صناعة القرار
المقدمة :
نبدأ بالتعريف ، ونمضي بعد تعريف القرار إلى ذكر أنواعه وأسس اتخاذه والمحاذير والأخطاء التي قد تصاحب ذلك في بعض الأحوال.
القرار في أصل اللغة العربية مشتق من القرِ ، وأصل معناه على ما نريد هو : " التمكن " ، فيقال قرّ في المكان ، أي قرّ به وتمكّن فيه .
ومن هذا الباب الإقرار ، وهو ضد الجحود وهو الإذعان للحق والاعتراف به ، فإذا أقرّ الإنسان بشيء ، فمعنى ذلك أنه اعترف بخطئه وأعطى الحق لصاحبه ، فيكون بذلك قد اتخذ قراراً أمكن فيه صاحب الحق من حقه ورد الأمر إلى نصابه.
ومن ذلك أيضاً يوم القرِ ، وهو أول أيام التشريق في منى ، يسمى كذلك ؛ لأنه يوم استقرار وسكون ، وهذا المعنى هو الذي سيكون له ارتباط بمعنى القرار.
فالقرار هو أن تستقر على أمر وتميل إليه وتثبت عليه وتختاره دون غيره .
أما القرار الذي نتحدث عنه بمعنى أنك تتخذ قراراً ، أي تحدد أمراً للتنفيذ دون غيره من سائر الأمور فهو كما يعرّفه أهل الإدارة : هو التعرف على البدائل المتاحة لاختيار الأنسب بعد التأمل بحس متطلبات الموقف وفي حدود الوقت المتاح " ، ما معنى ذلك؟ إننا عندما تعرض لنا مشكلة أو نعزم على أمر ؛ فإن هناك عدة خيارات تظهر لنا فنحلّ المشكلة أو نتغاضى عنها ، أو نحلها بمواجهتها مواجهةً عنيفة ، أم نتخذ طريق التدرج ونحلها جزئيً، أم نستعين بغيرنا في هذا الحل هذه خيرات متنوعة ؟ .
فالقرار أن تعرف هذه الخيرات والبدائل ، ثم تصل إلى الخيار الأمثل ، وذلك من خلال التأمل وحسب الظروف المحيطة وحسب متطلبات الموقف ، وفي حدود الزمن المتاح ؛ لأن الزمن أيضاً أحياناً يكون له أثر حاسم في اتخاذ القرار ، فالذي يريد - مثلاً - أن يتخذ قراراً في أن يدرس في جامعة كذا وجامعة كذا لا بد أن يتخذ القرار قبل انتهاء مدة القبول والتسجيل ، فإذا اتخذ قراره بعد ذلك أبح قراره بعد فوات الأوان كما يقال .
إذاً فالقرار الذي نتحدث عنه هو كيف تختار الأمثل والأفضل والأكمل ليكون له الأثر النافع والمفيد في المدى القريب والمدى البعيد بإذن الله تعالى.
أنواع القرارات
لأن هذا الموضوع في غالب الأحوال يتحدثون عنه في القرارات الإدارية في المؤسسات التجارية والمنشات الصناعية ، ونحن نتحدث هنا عن القرارات الشخصية في الحياة العامة على وجه الإطلاق.
أ – القرارات الفردية
هناك قرارات فردية وأخرى جماعية قرار فردي يخصك وحدك ، كما قلنا طالب يريد أن يحدد جامعة أو رجل يريد أن يختار للزواج امرأةً ، فهذا أمر محدود ، لكن إذا كان القرار يخص جمعاً من الناس أو يخص الأمة برمتها ،كقرار يتخذه الحاكم في مصلحة الأمة أو كحكم يتخذه القاضي بشأن متنازعين مختلفين .
إن مثل هذا القرار يكون أكثر حساسية وأكثر أهمية ، ولا بد له من مزيد من أخذ الأسباب الموصلة للقرارات ؛ لأن الأول قرار يخصك وحدك ؛ فإن وقع فيه خطأ فأنت الذي تتحمله وإن كان به ضرر فدائرته مخصوصة به وحدك ، أما أن يكون القرار تتخذه فيتضرر منه الآلف أو الفيام من الناس ، أو أن تتخذ الحكم فيتضرر به أو النظام فيتضرر به كثير من الناس فهذا أمر يحتاج إلى مزيد من الروي.
ب – القرارات المصيرية
أيضاً من جهة أخرى هناك قرارات عادية وأخرى مصيرية .. قرار عادي تريد أن تهدي لأخ لك هدية ، وهل يا ترى أهديه من الطيب أم أهديه كتاب من الكتب ؟ قضية عادية متكررة ليست خطيرة ولا كبيرة ، لكن هناك قرار ربما يكون بالنسبة للفرد وأحياناً على مستوى الأمة مصيرياً هل تريد أن تدرس أو تعمل؟ ربما يكون قرار مصرياً بالنسبة لك هل تريد أن تبقى في هذه البلاد أو ترحل إلى بلاد أخرى؟ هذه أمور لها آثار أكبر لذلك لا ينبغي أحياناً أن يزيد الإنسان من التفكير والبذل للجهد في قرار عادي يتكرر فيجمع جمعاً من الناس يستشيرهم .. هل يهدي هذا أو هذا ولا يكون ؟
أيضاً العكس فيأتي في قرار مصيري فيتخذه ويقرره وهو في جلسة لشرب الشاي دون أن ينتبه للخطورة التي تترتب على ذلك.
