تحيّات طيّبات ومودّة خالصة عليكم جميعا
تحدّثت في مرّة سابقة عن الأصول التاريخية واللغوية للأشهر العربية التي شاع استخدامها في رحم الجزيرة العربية قبل ظهور الأسلام بأزمان طويلة , وكما تعلمون من سياق البحث الذي اوردته انّ هناك شهورا تنسب للعرب البائدة ومن ثمّ عاد وثمود والعرب في دويلاتهم جنوب شبه الجزيرة .. اي ما يطلق عليها ب ( اليمن السعيد ) .

الآن سأتحدّث بعجالة شديدة عن اسماء الشهور ذات الأصول السامية والتي شاعت في المشرق العربي , واذا استطعت التعريج على اسماء الشهور القشتالية التي عُرفت بين العرب المغاربة فسأفعل ان شاء الله .

قبل ايام كنت اراجع بعض المعاجم العربية , وانتبهت الى ان بعض نحاتنا يرحمهم الله كانوا يطلقون على الشهور السريانية السامية بالشهور الرومية . وهذا يرجع الى وجود الرومان في شمال الهلال الخصيب ( الشام ) والشام هو الموطن الذي استقرّ فيه الآراميون والسريان بعد نزوحهم من شمال شبه الجزيزة العربية .
والحقّ ان اسماء هذه الشهور ليس روميا كما ذهب الى ذلك نحاتنا ولغويّونا , بل لقد شاعت منذ حوالي 1600 سنة في الجزيرة ومحيطها الجغرافي قبل البعثة النبوية المباركة .
من الضروري ان نعرف ان العرب عندما استوطنوا الشام بعد حروب الفتح
تحوّلوا الى الزراعة التي تحتاج الى معرفة فصول ثابتة , وهذا الثبات لاتوفّره الأشهر القمرية التي ارتبطت بحياة البداوة والترحّل , لذا كان لا بدّ من استعمال الشهور الشمسية لأستقرارها وثباتها .وارتباطها بالأعمال الزراعية التي كانت شائعة بين الأقوام السامية في الشام وشمال وادي الرافدين ووسطه .

ولابدّ من التذكير اخيرا من انّ جمهرة واسعة من الشعراء والناثرين العرب الكبار وظّفوها في في نصوصهم وكتاباتهم الأبداعية وهذا يعني انها كانت متداولة جنبا الى جنب مع الأشهر القمرية العربية , وكنت قد اشرت الى بعضها في الجزئين السابقين ومنها قولا لمحمد بن عبد الملك الزيات :

برد الماء وطال الليـــــــــــــــــــل والتذّ الشراب

ومضى عنك حزيــــــــــــــران وتمــــــــوز وآب

وقبل ان ابدأ بتدوين معانيها اودّ التأكيد على انّ اصل تسميتها جاء من اللغة البابلية القديمة مثلما هو الأمر مع كثير اسماء المكاييل والطقوس الدينية والزراعية :

1 ـ كانون الثاني : الكانونان الأول والثاني , الكانون بالعربية هو الموقد والمصطلى , وسماهما العرب شهري قماح , والقماح داء يصيب الحيوان فيمنعه عن الشرب , وهناك معنى آخر للكانون اذا علمنا ان مصدره هو ( كنّ) ومعناه الثبوت والأستقرار , وكنّ من جذر سامي مشترك , اي تشترك فيه اكثر من لغة .

2 ـ شباط : شباط مفردة من اصل سرياني ( شبط ) وتعني الضرب والجلد , اما في البابلية فلقد وردت بصيغة ( شاباطو ) وكذلك ورد في التوراة في سفر زكريا , وفي الأساطير انّ شباط هو عدوّ العجائز اذ يأخذ بعضا من ايام آذار لتطول ايام البرد والعواصف على المسنّين .

3 ـ آذار : مفردة بابلية ( أدارو ) وتعني الظلمة والعتمة وفي السريانية تعني المفردة النور لأانه اوّل ايام الربيع , وكان القدماء يخصّونه بلخير والبركة لكثرة امطاره وسيوله .

4 ـ نيسان : مفردة بابلية معناها البدء والتحرّك وفي السريانية والعبرية تعني : العشب والخضرة , وهذا الشهر تستهلّ فيه السنة الدينية المقدّسة عند البابليين .

5 ـ أيار : مفردة بابلية تعني التفتّح والنور والزهر , اما في اللغة العربية فتعني مفردة أيار : الهواء الحار او ريح الشمال .

6 _ حزيران : لفظة سريانية تعني الحصاد او الحنطة وسُمّي كذلك لوقوع حصاد الحبوب فيه , ولم ترد هذه المفردة في اللغة البابلية .

7 ـ تموز : مفردة سومرية تعني الأبن البار اصلها ( دموزي ) وأخذتها البابلية عن السومرية , كما تجدر الأشارة الى ان تموز هو اسم اله سومري ولاحقا بابلي , ثمّ انتقل الى الحضارات الأخرى بأسماء مختلفة وكان رمزا للحب والخير والخصوبة والأنبعاث .

8 ـ آب : اصل المفردة بابلي وتعني قصب الماء والنبت والكلأ وفي السريانية تعني الغلال والثمر الناضج وفي العربية تعني مفردة ( ابّ ) الزرع والعشب كما في قوله تعالى ( وفاكهة وأبّا ) سورة عبس الآية 31
وكنت قد كتبت منذ مدّة بحثا عن هذه المفردة في المنتدى , ارجو الرجوع اليه للأستزادة .

9 ـ ايلول : اصل التسمية بابلي , وفي العربية والعبرية والسريانية تنحدر المفردة من جذر يدلّ على العويل والصراخ , لأنّ المناحات على تموز ( الأله المقتول ) كانت تقام فيه .

10 ـ تشرين الأول وتشرين الثاني : المفردة من اصل سامي مشترك , ففي البابلية ( تشرينو ) وفي السريانية ( تشراي ) اما في العربية فيُعتقد ان جذرها ( شرع ) اي بدأ , وذلك لأنه كان اوّل شهور السنة السريانية وفيه يبدأ الحرث والزرع قبل مجيء الشتاء .

اخواتي واخواني في المنتدى , الآن عرفنا انّ اغلب اسماء شهور السنة الشمسية عند المشارقة هي سريانية من اصول بابلية ,اتخذها العرب بعد ان استقرّوا في البلدان المفتوحة وصارت مزاولة الزراعة عملا اساسيا وحرفة يتوارثونها , واللغة السامية هي اللغة التي كان اجدادنا القدماء يتحدّثونها في الجزيرة العربية قبل ان تنقسم على نفسها لتكوّن العائلة اللغوية السامية ( الجزيرية ) المعروفة لدى الباحثين , وهي ( العربية الشمالية والجنوبية والآرامية والبابلية والآشورية والسريانية والعبرية والفينيقسة .......)

للأسف لا اقدر على تدوين الشهور القشتالية , لأنني اكتب الموضوع بشكل مباشر , ولأني اطلت في الحديث عن الشهور السريانية رغم محاولتي الأختصار , لذا سأتركه لقسم رابع من البحث بأذن الله .

اتمنى ان اكون قد قدّمت مادة تستحقّ عناء قراءتها .. مع خالص مودّتي لكم جميعا

صلاح