.



[align=center]
.

.


.



.. العاصفة .. [/align]




جاء في اليوم التالي وفي نفسه شعور آخر . لقد حدث أمر جديد . لقيه صاحب له ، وهو زميل للضابط الشاب ، فقال : إنني سأحدثك في شأن يهمك واغفر لي تطفلي عليك ، فأنا أؤدي واجبي الذي أراه .

ولفتته هذه المقدمة ، وتوقع شيئاُ . قال :
= متشكر . قل ما تريد .
قال :
= لقد عرفت أنك خطبت فتاة من الروضة ؟
قال :
= نعم !
وأحس بشيء من الانقباض .
قال :
= إن لم تكن كتبت كتابك ، فأحب أن أطلعك على شيء !
وشعر بما يشبه العرق البارد . وقال :
= لا . لم أكتب كتابي . فقل ما تشاء !
قال : أنا أعرف أن هذه الفتاة صديقة زميل لي اسمه (( ضياء )) ..
وتكلف قلة المبالاة فقال :
= كيف علمت أن هذه هي تلك ؟
قال :
= لقد رأيتها معك أمس في السينما ، وكنت قد رأيتها معه من قبل في المعسكر ، فلما سألته عنها اليوم قال : إنك خطبتها ، ولأن لي بك صلة ، رأيت من الواجب علي أن أخبرك !
قال ببرود ظاهر :
= متشكر ....


وتركه .... ومضى !



***


العجيب أنه لم يشعر في هذه اللحظة بالألم المنتظر لمثل هذا البلاغ ! لقد خيل إليه أن الأمر انتهى فيما بينه وبينها . أحس أن ليس هناك ما يربطه بها . نسى الماضي كله في لمحة ، وقرر أن تقف صلاته بها عند هذا الحد ، ولم يشعر بأسف كبير على هذا القرار .
قال : انها رخيصة لا تستحق كل هذا الاهتمام ، وإنها إحدى فتيات الجيل اللواتي يعرفن هذا الشاب وذاك ، ويعبثن هنا وهناك ، عبثاً بريئاً أو غير بريء ، ثم يجدن في النهاية الزوج المطلوب ! إنها فاتنة – ولا شك – ولكن ما يعنيه هو من الفتنة ، وهو لا يريد العبث بها ؟ لقد أرادها له زوجا ، لأنه حسبها شيئا ثمينا عزيزاً ، لا تتداوله الأيدي ، ولا يُحصل عليه إلا من هذا الطريق ، فقرر أن يغالب ظروفه الخاصة ، وأن يحظى بالكثير ليحصل على هذا الشيء الثمين .
أما الآن ......!

ووجد نفسه يأخذ الترام إلى هناك ، ليُـنهي الأمر في يسر وسهولة ، وبلا كبير اهتمام .. وظل هذا العزم قويا في نفسه حتى واجه الدار . وهنا أحس بالصراع !


ولو واجهته في هذا اليوم كما واجهته صباح يوم الاعتراف ، ولو نظرت إليه عندما لقيته نظرة الأمن والاستسلام .. لوضعت حدا حاسما لهذا الصراع ، ولعادت إليه ثقته المفقودة ، وإعزازه العميق . ولكنها لقيتهُ جامدة ، وابتسمت ، ولكنها ابتسامة سطحية ، وأجلسته في حجرة الجلوس ، ثم غابت عنه بعض الوقت ، وجاءت أمها فسلمت عليه متهللة ، فلم يبادلها التهلل إلا بتكلف وعناء . ثم جاءت هي أخيراً ، ومعها الشاي ، وعرف أن غيبتها كانت لهذا الغرض ، إلا أن ذلك لم يسكب الرضى في نفسه ، ولم يشعره الارتياح .


وخيم على الموقف جو من الكمد ، لم يخفف منه ما كانت تحاوله الأم من ترحيب به واهتمام .


وأحس أنه مطعون في كرامته ، وجال في خاطره إحساس التعالي على الموقف ، ونفض يده منها ، كرد حاسم على اتجاهها مرة لسواه !