ج – القرارات الدورية
وهناك أيضاً قرارات دورية وأخرى طارئة ، ما معنى قرارات دورية ؟ أي تتكرر دائماً ، على سبيل المثال بالنسبة للطالب الاختبارات أمر يتكرر دائماً ، فيحتاج أن يقرر هل يبدأ بدراسة الكتاب أو بدراسة المذكرة أو يبدأ بدراسة المادة الأولى أم الثانية ؟ فالأمور الدورية مثلاً الشركات أو المؤسسات توظف موظفين لديها وأحيناً تفصل آخرين هذه الأمور الدورية المتكررة القرار فيها هو اتخاذ النظام الأمثل ، بحيث لا تحتاج في كل مرة إلى أن نعيد القرار ندرس القضية مرةً واحدة نضع شروط لتعليم الموظفين نضع نماذج نحتاج إليها وينتهي الأمر أما في كل مرة نعاود التفكير ، كلا ! قرار دوري يأخذ دائماً أما الشيء الطارئ الذي يحتاج إلى بعض ذلك الأمر إذاً فهمنا هذه الصورة العامة في القراراتِ وبأسلوب مبسط ويلامس واقع حياتنا.
أحب هنا أيضاً وقفة مع اتخاذ القرار ماذا يعني هذا الاتخاذ للقرار؟ فما هي بعض حثيثياته وملابساته ؟.
حيثيات اتخاذ القرار
أولاً : اتخاذ القرار لا يكتسب بالتعليم وحده وإنما أكثره بممارسة والتجربة
لن تكون صاحب قرارات صائبة بمجرد أن تقرأ كتاباً ، أو بمجرد أن تستمع لمحاضرة ، ولكنها التجربة تنضجك شيئاً فشيئاً .. ولكنها الخبرة تكتسب مع الأيام .. ولكنها الدربة يملكها الإنسان مع ممارستها شيئاً فشيئاً ..
ومن هنا يتميز كبار السن وأصحاب التجربة بالحنكة وصواب الرأي ودقة الاختيار أكثر من غيرهم ، فالغرّ الشاب الناشئ كثير ما لا توجد لديه الأسباب والملكات لاتخاذ القرار الصحيح ، هنا يحتاج إلى المشورة أو المعونة.
ثانياً : اتخاذ القرار أفضل من عدم اتخاذه وإن كان في القرار أخطاء
خاصةً في الأمور التي لا بد منها من اتخاذ قرار ؛ لأن عدم اتخاذ قرار يصيب الإنسان بالعجز والشلل في مواجهة الأحداث وحل المشكلات بعض الناس دائماً لا يبث الأمور لا يتخذ قرار يبقيها معلقة فتجده حينئذً شخص غير منجز ، ولا متخذ لقرار ، دائماً يدور في حلقة مفرغة ، يمرّ الوقت دون أن ينجز شيئاً ؛ لأنه لم يختر بعد " هل يدخل في كلية الطب أم يدرس في كلية الهندسة ؟ " يمر العام والعامين وهو على غير استقرار فلا ينجز ، والذي يتردد كثيراً فيدرس فصلاً في الطب والثاني يختاره في الهندسة ، ثم يقول : ليس ذلك اختياراً صائباً فيمضي للعلوم ، ثم يرى أنها لا تناسبه فتمر السنوات يتخرج الطلاب وهو - كما يقولون - يتخرج بأقدمية يكون معها قد استحق أن يأخذ عدة شهادات بدل شهادة واحدة .
أيضاً تضيع الفرص وتمرّ ؛ فإن لم تتخذ القرار وتغتنم الفرصة لأن الفرص لا تتكرر ، وهذه مسألة أيضاً مهمة ، البديل لاتخاذ القرار هو لا شيء ، واتخاذ القرار يكسبك جرأةً ويعطيك شجاعةً ، وأيضاً يتيح لك الفرصة للتقويم بعد الخطأ فلا تكن أبدأً متردداً في اتخاذ القرارات ، اعزم واعقلها وتؤكل ، وأمضِ فإن أخطأت فإن الخطأ تجربة جديدة وعلماً جديداً يفيدك في مستقبل الأيام بإذن الله عز وجل .
من المنطلق الإسلامي وجه آخر إن أخطأت فلك أجر واحد وإن أصبت فلك أجران ، فلماذا تحجم إذاً؟ ولماذا تتردد؟ خذ الأسباب واجتهد وامضي ولا تخشى الخطأ فإن الخطأ مع النية الصالحة السليمة ومع العمل الذي بني على اجتهاداً صحيح يكون مغفوراً بإذن الله عز وجل ، بل ويثاب صاحبه كما في الحديث من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ).
