إذا صحت دعوى العلمانين في الغرب بالنسبة للدين الكنسي أنهم يتعايشون معه ويتعايش معهم دون تدخل من أحدهما في شؤون الآخر- ليست صحيحة في الحقيقة - فإنها بالنسبة للإسلام لا تصح على الإطلاق !لقد كان الدين الكنسي منذ اللحظة الأولى ديناً يهتم بالآخرة ويدير ظهره للحياة الدنيا نتيجة ما دخل فيه من تحريف فصل الشريعة فيه عن العقيدة ، وجعله عقيدة صرفاً إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ..ومع ذلك فقد كان العمل من أجل الآخرة يلقى أثره على الحياة الدنيا، قصد الناس أم لم يقصدوا ، ووعوا ذلك في إدراكهم أم لميعوه ، فكان ذلك الدين – رغم التحريف الضخم في كل جوانبه – يعطي آثاراً واقعية في حياة الناس وسلوكهم ، وتصوراتهم ومشاعرهم ، وهي التي جاءت العلمانية لتزحزحها من مكانها رويداً رويداً حتى أَجْلَتْها إجلاء كاملاً فلم يعد للدين عند الأكثرية العظمى من الناس في الجاهلية المعاصرة مكان على الإطلاق ، وبقي عند الأقلية(المتدينة ) مجرد مشاعر ووجدانات ، وعلى الأكثر بعض ( العبادات ) ولكن هذه وتلك لا تحكم شيئاً في واقع الحياة . وبهذا وحده – أي بمسخ الدين على هذه الصورة المزرية -أصبحت العلمانية تتعايش على مضض مع الدين ! وقد كان هذا مسخاً بالنسبة للدين الكنسي ذاته ، الذي شوهته الكنيسة حتى قطعت صلته بالأصل السماوي .. فكيف يكون الأمر بالنسبة لدين الله الحق ؟!إن الدين الحق لا يمكن ابتداء أن يكون عقيدة مفصولة عن الشريعة .. فالالتزام بالشريعة - في دين الله الحق – هو مقتضى العقيدة ذاتها . مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .. بحيث لا تكون الشهادة صحيحة وقائمة إن لم تؤد عند صاحبها هذا المعنى وهو الالتزام بما جاء من عند الله ، والتحاكم إلى شريعة الله ، ورفض التحاكم إلى أي شريعة سوى شريعة الله , قال تعالى: (فلا وربك لايومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) سورةالنساء 65 لقدنزل هذا الدين ليعطي التصور الصحيح لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، وليقيم فيعالم البشر واقعاً محكوماً بهذا التصور ، منبثقاً عنه ، مرتبطاً متناسقاً معه في كلياته وجزئياته لا يتصادم معه ولا ينحرف عنه .فالله الخالق البارئ المصور، الرازق المحيي المميت ، المدبر اللطيف الخبير ، عالم الغيب والشهادة .. بكل أسمائه وصفاته الواردة في كتابه المنزل ، هو المتفرد بالألوهية والربوبية ، وهو المستحق للعبادة وحده بغير شريك. وكلما في الكون وكل من في الكون غيره سبحانه هم خلقه وعباده .. واجبهم عبادته وحده بغير شريك والإنسان واحد من خلقه .. متميز .. نعم .. مكرم..نعم .. ذو وعي وإدراك وإرادة وفاعلية .. نعم . ولكنه مخلوق من مخلوقات الله واجبه ككل خلقه الآخرين محصور في عبادة الخالق وحده بغير شريك . ولقد كرمه الله بالوعي والإدراك والإرادة والفاعلية ، وأعطاه قدراً من الحرية في تصرفاته الأرادية يملك به أن يسير في طريق الطاعة وأن يسير في طريق العصيان .. ولكنه لا يرضى من عباده إلا أن يعبدوه قال تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) سورةالزمر 7والذييقرر العبادة المفروضة على كل كائن من الكائنات هو خالق الكائنات جميعاً ، الذي خلقها وحده بغير شريك ، ومن نفرده بالخلق ينشأ انفراده بالحاكمية قال تعالى: (ألاله الخلق والأمر) سورة الأعراف 54وبحقالحاكمية الناشئ من التفرد بالخلق أمر الإنسان أن يعبده وحده ويخلص العبادة له قال تعالى: (ألا لله الدين الخالص) سورة الزمر 3 وقال تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) سورة الزمر 11وإخلاص العبادة يقتضى الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، ويقتضي توجيها لشعائر التعبدية له وحده ، ويقتضي كذلك التصديق بكل ما جاء من عنده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، والاحتكام إلى شريعته وحدها دون الشرائع الجاهلية التي يصنعها البشر من عند أنفسهم دون سلطان من الله . فإذا كان هذا أمر الله ورسوله فأنى يقول قائل إن الإسلام يمكن أن يلتقى مع العلمانية التي تقول : لادين في السياسة ولا سياسة في الدين ؟!! أو تقول إن الاقتصاد لا علاقة له بالدين . أو تفصل بين حكم الدين وبين أي شيء في حياة الإنسان؟!