[ 14 ] - عذرا يبدو أنه سقط سهوا أثناء عد الفصول وقت التعريف بالرواية -
[align=center].
.
.
.
... أحــلام .. .[/align]
كان يقول لها – أيام كانا يلقيان – إنني أستطيع أن أشم رائحتك وأميزها من بين ألف فتاة في الظلام ! وكان هذا يسرها ويستخفها ، فتحاول أن تخفي سرورها وخفتها بالتهكم وبالدعابة ، فتقول : (( إن حاسة الشم قوية جداً عند بعض المخلوقات )) فيضربها على يدها ويتضاحكان .
***
ولم يدر في ذات يوم – وهو يسير في شارع سليمان باشا نحو شارع فؤاد – ما الذي جعل هذه الذكرى تقفز إلى خاطره بعد اعوام ..
ولكنه يدري أنه اندفع على الأثر يشق زحام الخارجين من السينما القريبة وهو يفتش في الزحام عن شيء لا يتبينه في ذهنه على وجه التحقيق .. ثم كانت المفاجأة عندما استدار احد هذه الوجوه ، وحين نظرت إليه – كما نظر إليها – وفمها مفغور وحدقتاها متسعتان ، وهي تقول في دهشة :
= اوه .. أهذا أنت يا سامي !
قال في ابتسامة بلهاء :
= نعم أنا !
ومدت إليه يدها في اندفاع وصافحته بحرارة ، وهو مستسلم لا يكاد يحرك أصابعه ، وحانت منها التفاتة خاطفة إلى أصابعه في كفها فراحت تقول :
= ألا تزال وحيداً كما أنت ؟
قال :
= هذا لا يهم على كل حال .. وأنت ؟
ثم التفت إلى الطفل الصغير الذي يمسك بطرف ثوبها وينط وهو يسير بخطوات قافزة صغيرة ، وقال :
= أهذا ابنك ؟
قالت :
= نعم !
وقبل أن تنطق لفظتها كان قد انحنى على الطفل فرفعه بين يديه وتفرس في وجهه ، ثم أهوى عليه بقبلة في أنس وألفة ، وفي حنان ولهفة .. إنه يعرف هذا الوجه ، يعرفه جيدا ، وإن لم يكن رآه قبل الآن
وتابع حديثه معها :
= أهو وحيد ؟
قالت :
= نعم لم يأت سواه
وما اسمه ؟
قالت : ( سمير )
كاد يصيح من الدهشة ولكنه تماسك ، وتظاهر بالسكون ورددت شفتاه في شبه همس :
= سمير ؟ غريبة !
قالت :
= أليس هو هذا اسمك المختار
قال :
= أي نعم ، ولكن ....
ثم نظر إليها فإذا هي تنكس بصرها ، وتبدو في عينيها ظلال معركة ، فماتت على شفتيه الكلمات ، ومد يده فأخذ بيد الطفل الأخرى .. وساروا ثلاثتهم ، لا يشك أحد ممن يراهم في أنهم طفل ووالدان .
***
كان قد جرب مرة ومرة – في أيام الفراغ – أن بعض الوجوه تلفته إليها . ثم كشف مرة أن في كل وجه يلفته شبها قريبا أو بعيدا بالوجه الخالد في ضميره ، فعرف سر هذا الالتفات !
وكان قد استيقظ لنفسه وميوله ، فعرف أنه يحب من الألوان ما رآه يوما عليها ، ويحب من السمات ما يقرب من سماتها ، ويحب من الطرقات ما سارت مرة فيه ، ويحب من الأماكن ما التقيا مرة هناك ، فآمن أنه مقيد مقود ، وأنه لا يستطيع أن يتجه إلى وجه جديد .
ولم يحاول في أول الأمر أن يعرف من اخبارها شيئاً ، فاللقاء الأخير كان ينذر بالنهاية الأخيرة . وكان يرى في اهتمامه بها بعد ذلك نوعا من الضعف يستكبر عليه ولا يرضاه .
