دروس من الإسراء والمعراج
بقلم الأستاذ عمر التلمساني
إخوان أون لاين - 20/09/2003
نشرت بمجلة الدعوة العدد (13) رجب 1397هـ، 13 يونيو 1977م
تمر علينا ذكرى الإسراء والمعراج وأمتنا المسلمة لا زالت حيرى.. تتيه وسط ركام من الغفلة والضياع, لذا فهي في حاجة ماسة إلى نهضة إيمانية عالية تعيد لها مجدها وتأخذ بها حقها السليب, فيعلو نجمها الذي أفل.
وأستاذنا الأستاذ/"عمر التلمساني" رحمه الله رجل من رجال الدعوة الإسلامية في عصرها الحديث منذ عرف طريقه إلى الله وهو في جهاد حتى توفاه الله يطوف بنا حول الذكرى، مبينًا ما علينا من واجبات نحو ديننا وأمتنا.
• معجزة الإسراء والمعراج
• من مآثر الإسراء والمعراج
• الصراع بين المادة والروح
• كيف نحتفل بالذكرى
• واجبنا نحو القدس
في يوم من أيام عام الأحزان الذي تُوفي فيه أبوطالب عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كافله في حداثته والحاني عليه في بدء رسالته– وتُوفيت زوجته السيدة خديجة- رضي الله عنها- في يوم من أيام هذا العام الموحش الحزين، أراد الله جلت قدرته أن يخفف عن حبيبه محمد- صلى الله عليه وسلم- ما ألم بساحته من حزن، وأن يمسح بيد الرحمة على صدره.
في هدأة الليل وسكونه، سطعت أنوار نفحات الرحمة الإلهية، وتفتحت أبواب تجليات العلي القدير، وهبط أمين الوحي جبريل- عليه السلام- وأخذ بيد سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- على صورة ليس من شأني معرفة كنهها؛ لأنها حصلت وأنا أومن بحصولها- أخذه بيده عليه السلام مُيممًا بيت المقدس وصاعدًا به إلى السموات العُلى، حتى بلغا مستوى سَمِعَا فيه صريف الأقلام، فأحجم جبريل وتقدم سيدنا محمد- عليه أفضل الصلاة والسلام، حتى ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم: 9،8) كيف؟ لا أدري وإن كنت بذلك مؤمنًا موقنًا، فالكيفية المغيبة لا تغير من حقيقة رسخت في القلب، وأصبحت وخفقانه إلى أسمعها وأحس بها سواء بسواء.
هنالك التقى الحبيب بالمحبوب وسعد الطالب بمناجاة المطلوب، وفاضت منح التجليات الإلهية، والفيوضات الربانية، وأعد السمع البشري لتلقي الأمر الإلهي بما ليس في قدرة مخلوق أن يصفه أو يتصوره ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾ (النجم: من الآية10 إلى 12).
http://server/Data/2003/5/17/Omr%20telmsani.jpg
أ. عمر التلمساني
هذا هو مدى علمي وثقتي ويقيني بحادث الإسراء والمعراج، والخوض في ذلك لا يزيد من الإيمان، ولا ينقص من اليقين، أما الذي يعنيني حقًا- ويجب أن يعني كل محب لدينه- هو ما أفاضته هذه المعجزة من خير وقيم على الإنسان الذي لم ينج من الخسران، إلا من آمن وعمل صالحًا وتواصى بالحق وتواصى بالصبر.
أُسري برسول الله- صلى الله عليه وسلم- حيث صلى إمامًا بجميع الأنبياء والمرسلين- عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام- ثم عرج به إلى السموات العُلى فنال هناك ما نال, وسعد ما سعد، وناجى وشهد، وقرب واقترب، ثم عاد إلى الأرض، بعد كل هذا التشريف له.. هل غير ذلك شيئًا من تواضعه؟ أبدًا، وظل- صلى الله عليه وسلم- كما هو، الوفي الهين اللين حامي الأخلاق، شعاره "هون عليك"، فهل لمن نال مكانة منا، أو حظى بمرتبة، أن يظل من حُسن الخلق والتواضع حيث هو؟ أرجو وآمل، إن النبيل لا يزداد على نباهة الذكر، وعلو الشأن إلا إيناسًا ولطفًا ورقة ورحمة وتواضعًا.
