)
أي بُني:

حســنٌ أن يذكِّـر العبد نفسه الموت، وأن يكثر من ذكره

في نفسه، لكن خيرٌ من ذلك أن يتعلَّم العلم الذي إذا انتهى أجله، يكون قد انتهى إليه، وهو على حيطةٍ يعرف بها حقَّ الموت عليه، إذ الموت لحظة سريعة، لا يطول وقوف المرءِ عندها، وهو في حاجةٍ دائمةٍ ما دام حيَّاً أن يعرف حقَّ الحياة عليه، وأنها رحلةٌ يجب أن يدأب فيها على الاستعداد لتلك اللحظة السريعة الخاطفة، وهي التي يجتمع فيها أمر الإنسان كلُّه، فيرى منها مكانه، فأحسن لنفسك أي بُني، أن تكون عارفاً قدر نفسك، ثم أن تحيط علماً بما تحسن فتأتيه من قبل أن يفوتك، وما لا تحسن فتصرفه عنك بودع أسبابه واجتنابها.

(23)

أي بُني:

اعلم أن أهل القرآن هم أهل صُفَّة الرحمن، ينَعِّمهم الله فيها بالنظر إليهم غدوَّاً وعشيَّاً وحين يظهرون، فمن نازعهم فيها ليخرجهم منها، سلَّط الله عليه من لا يتَقيه فيه فيرديه، وما زال الناس في خيرٍ ما قدَّموا أهل القرآن، فلما أخَّروهم أخَّرهم الله ، وأحلَّهم دار الهوان، فهل لهم أن ينجوا أنفسهم بكرامة أهل القرآن؟! فأهل القرآن هم أهل كرامة الرحمن.

(24)

أي بُني:

اعلم: أن الناس لا ينتقصون بالموت، بل بانتقاصهم في دينهم، والانتقاص في الدين لا يكون حين يأتي عليه كلِّه، بل يكون حين يبدأُ، والعاقل من يدَّاركُ دينه من قبل أن يكون انتقاص، فالله قد حفظ لنا الدين، فلا يكون منَّأ حيف عليه على غير ما أراد الله له سبحانه له، وانتقاص الدين كالدَّاءِ، يبدأُ قليلاً، ثم يتكاثر بإهماله، حتى يغرق من يصيبه، فيرى المنكر معروفاً، وغير مستنكر ولا مستبشع، ثم لينظر الأول ما كان من أمره بصبره على الانتقاص، وتركه يغدو ويروح فيه، من ظنٍّ حسن في نفسه، أنَّه لا يؤْذي غيره بانتقاصه الدين وصبره عليه، وغاب عنه أنَّ الشر لا يستطير إلا من البداية.

(25)

أي بُني:

اعلم أن الكبر لبوس السفهاءِ، يعرفون به فيجتنبهم العقلاءُ، والتواضع لبوس العقلاءِ، يعرفون به، فيصلح الله بهم السفهاء، وما رأيت متكبراً إلا والشر أقرب وأحبُّ إليه من الخير، وما رأيت متواضعاً إلا والخير أقرب وأحبُّ إليه من الشر، والكبر لا يليق إلا بالأراذل الجهلاء، والتواضع لا يليق إلا بالنبلاء الشرفاء، وما عرفت متواضعاً إلا والناس مجمعون على حبِّه ولو كان فاسقاً، وما عرفت متكبراً إلا والناس مجمعون على بغضه ولو كان فيما يبدو للناس تقيَّاً صالحاً، فكن من الكبر على حذر، ولا تعزف نفسك عن تواضع، فتصيبك ندامةٌ باغتةٌ جاسية.

(26)

أي بُني:

ما -وا÷- رأيت أمنع للعلم من العربية، ولا أصون له من الإخلاص، ولا أمتع به من العمل، ولا أبقى له من المدارسة، ولا أروح للنفس فيه من استحضار مسائله، ولا أشوق للتزوُّد به من رؤْية آثاره في الناس، والأرفع في الناس قدراً من أهله، ولا أجمع للخير من الإقبال والحرص عليه، ولا أضلَّ ممن يتَّخذ إليه سبيلاً غير سبيله، وأيسر سبيل إليه أن تصونه بالإخلاص والعمل، وإياك أن تهجر بقولٍ فلربما كان به غصَّة، إذاً: فليس خيراً من أن تضع طرف لسانك على لهاتك، فإن تقضي مُمسكاً عليك لسانك، خير من أن تموت وأنت تحركه بكلمة تؤْذي به إخوانك. واعلم -رعاك ا÷- أن العاقل من يعرف مواقع عقله ولسانه، فلا يقع على واحد منها إلا وهو آمن على عقله أن يغتال، وعلى لسانه أن يقطع.

