ولم يكن في حاجة لكل هذا التوكيد . لقد كان هو أشوق منها إلى تمضية كل دقيقة بجانبها . كان في نفسه مشاعر غريبة : شعور العطف والإشفاق ، وشعور اللهفة والحرمان ، وشعور الغيرة والغليان ، وشعور التسامي والإيثار ، وما لا يحصى من هذه الأحاسيس مجتمعات .

وكان كل من في البيت مستريحا لأن يقضي ليلته هناك . كان هو الصلة الوحيدة بين نفوسهم جميعاً ، بعدما قطعت الصدمة كل ما بينهم من الصلات .



***


بات يسمع أنفاسها في الحجرة المجاورة ، فلم يكن بينهما سوى حائط رقيق فيه باب مفتوح ، وكان يسمع تنهداتها في جوف الليل ، ويكاد يسمع وقع دموعها في سكون الظلام !

وكان يراها قريبة منه جداً ، بعيدة عنه جدا . كان يراها ملء يديه ، ثم ينظر فإذا يداه منها فارغتان !


وأوقد المصباح في جوف الليل ، وراح يكتب شعراً :

بيني وبينك خطوة :::: لكن عوالمنـا بعيد
ويداي فارغتان من :::: كنز به غنيَ الوجود


ثم تغالبه دموع قاهرة ، فيطفيء النور وينكفيء في سريره يغالب الدمع ما استطاع .


وفي الصباح كانت غائرة العينين ، صفراء غبراء ، كأنما انسلت من مقبرة . وكان مسترخي الجسم مهدودا .. مكدود الأعصاب .
قالت :
= كيف قضيت ليلتك ؟
قال :
= كما قضيت ليلتك !
قالت :
= يرحمنا الله !

ثم اتجهت إلى مرافق البيت ، وبعد قليل جاءت تدعوه . قالت :
= لقد سخنت لك ماء لتغسل وجهك ورأسك ، فإنك لمجهد ، والجو شتاء ، وللماء الدافيء قيمته في مثل هذه الأحوال ... اقترب أصب لك الماء !

ولكنها لم تدعه يغسل وجهه ورأسه . لقد دبت فيها حيويتها الكامنة من خلال الذبول ، فراحت تدعك له عينيه بالصابون ، وتدس أصابعها في شعره تخلله ، وإنها لتقول في دعابة ساحرة :
= لتكن انت ابني اليوم ، كما كنت بنتك بالأمس يا أبتاه !

فشل في لإقناع أهلها بالرأي الذي ارتآه ، وهو يستروح في هذا الفشل ريح الانتصار ، وفشل في إقناعهم ببراءتها التي عادت له فيها ، وفشل في استعادة الرضى عنها بطبيعة الحال ، واستمرت تلقى منهم الوخز والإعراض ، وتسمع منهم الغمز والإيلام ، وتجد نفسها بينهم في غربة وإذلال ..

قالت له :
= لقد وقع ما كنت أتوقع ، ولست صلح لك الآن رفيقة حياة . أحس في أعماق نفسي أنني لست في مستواك . ولن ألحق بذلك الآخر لأن كرامتي تأبى علي هذا ، كما يأباه شرف هؤلاء الساخطين ! ولن أنتحر لأن الانتحار جبن وعار . ولن أطيق الحياة في هذا البيت بعد الآن !
قال :
= وماذا اعتزمت إذن يا بنيتي ؟
قالت متألمة :
= لن اعدم وسيلة للحياة الشريفة . سأشتغل خادمة في احد البيوت . وإنني لماهرة في التدبير المنزلي كما تعلم !

وأحس بنفسه تتذاوب عطفا عليها ، وألما لها ، ووجدا بها .
وقال :
= لقد نسيت أن لك بيتا آخر ، يرحب بك ضيفة لا خادمة
قالت وهي تهتز من الانفعال :
= كلا ! .. إن قبلتني خادمة ، فخذني إليك منذ الآن !

ضمها إليه في رفق ، وربت عليها في عطف ، وقبل جبينها في حنان ، وقال :
= كلا يا بنيتي .. بل – إذا سمحت – رفيقة حياة .
قالت مغالبة النشيج المكتوم :
= أ و تقبلني بعد كل ما كان ؟ ( واستسلمت للبكاء )



***


لبس ملابسه وخرج مع والدها .

وقال له الوالد بعد أن غادرا الدار . وكأن حادث الأمس كان كابوسا انتهى ، فعاد كل شيء جديداً :

= دع كل هذا الهراء الذي تقوله (( سميرة )) والذي تقوله أنت أيضاً . إننا ننتظرك في موعد الغداء !

قال :
= لا أستطيع الغداء ، فلا بد أن أعود إلى الدار ، فالبيت مشغول على مبيتي الذي لم أتعوده . ولكنني سأحضر آخر النهار .

وعاد فوجد اتفاقاً بين الجميع على تناسي العاصفة ، وعلى أن تسير القصة كما كانت من قبل تسير . وعاد للفتاة إشراقها ، وبدت كالناقهة من وعكة ، تستنشق نسيم الحياة في لهفة وارتياح . وأحس انها خلصت له بعد هذا الإعصار ، وأن جرحه الذي أدمته الأشواك قد اندمل وطاب . وخيم على الجو نوع من الود العطوف والطيبة النقية والسلم والوئام ! .


.