخرج عامة الناس وما فهموا شيئاً ولا استفادوا ، خطبهم متمارضة أو هي ميتة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة سوى ذلك الإلقاء البارد الذي يجلب النوم للبعض ، أو الصراخ الذي يظنه حماسةً وقوة وهو ليس أكثر من ضجيج متخمُ بالمبالغة ومليء بغرائب القصص ومثخنٌ بالتهويل ..
لغتهم الخطابية جافة ، وربما هي مكسّرة ، لا يقيمونها فضلاً عن عجزهم البلاغي ؛ أفكار خطبهم تفتقد للتركيز ، وعباراتهم مشتّتة ، وأساليبهم لا ترتقي للمستوى المأمول ، ونبرات صوتهم غير ملائمة لما يُلقى .
إنَّ على خطيب الجمعة أن يحس بالمسؤولية الملقاة على عاتقه ، ويشعر بأهمية الخطبة من كونها مجالاً رحباً للبيان والتوجيه والتصحيح ، ولذلك على الخطيب أن يحضّر خطبته بعناية وأمانة ، ويحسن اختيار الموضوع ، ويعتني بمقدمة خطبته وينوّع فيها ويدخل عنصر التشويق أحياناً إليها ، أن يضمنها النصوص الشرعية الصحيحة والمناسبة ، وأن تكون الموضوعات المطروحة لها صلة بالمجتمع وعلاقة بالواقع الذي يعيشه الناس ، يلامس هموم ومشكلات المجتمع ، يفقه الواقع ، فيخطب عن ما يحتاجه الناس ويعايشونه ، مراعياً الأولويات ، لا يتشعّب ، يبتعد عن الطول غير المجدي الذي يجلب السآمة ويخرج بالمستمع عن التركيز فإن من مئنة فقه الرجل قصر خطبته ، ويبتعد عن الحدّة والغلظة في الخطاب ، عليه أن يكون قوي الحجّة ، مستغلاًّ الأحداث في إنضاج وعي الناس ، يأتي بالقصص المناسبة لموضوع الخطبة ويعمد إلى التنويع والسهولة والبلاغة في الأساليب والقوة المنضبطة والتغيير في العرض وطريقة الإلقاء وما يتصل به ، وينوّع من أساليبه وطبقة صوته ، لا يغلو ولا يميّع القضايا بل ينحى جانب الحكمة في العرض ، يهتم بمظهره ، دخوله وخروجه في وقتٍ مناسب ومنضبط قدر الإمكان ، عليه أن يراعي الحال ، وحتى الصلاة يؤديها بطمأنينة بعد أن يسوي الصفوف ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة فقد كان ينتظر اجتماع الناس ويحمد الله وتحمرّ عيناه ويعلو صوته وينتقي جوامع الكلم ، ويخطب بما تقتضيه الحاجة .