[align=center].

.

.




.. الترام المسحور ..[/align]




مضت أيام بعد المعركة قبل أن يستعيد لنفسه صلاتها بالحياة . وقبل أن يستيقن أن ركب الحياة يسير كما كان من قبل يسير ، وأن عجلة الزمن كذلك تدور ، وأن معالم الكون ومعالم القاهرة لا تزال ! .


مرت عليه هذه الأيام وهو في حالة نفسية غريبة ، ليست عقلا ولا جنونا ، وليست صحوا ولا ذهولا . كان يحس بالدهشة تخالجه كلما رأى شيئا من مظاهر الحياة التي كان يراها قبل الكارثة ! .. وكان قد احتجب في داره أياما من الإعياء ، واستغرق في نفسه وأغلق عليه منافذها ، فلما خرج إلى الطريق أدهشه أن يجدها كما كانت ! وعندما قادته قدماه إلى المحطة بهت بهتة حقيقية وهو يرى القطار الذي كان يركبه إلى المدينة ..... أولا يزال القطار يسير ؟
وإلى أين يذهب بالناس ؟

ووصل إلى المدينة فسار في طرقاتها بنفس الشعور ... وكان كل شيء ممكنا – مع ذلك – إلا أن تقوده قدماه إلى الشارع الذي يسير فيه الترام .. وترامها هي على وجه خـاص !

ورآه مقبلا فحدق فيه ببلاهة ، وكان وعيه غائبا .. ومرت لحظة ونفسه تحدثه ذاهلة : إنه لا يذهب إلى هناك ، فلماذا يسير إلى الترام ؟!
ثم أفاق فروّعه أن يكون وصل إلى هذه الحـال !



****



ودارت عجلة الزمن ، فأصبح يقينا ما ليس باليقين .. وعوّده كر الغداة ومر العشي أن الكون يستطيع أن يكون دون أن يكون حبه الكبير ! .. وأن الحياة تستطيع أن تمضي وإن وقف حبه إلى حدود وأن القطار والترام يسيران وإن لم ينقلاه إلى هناك !

ولكن الزمن لم يستطع أن ينسيه أن لهذا الترام الخاص سمة خاصة تميزه من كل ترام ، إنه ترام مقدس أو مسحور . ويكفي أن يلمح رقمه وهو يسير ليدق قلبه دقات عنيفة ، ولتتحرك خطاه ويهم بالركوب . ثم يصحو فيسخر من نفسه ، ويقف لحظات يسترد فيها هدوءه ثم يسير .

وظلت هذه الرغبة إلى ركوب هذا الترام تراوده فيصدها عن خاطره ، وتعز عليه كرامته ، ويتغلب عليها بالسخرية من نفسه تارة ، وبالتصميم على مغالبتها تارة ، وبالحجة يحاور بها رغبته تارة : لماذا تركب ؟ وإلى أين تذهب ؟ إنه لسخف تفكيرك ذاك !


وذات يوم يقابله زميل له في المدرسة الأولى ، أيام المراهقة ، فيسلم عليه باشتياق الزملاء الغيّاب ، ويجلسان فترة يتذاكران أيام الصبا قيلتقي شعورهما عليها ، ثم يمتد الحديث فيشعر أن هوة تفرقه عن زميله .. لقد وقف تعليم الزميل وثقافته عند حد ، بينما مضى هو يتعلم ويتثقف ويوسع معارفه وتجاريبه ... فلما التقى به كان في واد وزميله في واد ...

ويبرد الحديث ويجد في نفسه فراغا منه ، ويعتزم أن يستأذن .. وحسبه هذه اللحظات .. ولكن زميله يسأله عن عنوانه فيذكر له رقم مسكنه في الضـاحية ! ثم يتقدم إليه الزميل ببطاقته وفيها العنوان ..

ماذا ؟ إنه يسكن هناك ! بل إن داره لا تبعد عن دارها إلا بمحطتين في الترام ... وهنا يعود زميله مخلوقا جديدا في نظره . مخلوقا آخر غير الذي كان .. مخلوقا مسحورا تحف به الأسرار وتحيط به الهالات .

وتراوده نفسه على أن يمد الجلسة .. فيصده عن ذلك أنه استأذن من زميله فعلا .. ولكنه يقول في حراراة واضحة ، ولهجة مضطربة ، لا يزن فيها الكلمات والإشارات :
= آه .. أنت هناك ؟ سأزورك إذن ، سأزورك قريباً !
ويتلقى زميله هذه الرغبة بالترحيب والاستبشار ، ولا يلمح شيئا مما وراءها ، ولا يجول في خاطره إلا انه إعزاز الزميل القديم وشوقه إلى لقياه !



***



ولم يمض يومان يومان حتى كان في طريقه إلى زيارته . لقد وجد المبرر . فما تستطيع نفسه أن تحاجه بعد اليوم في ركوب هذا الترام ! .. ماذا ؟ إنه ذاهب لزيارة زميله القديم العزيز ! ...

ويتحمس لهذا الخاطر حتى ليضحك لحماسته حين يفيق ، وكأن أمامه من يحاجه ويشتد عليه في الحِجاج !

وحين وجد نفسه في الترام .. تنفس نفسا عميقاً طويلا ، ومد قدميه في حجرة الدرجة الأولى ، وارتكن بمنكبيه على حافة النافذة بضع لحظات .

