الميزان الرباني
التقوى هي الميزان الرباني، والمقياس الإلهي، والمنظار الشرعي، الذي

ينبغي أن نزن الناس ونقيسهم به، وننظر إليهم من خلاله يقول الله

عزوجل : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وأخبر النبي صلى الله عليه

وسلم أنه لافضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على عجمي إلا بالتقوى

، بل قال عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن أكرم الناس ، قال : ( أتقاهم لله ) .
والناس مختلفون في المعايير ، والمواصفات التي يزنون الناس بها ،

وينظرون إليهم من خلالها، فمنهم من يزن الناس بأحسابهم وأنسابهم ،

ومنهم من يزن الناس بغناهم وكثرة أموالهم ، ومنهم من يزن الناس

بصورهم وجمالهم ، وهذه الموازين لاشك أنها خاطئة ، وليس واحد

منها جديراً بأن يكون ميزاناً يوزن الناس به .

أما الأحساب والأنساب فلو كانت ميزاناً صحيحاً، ومقياساً سليماً ، لكان

لزاماً علينا إذن أن نحترم أبالهب ، وأباجهل ، وغيرهما من المشركين

ممن كان ينتسب إلى قبيلة قريش ، أو غيرها من القبائل المشهورة

المعروفة ، وأبولهب هو عم النبي صلى الله عليه وسلم ويكفيه ذلك لو

كان ينفعه حسباً ونسباً، ومع هذا هو من أصحاب النار قال الله تعالى

مبيناً حاله : ( سيصلى ناراً ذات لهب ) ، وكان من بين صحابة النبي

صلى الله عليه وسلم من لاينتسب إلى قبيله كبلال بن رباح رضي الله

عنه ، لم يمنعه عدم انتسابه إلى قبيلة أن يسمع النبي صلى الله عليه

وسلم دفّ نعليه في الجنة ، ولم يمنعه الرق في الجاهلية أن يكون

سيداً في الإ سلام حتى قال عمر رضي الله عنه : ( أبو بكر سيدنا ،

وأعتق سيدنا ) يعني بلالاً رضي الله عنهما ، والإسلام هو أفضل الأنساب ، وأكرم الأحساب

أبي الإسلام لاأب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم

بل قالها النبي صلى الله عليه وسلم صريحة : ( من بطأ به أدبه لم يسرع به نسبه ) .

وأما المال فهو عرض زائل ، وإلى التلف والنفاد آيل ، ولو جمع الإنسان

من الكنوز الكثير ، فإنه عبد فقير ، وكم هم الذين حازوا من الكنوز ،

وجمعوا من الأموال ، فما أغنت عنهم شيئاً ، بل ربما كانت سبباً في

هلاكهم ، هذا قارون حاز من الكنوز ( ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي ا

لقوة ) فما أغنت عنه أمواله ، ولانفعته كنوزه ، بل قبر هو وإياها في بطن

الأرض ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون

الله وما كان من المنتصرين ) ، بل إن الإنسان يقول يوم القيامة : ( ما أغنى عني ماليه ، هلك عني سلطانيه ) .

وأما الصورة والجمال ، فهي ميزان من كانت عقولهم في عيونهم ،

وأحلامهم في أبصارهم ، وهذا الميزان من التفاهة ، والغلط ، والسذاجه

، بحيث لايحتاج إلى توضيح أو تبيين ، وقد قال النبي صلى الله عليه

وسلم : ( رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره ) فلم

تمنع هذا الأشعث الأغبر شحابة وجهه ، ورثاثة ثيابه ، من أن يكون ولياً

لله حتى إنه لو أقسم على الله لأبر الله قسمه .

ونعود فنقول : إن التقوى هي الميزان الحقيقي ، وميدان التفاضل

الشرعي بين الناس ، ولذا أمر الله عز وجل بها في كتابه كثيراً يقول الله

عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ماقدمت لغد واتقوا

الله … ) ويقول تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا )

ويقول : ( يا أيا الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة … ) في آيات كثيرات .
والتقوى في أبسط معانيها ، وأوضح تعريفاتها ، أن يطيع العبد ربه في أمره ونهيه

خـل الـذنوب صغيـرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر مايرى
لاتـحـقـرن صغيرة إن الجبـال من الحصى

ويعرفها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنها ( الخوف من الجليل ،

والعمل بالتنزيل ، والرضا بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل ) ، وهي أثمن

كنز يملكه إنسان ، وأكرم تحفة يحويها جنان ، فإن الله لايرحم إلا أهلها ،

ولايقبل غيرها ، بل الجنة لأهل التقوى أعدت ، ولهم هيئت وزينت ، (

تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً ) ، ( وسارعوا إلى مغفرة

من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) .