وكانت الأم قد انصرفت لشئون المنزل ، فقاده هذا الخاطر الشرير أن يقص عليها قصة الصباح ...

وفي نهايتها . كانت كالتمثال الشاخص . قالت في لهجة آلية :
= والآن لا يجوز أن تشقى بي ، وأن تهان من أجلي ( وخلعت خاتم الخطوبة ووضعته برفق على غطاء البيانو )
قال ، وقد عاوده الإشفاق والإيثار :
= هل توافقين اليوم على ما عرضته عليك من قبل : أن أخبرهم بما يريد خطيبك السابق ، وأن أمهد له الطريق ؟
قالت .. في استسلام :
= افعل ما تراه .... كله عندي سواء !



***


وبعد قليل حضر الوالد ، فأحس أن هناك شيئاً . وسأل : ما الخبر ؟ ... ومع أنه قد قرر كل شيء ، إلا أنه أحس بالعجز عن مصارحتهم بالموقف هكذا فجأة . فراح يحاول من بعيد .....
ومع ذلك لم يذكر إلا أن هناك ظروفا خاصة لا تجعل من الممكن أن يرتبطا ، وأنه قد تفاهم مع (( سميرة )) على إنهاء كل شيء في سكون ، وأنه وحده يحتمل تبعة هذا الموقف ، وهي بريئة مما صارت إليه الأمور !

ولم يكن هذا الإجمال ليرضي أحداً ، فالمسألة جد ، والناس قد عرفوا ، وموعد العقد قريب . وثارت الأم ثورة عصبية عنيفة .. لم تتمالك فيها أعصابها ولا لسانها . وانقلبت هذه السيدة الطيبة الوديعة من حال إلى حال . قالت له : لقد قال الناس من قبل عنك أنك لست جاداً في رغبة الزواج ، وأن ظروفك الشخصية تمنعك ، ولكنا لم نصدق . وها أنت ذا تسبب لنا فضيحة !

وأحس لهذه الكلمات بوخز الطعنات ، ولم يخفف من وقعها . ما حاوله أبوها من الهدوء وضبط النفس والتجمل والاعتذار عن زوجته بمرضها وعصبيتها .

وحاول هو أن يدافع عن نفسه ، فيفشي السر الذي أودعته الفتاة صدره ، ولكنه تراجع حينما سمعها تنشج في الحجرة المجاورة ، وتذكر استسلامها وتهالكها . وفجأة برزت من باب الحجرة في اندفاع جريء تقول :
= يا ماما . الذنب علي أنا ، وهو لا ذنب له ، فلا تشتميه !

وكأنما صُب على الحريق الهائل ماء بارد . فتخاذلت الأم لحظة ، وبهت الوالد وحملق في الفتاة .

أما هو فارتجت نفسه كلها ارتجاجاً ، واندفع في حماسة يقول :
= لا .. لا .. لا تصدقوها . إنها بريئة . وأنا وحدي المسئول !

وهنا ضحك الوالد ضحكة مريرة ساخرة وقال :
= ما هي الحكاية ؟ قولوا لنا . هل نحن في مسرح تمثيل ؟

قال هو :
= دعونا ننفرد ، لننهي أمرنا معا بعد قليل .


ولم ينتظر إذنا منهم ، فقد كانوا جميعا مذهولين . واندفع إلى حجرتها التي اعتكفت فيها ، فوجدها لا تزال تبكي ، ووجد في نفسه تغيرا ظاهرا ، فحاول أن يربت عليها ، وأن يشملها بعطفه الذي تجده منه في مثل هذه الظروف . ولكنها كانت جريحة . قالت له :
= لا تحاول شيئاً . لقد انتهى كل شيء . قل لهم الحقيقة ، لقد ضقت صدراً بهذا النفاق الذي نحاوله ، ومن حقهم أن يعلموا .. ولقد كنت أعددت رسالة أطلعك فيها على أنني لا أجد نفسي ، ولا أتبين اتجاهي ، وأنني أحس بثقل ساحق على ضميري ، وأنا أقفك هذا الموقف ، دون أن أخلُـص لك في هذه الفترة من الصراع . ولأنني لم أقو على أن أقول لك هذا كتبته لك في رسالة !