(27)

أي بُني:

اعلم: أن العالم هو الذي يعلم المسألة من مسائل العلم، فيكون عقله حافظاً لها، ولسانه قائلاً بها، وجوارحه عاملةٌ بها، وسمته داعياً لها. واعلم: أن الفقيه ليس هو بالذي يحفظ النصوص، فكم من حافظ لها هو أجهل الناس، لكن الفقيه هو الذي يستخرج منها الأحكام والفوائد، وهي معروضةٌ أمام عقله وناظريه، يأخذ منها للناس أكثر مما يأخذ الناس منها، فإن وافق الحقَّ وأصابه فذاك، وإلا فقد أوفر لنفسه أجراً عند ربه سبحانه.

(28)

أي بُني:

اعلم أن اللسان أمةٌ وافرةُ العَدَد، كثيرة العُدَد، يشرف بها

إمامُها وهو العقل، ويعزُّ بها اللائذ بها وهو العييُّ، ويسمو بها دانيها وهو الحائر، وينجو بها حسيرُها وهو المتأخِّر، ويشتد بها ضعيفها وهو الحَييُّ، فانظر أي بُني أعزك الله ، من تكون في أُمة اللسان، ومن ستكون مع من أسلمته قيادك. واعلم رعاك الله أن الصبر والجزع طرفان يفصل بينهما حاجزٌ، فإلى أيهما كنت فقد سقط الحاجز، لكن إن كنت إلى الجزع أدنى، فاستذكر قول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب}. وإن كنت إلى الصبر أقرب والجزع -منك حينئذٍ- كفٌّ ممسكةٌ بعنان الصبر، فهو نعمة أفاءَ الله بها عليك وجمَّلك بها.

واعلم يا رعاك الله ، أن أصدق الشوق وأصفاه وألذَّه ما يُفرح بالقرب، ويُحزن بالبعد، واعلم أن النجاح معقودٌ بأربعة: الإخلاص في التصور، والأمانة في الأداءِ، والإتقان في العمل، وإيثار أمر الجماعة على أمر الفرد.

(29)

أي بُني:

اتخذ الصبر درعاً تقيك، وتدفع عنك أذى مبغضيك، فإن أرادك أحدٌ بسوءٍ، فبسط به يده إليك لم يصل إلى عبوس فيك، وإن أرادك أحدٌ بخير فلم ينفذ إليه، فاحسنْ إليه بأحسنَ مما كان سينالك منه لو كان له نفاذ إليه، ولا تجعل يدك مغلولةً عن معروفٍ مهما صغر، وإياكَ أن تجعل من إساءَةِ من أحسنت إليه حائلاً بينك وبين تضعيف الإحسان إليه، واعلم أي بُني أن النادم على معروفٍ يبذله لا يستأْهل حتى أن يكون حاضراً في قلبه فيذكره، والنَّاسي أنه صانع معروف هو أهله الذي يردُّ إليه عند الحاجة إليه.

(30)

أي بُني:

اعلم أنَّ الجعلان لا تعيش إلا في السباطات، ولا تكبر وتنمو إلا في القاذورات والنتن، وأن النَّحل لا تحط إلا على الأزهار والورود، فكن مع النحل في البحث عن رحيق الزهر، وإياك أن تُمِرَّ ذِهْنَك بالجعلان، والتمس لأهل الحق والصدق عذراً باساءَتهم إليك، وأما أهل السَّفاهة وظعائن الأهواءِ، فأحسن ما يكون لك الإعراض عنهم، ونبذهم من وراءِ ظهرك، ولا تمنن على نفسك بأنك صبرت على الأذى والقذى، فلرب يومٍ يمر بك ترى أنك في حاجة إلى من يصبر عليك، كحاجتك إلى الهواءِ إذ يضيق بك صدرك أو كحاجتك إلى الماءِ حين يشتد بك الظمأ، أو كحاجتك إلى رغيف الخبز حين يستبدُّ بك الجوع.

(31)

أي بُني:

إن كنت عاقلاً، فلا تجعل في نفسك فرقاً بين من عظمت جثَّته بأكلٍ وشربٍ وكبر مقطَّع، وبين بعوضةٍ عظُم جرمها بمص الدماءِ.