ثم انقضت فترة أخرى ، فانقلب هذا الشعور ، وبات ملهوفا على خبر من أخبارها ، أو أثر من آثارها ، وكم مرة بعد مرة دافعته يده إلى القلم ليكتب إليها أو لأحد من أهلها .
ولكنه كان يمسك نفسه من تلبيه هذا الخطر الداهم حتى يثوب إليه هدوؤه ، وحتى تذهب عنه سورته ، فبسكن إلى أن يعتاده هذا الخاطر بعد أيام .
ثم انقضت هذه الفترة أيضاً . وعاد لا يريد أن يعلم من أخبارها شيئاً ، لا لأنه لا يريد أن يعلم ، ولا لأنه يستكبر على أن يعلم ، ولكن لأنه يشفق من شيء يتوقعه . ولا يتصور كيف يكون وقعه على نفسه إذا كان !
وكان له في كل يوم لقاء معها ، ولكن في الخيال ، وحوار يدور بينهما ، ولكن في الخيال . وكثيرا ما استيقظ لنفسه ، وهو يبسم أو يتجهم ، ويشير بيديه وقسماته ، بينما هو منفرد في البيت أو في الطريق !
كان يحس أنها له وحده ، ولا يمكن أن تكون لأحد سواه . وكان يشعر أنها اعطته وحده مالا تستطيع أن تعطيه أحدا سواه . وكان يتصور أنه ترك عليها ظله فلم تعد تصلح لأحد سواه . وكان يعتقد أنها ملكه وحده ، ولو لم يكونا رفيقي حياة ,
لقد بنى في أحلامه عشها المنتظر ، ولقد مضى بخياله يطوي الأيام ، ولقد عاش في هذه الأحلام عيشة الواقع ، واستغرق في هذا الخيال حتى لم يعد يفرق بينه وبين الحقيقة !
وما الفرق بين الخيال والواقع ، إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ، ويترك آثاره في النفس والحياة ؟
وما الفرق بين الحلم والحقيقة ، وكلاهما طيف عابر ، يلقي ظله على النفس ثم يختفي منه من عالم الحس بعد لحظات ؟
على أية حال ، لقد عاش أحلامه ، وجسم خياله ، فكانت هذه المخلوقة رفيقة حياته ، ومعها عاش في العش الدافئ ، ومنها بلا شك كان له طفل !
طفل وحيد .... فما كان يتصور أن تلد له أكثر من طفل واسمه (( سمير )) ، فما كان يتصور أن يكون اسمه غير سمير . وهو طفل من لحم ودم ، حدثها عن شكله وسمته ، فهو طفل معروف السحنة واضح السمات !
هو سمير .. هذا بعينه الذي يراه الآن !
***
مر هذا الشريط كله في ذهنه ، وهما يدلفان إلى محطة الترام ، في غير انتباه . وجاء الترام ، فصعدت إليه في حركة آلية ، وهو يساعدها ، ويُصعد إليها (( سمير ))
وعندما تحرك الترام أدركته صحوة مفاجئة ، ونظر فإذا هي كذلك تلوح له بمنديلها ، ثم تجفف به قطرات من الدموع !
وفيما يشبه الذهول وجد نفسه يعدو خلف الترام .. ثم ثقف فجأة كأنما سمر في مكانه :
= ماذا ؟ إلى أين ؟ إنها ليست لك الآن ! إنها ذاهبة إلى هناك !
وأحس بالدوار ..
ولكنه أفاق :
= سمير ؟ غريبة ! ... أليس هذا هو اسمك المختار ؟
= كلا ! إنها لك . لك أنت وحدك برغم كل ما كان . لقد ألقيت عليها ظلك ، لقد طبعتها بطابعك ، لقد وسمت طفلها باسمك الذي اخترته ، إنها لك ، ولن تصلح لحد سواك !
= أحلام !
= أحلام ؟ وما الفرق بين الحلم والحقيقة إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ويترك آثاره في النفس والحياة ؟
= خيالات !
= خيالات ! وما الفرق بين الخيال والواقع ، وكلاهما طيف عابر يلقي ظله على النفس ثم يختفي من عالم الحس بعد لحظات ؟ .............
.