ثالثاً - ليس اتخاذ القرار مبنياً على العلم الشرعي فحسب
بل لكثير من الأحوال يبنى على معارف الحياة العامة وعلى طبيعة الظروف ومعرفة الأحوال وحاجات الناس ومصالحهم وهذه كلها تمثل أسساً لا بد من معرفتها عند اتخاذ القرارات .
رابعاً - اتخاذ القرار يحتاج إلى عقلية متفتحة مرنة
بعيدةً على الجمود وأحادية الرأي ؛ فإن الذي لا يفكر إلا من طريق واحد ولا ينظر إلا من منظار واحد تستغلق عليه أمور وتوصد في وجهه الأبواب ويظن ألا حل ويستسلم لليأس ، مع أنه لو نظر عن يمينه أو عن يساره أو خلفه أو أمامه لا رأى أبواباً كثيرة مشرعة وطرق كثيرة ممهدة إنما أعماه عنها أنه لم يتح لعقله أن يسرح في الآفاق وأن يولد الأفكار حتى تكون هناك مخارج عدة بإذن الله عز وجل.
خامساً - ليس اتخاذ قرار هو نهاية المطاف بل في الحقيقة هو بدايته
لأن اتخاذ القرار يحتاج بعده إلى التنفيذ والتنفيذ يحتاج إلى المتابعة والتقويم والتقويم ربما يدخل كثير من التعديلات على تلك القرارات ، فليس المهم هو اتخاذ القرار وإنما أهم من ذلك أيضاً ما بعد اتخاذ القرار.
أسس اتخاذ القرار
وهذه أسس مهمة ، ونحب في الحقيقة -كما أشرت - ألا نمضي مع ما يقرره الإداريون لمثل هذه الموضوعات فحسب فنحن لنا رويتنا ولنا ديننا وعندنا تاريخنا وبين أيدينا سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك كثير من الخير الذي قد نغفل عنه في بعض الأحوال.
الأساس الأول : الأساس الإيماني وأحببت أن نبدأ بهذا ونركز عليه ونلفت النظر إليه ؛ لندرك أن كثير من الأمور بل ربما كل الأمور مفتاحها وصمام أمانها هو هذا الأساس الإيماني ، ماذا أعني بذلك؟ على سبيل المثال ونذكر بعض النقاط.
حسن الصلة بالله عز وجل ، ودوام الارتباط به ، واللجوء إليه هذا الأمر هو مفتاح لكثير من الخير ، وهو باب التوفيق ، وهو أساس في صواب الرأي وفي سداد القول ..
فإن من كان مع الله كان الله معه ، ومن تعلّق بالله أجرى الله الحق على لسانه ، ومن كان دائم الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى ، وفقه لما اختلف فيه من الحق بإذنه أن يصيب وجه الحق فيه .
ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه يطلب من الله - عز وجل - أن يهديه إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه ، وهذا من آيات القرآن أيضاً في الدعاء للمؤمنين هذه أمور أساسية ومهمة .
على سبيل المثال أيضاً استدعاء التوفيق بالدعاء وسؤال الله - عز وجل - الدائم لأن يخرجك من كل مشكلة ومعضلة ، هذا أمر من الأمور المهمة في حسن اتخاذ القرار أو صواب الحل للمشكلات ، وأيضاً ما هو من أحكام الدين وما هو من تشريعاته وعباداته فصلاة الاستخارة كان الصحبة - رضوان الله عليهم -يخبرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم الاستخارة في الأمور كلها ما هي صلاة الاستخارة ؟ إنها استمداد للتوفيق من الله - سبحانه وتعالى - إنها براءة من الحول والقوة البشرية إلى حول الله وقوته .. إنها طلب البصيرة أن يقذفها الله - عز وجل - في قلب المؤمن ليرى الحق حقاً ويرزقه اتباعه ، ولذلك ماذا يقول في دعاء الاستخارة ؟ ( إني أستخيرك بعلمك وأستعين بقدرتك ) ..
إنه طلب استمداد العلم من الذي وسع علمه كل شيء والقدرة من الذي نفذت قدرته في كل شيء وهو على كل شيء قدير ومن أنت؟ وما عقلك الذي تفكر فيه؟ ما إمكاناتك التي تستعين بها؟ إنها لا شيء إذا لم يكن لك توفيق من الله - عز وجل - إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده ، فنحن إذا أردنا أن نوفق في قراراتنا ونسدد في آرائنا ونصوب في أعمالنا ؛ فإن طريقنا الأول إلى ذلك فإن طريقنا الأول إلى ذلك هو أن نكون مع الله سبحانه وتعالى فيفتح علينا حينئذً بإذنه جلا وعلا.
مواقع النشر (المفضلة)