تحيّات طيّبات عليكم اخواتي اخواني في المنتدى
سأحاول ان اتحدّث في اجزاء متسلسلة عن الشعر العربي المعاصر بمختلف تياراته واساليبه وأبنيته ورموزه ، واقصد بالشعر الحديث هو الشعر الذي انتفض على البحور الخليلية واوزان الشعر العربي الموروثة والتي قام الخليل بن احمد الفراهيدي بأستنباطها وحصرها مع تلميذه الأخفش النحوي في ستة عشر بحرا كالطويل والمديد والرجز والبسيط والوافر والكامل والمتقارب والخبب و المتدارك ....,

يُؤرخ عادة للشعر الحديث مع اول قصيدة للشاعر العراقي بدر شاكر السياب في عام 1946 وهو في العشرين من عمره , وكان في حينها يدرس الأدب الأنكليزي في دار المعلمين العالية ببغداد ، وتجدر الأشارة الى انّ هناك شاعرة تنازعت مع السياب ريادة الشعر وكتابة اول قصيدة لا تخضع للبحور الخليلية واسمها ( نازك الملائكة ) , و مازال النزاع قائما بين النقاد بعد موت السياب في عام 1964 وهو في اوج شبابه وامتناع نازك عن الحديث منذ زمن طويل حول الرائد الأول للشعر العربي الحديث ،
ولابدّ من انكم لاحظتم ان التحوّل حدث بعد عام واحد من الحرب العالمية الثانية والتي انتهت في عام 1945 , فالحرب كان لها تأثيرها الكبير ليس على اوربا وحسب ، بل وعلى العالم برمّته لأنه خضع الى نظم حكم مختلفة افرزتها النزاعات بين دول الأستعمار القديم والأستعمار الجديد .

فجأة احسّ العالم بالفوضى تعصف بكلّ شيء وفقدت اوربا اكثر من خمسين مليونا من شبابها
وانقسمت على نفسها في معسكرين متنازعين , وكان نصيب الثقافة من هذه الفوضى والألم الروحي وافرا , اذ لم ينجو جزء كبير من مثقّفيها بالأنخراط قسرا او طواعية في الحروب , فتركت بذلك الحرب تأثيرا كبيرا على الأدب المكتوب اثناءها وبعدها , وانسحبت هذه التاثيرات على الأدب والفكر العربيين من خلال طائفة واسعة من الترجمات التي حاولت ان تلمس الواقع المرّ وابعاد التجربة الأنسانية , لأن الثقافة واحدة في جوهرها وان تعدّدت اوطانها .
في هذه الأثناء تعرّف مجموعة من مثقّفي العراق على نماذج متنوعة من الشعر الأنجليزي واساليبه وابنيته وخصوصا في شعر توماس اليوت صاحب اشهر قصيدة تناولت الخواء الروحي الذي استشرى في الغرب بعد الحرب العالمية الأولى وهي قصيدة ( الأرض الخراب ) والشاعر جيل اودن والشاعرة اديث ستويل والشاعر الأمريكي روبرت فروست وكذلك والت ويتمان صاحب اهم مجموعة في تاريخ الشعر الأمريكي وهي ( اوراق العشب ) .
تركت هذه النماذج الشعرية تأثيرا عميقا في نفوس الشعراء الشباب وجعلتهم ينفتحون على افق فني ورهان شكلي لم يعهدوه او يتعرّفوا عليه من قبل , ساعدها في التبلور الوضع المأزوم الذي كان يعيشه الشارع العربي ومحاولة انتمائه الى البيئة التي خرج منها اولا والى الشعرية العالمية ثانيا , لأن الشعراء وان تحدّروا من ثقافات مختلفة فهم ينتمون بالضرورة الى قبيلة واحدة ، الا وهي قبيلة الشعر .
وهكذا كتب الشاعر العراقي بدر شاكر السياب او الشاعرة العراقية نازك الملائكة اول قصيدة حرة في تاريخ الشعر العربي خالية من الأوزان والقوالب الشعرية الموروثة ، ومن ثمّ كتب زميلهم في دار المعلمين العالية عبد الوهاب البياتي قصيدة حرّة جديدة .
وبعدها انتقل هذا النموذج الشعري الجديد من العراق بأتجاه مصر فكتب به مجموعة من الشعراء المصريين كالشاعر صلاح عبد الصبور والشاعر احمد عبد المعطي حجازي ، وبعد سنوات قليلة انتقلت القصيدة الحرّة لتصل الى اغلب بلدان الوطن العربي وصارت كتابتها امرا مألوفا بين شعرائها ولم تعد تجد اعداء لها بعد ان كانت قد كابدت في بداية ظهورها هجومات لاذعة ومحاولات كثيرة للأقصاء والتهميش .

اخواتي واخواني اكتفي بهذا القدر من سرد السيرة التاريخية للقصيدة الحرّة ، لكي يكون للمهتمين والمعنيين منكم فرصة التعرّف على هذا النموذج الشعري الجديد ، وسأحاول في المرّة القادمة ان ابيّن لكم معنى مصطلح ( القصيدة الحرّة ) ثمّ اكتب لكم مختارات شعرية لأهم رموزها

مع خالص مودّتي لكم جميعا