ولكنه تمالك فقال :
= وأين هي الرسالة ؟
قالت :
= لقد قلت لك كل ما فيها .
قال :
= أحب أن أراها مكتوبة .
فترددت هنيهة ، ثم دفعت إليه برسالة مطوية كانت تدسها في صدرها ، وجلست بعيدا عنه ، بينما راح يفض الرسالة ويقرؤها ، وتتوالى على سيماه أشتات من الانفعالات حتى أتى عليها جميعا . ثم دسها في جيبه دون أن تعارض في إبقائها له .



***


كانت الرسالة هي اعترافها الأول مكررا ، ولم يكن فيها جديد . ولكنه أحس بنكأة في الجرح ، ربما كانت أشد من الجرح نفسه : (( إنك بريء ونبيل ، رجل تشرف أي فتاة بأن يكون تاجاً لحياتها ، ولكنني أنا . أنا بنت شريرة (( ملوثة )) ، وأنت مخدوع في قيمتي ، فيجب أن أنبهك إلى أنك مخدوع ... الخ )) .

وجرحته كلمة (( ملوثة )) جرحاً شديدا . ومع أنه كان يعلم ماذا تعني بها ، إلا أن معناها الرديء قفز في هذه اللحظة إلى خاطره فأحس بالطعنة الرجيعة .

قال :
= والآن .. يا فتاتي العزيزة .. ماذا تريدين ؟
قالت :
= لا أرى إلا رأيا واحدا . قل لهم كل شيء ... وليكن ما يكون !
قال :
= ولكنني أخشى العاقبة ، ولا تطاوعني نفسي على أن أفشي لك سراً .
قالت في اندفاع :
= إنني انا التي تريد

وخيل إليه أنها تريد بهذه الفرقعة أن ترتد إلى حبيبها الأول . وأن تنيبه هو عنها في مصارحة أهلها بحقيقة الحال ، وأنها قررت في نفسها أمرا . وهنا ثارت كوامنه ، وارتد إليه شعور الصباح ، وفقد كل تسامح ورحابة . وكان مظهرها في اللحظات الأخيرة يشبه أن تكون متهللة بالموقف الأخير ، فكان كل أولئك مدعاة لأن يغادر الحجرة إلى حيث ينتظره الجميع .


***


ومع أنه ترفق في كشف الموقف ، وتجنب مواضعه المحرجة ، وجاء للموضوع من جانبه البريء : جانب خطبة الفتى الضابط للفتاة ، ثم تحمس في الدفاع عن موقف شاب وشابة يتحابان ....
إلا أن المفاجأة كانت أشد مما تحتمله أعصاب الجميع .

ثارت العاصفة ، وانقلب البيت على الفتاة وانتبذت هي من وجوههم مكانا قصياً .

أحس الوالد أنه طعن في شرفه وكرامته ، وأحست الأم أنها تواجه الفضيحة ، وتخسر رابطة وشيكة . وران على الأطفال ذعر صامت وهم يرون ولا يعلمون ! ولم يبق إلا هو ، يدافع عنها في حرارة ، وينفي ما علق بذهنهم عنها من انحراف !

ثم خيم على المنزل صمت كصمت القبور ، وانزوى كل في ركن لا ينبس بحديث .

وتقدم الليل ، وهم بالرواح كالمعتاد ، فأمسكت به وجلة ، وتوسلت إليه أن يبقى حتى الصباح . قالت : لمن تتركني هنا ؟ إنني منبوذة غريبة كما ترى ، وليس لي أحد سواك . لا هنا .. ولا في الدنيا كلها .... قل : إنك لن تتركني ولن تروح !

يتبع<<<<<<<<

.