من مآثر الإسراء والمعراج اختبار صدق المؤمن، وتمحيص يقينه، وامتحان وثبوت العقيدة في وجدانه، فالإسراء والمعراج حدثٌ فوق مستوى القدرة البشرية، وفوق قُوى العقل الإنساني، ولكن المؤمن الصادق الإيمان لا يزعزع من يقينه أخطر الأحداث ولا أبعدها أثرًا في الحياة، ولما طرق سمع الناس خبر هذه المعجزة، راحوا بين موقن ومتشكك وساخر ومنكر، حتى قال أحدهم لأبي بكر- رضي الله عنه- ألم تسمع أن صاحبك يقول: أنه أُسري به إلى بيت المقدس، ومن هناك عرج به إلى السماء، وعاد قبل أن يبرد مكانه من فراشه؟! فكان جواب المؤمن الواثق الوفي: لئن قال ذلك فقد صدق، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (البقرة: 143).
ونحن مسلمون وقد وعدنا الله النصر في الدنيا ويوم يقود الأشهاد ونتلفت حولنا، فنرانا أسوأ الناس حالاً في جميع بقاع الأرض، في كل ناحية من نواحي الحياة العامة والخاصة، فنتساءل أين نصر الله الموعود؟! وقبل أن نسأل هذا السؤال كان لزامًا علينا أن نسأل أنفسنا أنحن المؤمنون قولاً وعملاً حتى يتحقق فينا نصر الله؟! فإن صدقنا أنفسنا، لأيقنا أن وعد الله حق، ولكننا نحن الذين أخرنا تحقيق هذا الوعد الصادق، بما نحن عليه من تراخ، وإهمال وتعويق وانصراف، ويوم أن نكون مؤمنين حقًا فلسنا في حاجة إلى سؤال، لأن نصر الله سيأتي طواعية من غير شك وعلى غير انتظار ﴿إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ (محمد:7).
ما من شك أن الإسراء والمعراج حدث، وحدث غاية في الروعة والإعجاز، لا من ناحية قدرة الله سبحانه وتعالي، فذاك مقام لا يعجزه شيء مما يخطر على بال بشر أو لا يخطر، ولكنه حدث يبين للحضارة الجبارة التي نحياها ونعاصرها، أن الإنسان قديمًا جاوزت سرعته سرعة الضوء، وتخطت طاقته قوة الجاذبية فخرج من نطاقها سالمًا سويًا، فتجاوز ما هو في علم البشر حتى اليوم.
ولو أن علماء المسلمين واصلوا البحوث والدراسات التي قدمها لهم أوائلهم في علوم الحساب والجبر والهندسة والفلك والطب والكيمياء والآلات الدقيقة، ولو أنهم ساروا على دأبهم ونهجهم، لو أنهم فعلوا ذلك- وكان واجبًا عليه أن يفعلوه- لكننا اليوم نحن أصحاب سفن الفضاء ومفجرو الذرة، ولكنهم قعدوا فتخلفوا وخلفوا ولكنهم غفلت هممهم فغادرتهم السيادة، ولكنهم شغلوا بغير ما يجب عليهم فأفلتت من بين أصابعهم القيادة.
أعطيت ملكًا فلم أحسن سياسته*** كذلك من لا يوسوس الملك يخلعه
إن معجزة الإسراء والمعراج تؤكد لنا، أن عنصري تكوين البشر المادة والروح في صراع لا يتوقف ولا يتخلف، المادة تريد أن تهوى به إلى الطين، والروح تحاول أن تسمو به إلى مصدرها، فإن انتصرت المادة، قُضي على كل الفضائل والمثل، ومن هنا تعين مقاومة النزوات الرخيصة، بكل ما أمدنا الله به من حزم وعزم، والزهد عن كل ما يباعد بيننا وبين ربنا والتزام كل ما يربطنا بتوجيهات السماء، فإن حرصنا على ذلك وعملنا له، أتانا الفوز، وتجنبنا الضياع.
