بلاغة المتكلم: هي مَلَكة في النَّفس يقتَدرُ بِهَا صاحبها على تأليف كلام بليغ: مُطابق لمقتَضَى الحال، مع فصاحته في أيّ معنى قَصَده وتلك غاية لن يَصِل إليها إلاَّ من أحاط بأساليب العرب خُبرا وعرف سُنن تخاطُبهم في مُنافراتهم، ومفاخراتهم، ومديحهم، وَهجائهم وَشكرهم، واعتذارهم، لِيلَبس لكل حالة لبُوسها «ولكلِّ مقام مَقال» .

ملاحظات
(1) التّنافر - يُعرف (بالذوق) السلَّيم؛ والحِسِّ الصَّادق .
(2) مخالفة القياس: تُعرف (بعلم الصرَّف) .
(3) ضعف التَّأليف والتَّعقيد اللَّفظي: يُعرفان (بعلم النحو) .
(4) الغرَابة: تُعرف بكثرة (الاطّلاع) على كلام العرب، والإحاطة بالمفردات المأنوسة.
(5) التَّعقيد المعنوي: يُعرف (بعلم البيان) .
(6) الأحوال ومقتضياتها: تُعرف (بعلم المعاني) .
(7) خَلوُّ الكلام من أوجه التَّحسين التي تكسوه رِقة ولَطافةً بعدَ رِعَايَة مُطابقته: تعرف (بعلم البديع) .


فاذاً وجَب عَلَى طالب البلاغة معرفةُ: اللغة والصَّرف، والنَّحو، والمعاني والبيان، والبديع - مع كونه سليمَ الذَّوق، كثير الاطّلاع على كلام العرب، وصاحبَ خبرة وافرةٍ بكُتُب الأدب، ودِرَية، تامَّة بعاداتهم وأحوالهم، واستظهار للجيد الفاخرِ مِن نَثرهم ونظمهم، وعلم كامل بالنَّابغين من شعراء، وخطباء، وكُتاب - ممَّن لَهم الأثر البيّن في اللُّغة والفضلُ الأكبرُ على اللّسان العربي المبين.

يحسُن أيضاً بطالب البلاغة أن يعرف شيئاً عن (الأسلوب) الذي هو المعنى المَصُوغُ في الفاظ مؤلَّفة على صورة تكون أقربَ لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعلَ في نفوس سامعيه.

وأنواع الأساليب ثلاثة:

(1) «الأسلوب العلمي»: وهو أهدَأُ الأساليب، وأكثرها احتياجاً إلى المنطق السَّليم، والفكر المُستقيم، وأبعدُها على الخيال الشَّعري، لأنه يخاطب العقل، ويُناجي الفكر، ويَشرَحُ الحقائق العلمية التي، لا تخلو من غموض وخفاء، وأظهَرُ ميزات هذا الأسلوب «الوُضُوح» ، ولا بدَّ أن يبدوَ فيه أثر القوة والجمال، وقوَّته في سطوع بيانه، ورصانةِ حُججه؛ وجَماَله في سُهُولةِ عباراتهن وسلامة الذّوق في اختيار كلماته، وحسن تقريره المعنى في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام.
فيجب أن يُعنَى فيه باختيار الألفاظ الواضحة الصريحة في معناها الخالية من الاشتراك، وأن تُؤَلَّف هذه الألفاظ في سُهولة وجلاء، حتى تكون ثَوباً شفَّافاً للمعنى المقصود، وحتى لا تصبح مَثاراً للظّنون، ومجالا للتوجيه والتأويل.
ويحسًن التَّنحي عن المجاز، ومُحَسنِّنات البديع في هذا الأسلوب، إلاّ ما يجيء من ذلك عفواً، من غير أن يمس أصلا من أصوله، أو ميزة من ميزاته.
أمّا التَّشبيه الذي يُقصد به تقريب الحقائق إلى الأفهام، وتوضيحها بذكر مماثلها، فهو في هذا الاسلوب حسن مقبول.

(2) «الأسلوب الأدبي»: والجمال أبرزُ صفاته، وأظهر مُمَيزاته، ومنشَأ جماله، لما فيه من خيال رائع، وتصوير دقيق، وتلَمُّس لوجوه الشّبه البعيدة بين الاشياء، وإلباس المعنوي ثوبَ المحسوس، وإظهار المحسوس في صورة المعنويِّ.
هَذَا - ومن السهَّل عليك: أن تَعرِف أنَّ الشعر والنثر الفَنِّي هما مَوطِنا هذا الأسلوب، ففيهما يَزدهر، وفيهما يبلغ قنَّة الفنّ والجمال.

(3) «الأسلوب الخطابي»: هنا تبرُزُ قوَّة المعاني والألفاظ، وقوة الحجّة والبرهان، وقوة العقل الخصيب، وهنا يتحدِّث الخطيب إلى إرادة سامعيه لإثارة عزائمهم، واستنهاض هممهم، ولجمال هذا الاسلوب ووضوحه، شأنٌ كبير في تأثيره، ووصوله إلى قرارة النفوس، ومَّما يزيد في تأثير هذا الأسلوب، منزلة الخطيب في نفوس سامعيه، وقوةُ عارضته، وسطوعُ حُجِّته، ونبَراتُ صوته، وحسنُ إلقائه، ومُحكَمُ إشاراته.
ومن أظهر مُميزات هذا الأسلوب إ التَّكرارُ «واستعمال المُترادفات وضربُ الأمثال، واختيار الكلمات الجزلة ذات الرَّنين.
وَيحسن فيه أن تتعاقب ضروب التَّعبير - من إخبار، إلى استفهام، إلى تعجب، إلى استنكار، وأن تكون مواطن الوقف كافية شافية، ثم واضحاً قَويَّا ويظنّ النّاشئون في صناعة الأدب: أنه كلّما كثُر المجاز، وكثُرت التَّشبيهات، والأخيلة، في هذا الأسلوب - زاد حُسنه.
وهذا خطأ بيِّن، فإنه لا يذهب بجمال هذا الأسلوب أكثر من التَّكلُّف، ولا يفسده شَرٌ من تَعمَّدِ الصنّاعة.