وليس في الناس أسوأ ممن يرى في صنيعك الخير معروفاً، غيرك أحق بأن يكافأ عليه، فإذا سألته: لماذا كان منك هذا، قال: لئلا يفوتني خير أرجوه منه، ونسي المسكين أنه قد لا يأتيه معروف إلا ممن أسلف له المعروف، وكن دائماً باسطاً يدك به، ولا تعجل على نفسك بالملالة، فإن قطار الموت دائب الحركة والسفر، فلعلك تصعد إليه في سفر لا تؤوب منه، واذكر نعمة الله عليك، إذ كنت فقيراً فأغناك الله ، وكنت ضعيفاً فقوَّاك الله ، وكنت محروماً فأعطاك الله ، فإياك إياك أي بُني والبخل عن نفسك، وتصدَّق بالمعروف على من هو أهلٌ، وعلى من ليس بأهل، فإن وافق معروفُك أهلَه فهو أهلُه، وإلا فأنت أهله وأهلُه وأهلُه.

(32)

وما ضرَّك أي بُني لو أنَّ طائفاً من نفسك يبقى طائفاً بك يقول لك: أن يُقال إنك جاهلٌ والحق منك قريب خيرٌ من أن يقال: إنك عالم، والحق عنك بعيد، والنفس الكسيرة بالحقِّ خيرٌ من النفس المتيبِّسة بالباطل.

وإياك أي بُني أن ترمي بسهمك إلا في حلق صيد يكافِئُه، فإن اخطأت أو نسيت، فأنالك بخطئك أو بنسيانك صيداً غير مكافئٍ فدعه، طيِّبةً به نفسك للمهازيل، المبلَّلة ألسنتهم بلعابِ الأطماع الرخيصة.

ولا تغذُ نفسك بعسلٍ إلا أن يكون من رؤُوس الشامخات الراسيات، ولا تشرب الماءَ إلا من أثداءِ المزن المعصرات العاليات، ولا تبحث عن علف فرسك إلا في طلع أشجار النخيل الباسقات.

(33)

أي بُني:

إن أردت أن تعرف أين تكون أنت من كلماتي هذه التي جمعت لك حروفها، وأبنت لك عن فحواها، ووضعتها أمام عينيك تقرؤُها وتتملاَّها، فاعلم يا رعاك ا÷: أن الكلمة أصبحت حبيسةً أسيرة نفسها، وقد آثرت ذلك لا -رغبة منها واختياراً، فما من شيء في الدنيا إلا وهو يحب الحرية والانطلاق بها- بل للعجز الذي حطَّ عليها، من قلمٍ مثلومٍ بخط حروفها، أو لسانٍ عييٍّ لا يحسن النطق بها، أو فكرٍ قاصرٍ عاثرٍ يعجز عن الإبانة عن صورتها، فأين إذاً ستذهب الكلمة على مثل عجزها هذا، لو قُدِّر لها أن تكسر قيدها، لكي تنطلق، وتمشي حرَّة ملءَ عطفيها رجاءٌ أن يكون لها حياة تزهو بها نطقاً باللسان، وكتابةً بالقلم، وتفكراً بالعقل.

(34)

أي بُني:

لا أحسبك إلا أنك تحبُّ أن تتحلَّى بأجمل حلية كان يحلِّي بها رسول الله× عنقه، فيزداد بها جمالاً على جمال، وبهاءً على بهاء، وسناءً يرقى به فوق الخلائق، إن كنت تحب، فاعلم أنها الصبر، فما يكادُ أحد يُلمُّ بطرف من سيرته عليه الصلاة والسلام -وبخاصةٍ ما كان منها في العهد المكي- إلا وتطالعه حروف الصبر مرقومةً أينما يوجِّه بصره، تخبره بكلِّ ما تشكل من كلمات متفرقة ومجموعة، أن الصبر هو العدَّة المنيعة، التي كان الرسول عليه السلام يتقي بها البلاءَ، وهو يحمل أعباءَ الرسالة، يبلغها الناس، ويدعوهم إليها، وينشئُ في صدورهم قدسيَّة التكاليف التي خاطبهم الله بها، قولاً وعملاً، عقيدةً وتصوراً، أدباً وفضيلةً أمراً ونهياً، يقف بهم على جادَّة القصد في غير عناءٍ ولا حرج، لكأنَّما الأعمال والأقوال جاءَت من كل آفاق الحياة، لتقول بملء فمها، لكل من يعقلها، معانيَ حاضرةً في النفس، وأعمالاً تشهد بها الجوارح، في نوم وفي يقظة.

ليس من الحكمة في شيء إن أتاك نبأ سوءٍ أن تعجل لاستجلائه، إلا أن يكون في وسعك صرفه والتخفيف من ضرائه، أما إن كان غير ذلك فخذ نفسك بقوله عليه السلام: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.