قد تكون الحرب ضروسًا مضنية- ولابد أن تكون كذلك- تستوجب الكثير من الصلابة والعناد في مقاومة الغرائز والهوى، ولكن النتيجة المسعدة حسًا ومعي ستكون حقًا غريزة الجني، دانية المنال، وإذا ما ألقت النفس الكفاح والصبر من أجل الوصول إلى الخير، فستجد في ذلك من راحة القلب، ما يفتقده الكثيرون من صرعى الأهواء ونوازع النفس الرخيصة وتزيين الشياطين.
إن معجزة الإسراء والمعراج التي حدثت منذ أربعة عشر قرنًا تقريبًا أثبتت بشكل لا يقبل الشك، أن في مكنة الإنسان- معانًا من الله- أن يغزو الفضاء بلا آلة ولا سفينة، وأثبتت أن قوى الكون كلها مسخرة لخدمته ومنفتعة ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ (الجاثية:13) فدوره في هذه الحياة أن يستغل هذه القوى عن طريق العلم والبحث والتفكير القائم على الإيمان الصحيح.
قد يعجز البعض عن الإيمان بهذا الحديث فكريًا، بيد أن الحقائق العلمية التي نعاصرها اليوم، وتسلسلها مترابطة عامًا بعد عام لا تؤدي إلا إلى التصديق الراسخ، بكل شيء تحدث عنه رب العالمين وإلا كان جل جلاله في غنى عن ذلك فهو رب وإله أمن الناس أم لم يؤمنوا ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف:29) الله خلق العقل في الإنسان، وهذه حقيقة، هذا العقل المصنوع بعلم الله وحكمته وخبرته، وصل إلى حدٍ من الذكاء تمكن معه من اختراق الفضاء بالآلات التي هداه إليها إعمال هذا العقل في ميادين العلم والاستنباط والابتكار، ألا يستطيع صانع هذا العقل أن يصل إلى أبعد وأدق وأعجب مما وصل إليه هذا العقل الذي هو خلقه وصنعته؟! ففيم الحيرة وفيم العجب؟ وفيم الاستحالة وفيم الشك والتشكيك؟!.
إن كل ما حل بنا من نكبات، وكل ما هُوينا إليه من انحطاط وتأخر وضعف، كان نتيجةً لابد من الوصول إليها، بسبب ما أصابنا من خلل في العقيدة، جريًا وراء ما نقرأ وندرس من آراء ونظريات، لا تقوى على الوقوف أمام التفكير الهادئ البسيط السليم، ولكنها فرضت علينا فرضًا، لقد جربنا وجرب العالم كله هذا التخبط فسالت دماء البشر تصبغ وجه الأرض بالأحزان والويلات والنكبات الموجعة المضنية المرهقة، فما لنا لا نرجع إلى تعاليم ديننا، وخاصةً أنه قد ثبتت فوائد التجريب من الناحية العلمية التي نفتتن بها.
لعلكم تروني قد بعدت شيئًا عن المعجزة التي نحتفل بها، ولكنني كما قلت لا يعنيني الاحتفال بها في السرادقات وتحت الأنوار، وفي وسط الجموع، فكل هذا لا يقدم ولا يؤخر في قدر المعجزة، أما أننا نتعظ ونعتبر ونعمل، لنخرج من الضعف إلى القوة، ومن التأخير إلى التقدم، ومن الانحطاط إلى الارتفاع ومن الذلة إلى العزة، فهذا هو الذي يعنيني حقًا، ويحببني في الكلام، وهذا هو حقًا الاحتفال بهذه المعجزة، وهذا هو اليقين الذي يجب أن نعيش فيه.