ومضى الترام محطة ومحطة ومحطة .. ثم افاق .. إلى أين هو ذاهب ؟ أماض هو إلى زميله حقاً ، أم ان هنالك غرضـاً دخيلاً ؟

وهتفت به كل ذرة في كيانه : آه لو يلقاها في المحطة أو في الطريق العام ! إنه سيكون في مجالها القريب بعد بضع محطات !
وتوالت المحطات .. وكلما قرب من المحطة المسحورة زاد قلبه خفقانا ، وزادت المعركة في نفسه احتداما ، وساورته خيالات صبيانية ساذجة ، ودار في نفسه حديث طفلي غريب :
= ولو كانت هناك ورأتك ، فماذا عساها تقول ؟
= ماذا عساها تقول ؟ إنني ذاهب إلى زيارة الزميل !
= ومن يدريها هي أنك ذاهب إلى زميلك ؟ ولم لا تؤول مرورك هنا بانك تقصد رؤيتها ؟
= من يدريها ؟ وما ذنبي أنا ؟ وهل هو طريقها الخاص ؟
= ومع ذلك فقد لا تكون هناك !
وهنا يحس بانطفاء في روحه وباكتئاب يغشاه ...... ثم ..... من الخير ألا تكون هناك . فقد تتوهم على كل حال أنني لازلت أهفو إليها بعد كل ما كان !

وبينما تدور هذه المعركة كان الترام يقترب ، وهنا تزاحمت خواطره ، وفقدت نظامها واتساقها : ليتها تكون . ليتها لا تكون . آه لو رآها . إنني أخشى لقياها . لست ذاهبا إليها ، أنا ذاهب إلى صديق ! هه ! هذه هي محطتها ! ... وكانت أنفاسه عندئذ لاهثة ، وعيناه زائغتان . وخبأ رأسه قليلا ثم أطل بعنف ، ودار بعينه دورة سريعة . وتحرك الترام من المحطة ... الحمد لله . إنها ليست هناك ، ولكنه يخمد ويخبو وتركد أنفاسه ، ويغشى خواطره الظلام !



***



واستقبله زميله ! – أو صديقه كما راح يسميه – بحفاوة وبشر وابتهاج ، ولاقاه هو بهمود وبلادة واكتئاب ، وعزا ما به إلى تعب السلم ، وغاص في كرسيه يستريح .

وانقضت الزورة ، وهم بالاستئذان .. وإذا زميله ينزل معه ليودعه ويعرض عليه أن يتمشيا محطتين حتى يفرغ زحام الترام بعض الشيء لأن فريقا من الركاب ينزل عادة هناك .


وأحس بانتعاش قوي لهذا الاقتراح . محطتان . أي انه سيركب من المحطة المقابلة للدار .. وزميله معه ، فهو حجته في زيارة الحي والركوب من هذه المحطة ! وكأنما هناك من سيسأله : لماذا جاء إلى هنا ؟ ولماذا يركب من هناك !


وسار في نشوة وفي قلق كذلك .. سار يتلفت هنا وهناك عسى أن تقع عينه عليها في الطريق أو في الشرفة إو في أي مكان . ولكنه لم يرها ، وبدأ يخمد مرة أخرى . وفجأة يرى أمامه وجها لوجه .. بواب الدار في الطريق العام
= عم سليمان ؟ أهلا وسهلا عم سليمان !
وقال الرجل بلهجته النوبية الخاصة :
= أوه .. إيه حالك يا بيه ؟ والله زمان !
= الحمد لله يا عم سليمان !
وأفعمت اللهفة نفسه أن يسأل عن أهل الدار .. ماذا جرى هم ؟ ما اخبارهم ؟ هل تزوجت ! وألف سؤال وسؤال ..... ولكن كبرياؤه وقفت به لا يلقي أي سؤال .
وقال الرجل في لهجة يخامرها الأسف والأسى :
= فين أيامك الحلوة يا بيه ... ( وسكت برهة ) .. هم كمان عزلوا من زمان !
وانفتح الباب على مصراعيه . ولكنه ظل متحفظا ، فقال في حذر ينفي عنه الريبة :
= نقلوا ؟ لا بد أن يكونوا بعيدا عن الحي !
وقال الرجل : إنهم لم يبعدوا كثيرا فهم في الحي المجاور ..
ولكن بقيت أمامه مشكلة أخرى : أن يعرف بالضبط عنوانهم الجديد .
ولكن لماذا يعرف عنوانهم الجديد ؟ ما علاقته بهم ؟ وهب له بهم علاقة ، فإنه يعرف رقم تليفون أبيها في مكتبه وهذا يكفي !


ولكن شعورا غامضا يساوره : إنه يحب أن يعرف المنزل الجديد ، إنه يحتفظ في مخيلته بصور المنزل القديم ، ويسترجع من هذه الصور حركاتها وتنقلاتها .
هي مرة في حجرة الجلوس توقع على البيانو ، وهي مرة تستقبله على الباب ، وهي مرة في مرافق المنزل ، وهي مرة تنام في سريرها الخاص ، وهي مرة تقفز وهي تقطع الممر القصير في بضع خطوات .... فهو يملك منها شيئا كثيرا ، ولديه منها رصيد مذخور . ولكن في هذا المنزل الجديد كيف يتخيلها ؟ إن صورها مائعة في خياله ، بل لا صور لها إلا ما يحاول الخيال أن يركبه من العدم فلا يسيطيع .


مرت هذه الخواطر في نفسه سراعا والبواب أمامه ، ثم هدته الحيلة ، فقال :
= والله كنت أريد أن أقابل أخاها لأمر هام ، ولكني لا أعرف العنوان !
وهنا أسرع البواب فذكر له اسم الشارع ورقم المنزل وهو يقول :
= (( والله ناس طيبين زيك يا بيه .. مين يعرف ؟ يمكن برضه يكون لكم نصيب ! ))


واستروحت نفسه هذه الكلمات استرواح الظلال في الهجير . إذن هي لم تتزوج بعد ،و من يدري فقد تكون هنالك بقية .. ألا يقول ذلك الرجل البواب ؟!

وارتد إليه نشاطه ، ووثبت خطواته ، ووقف ينتظر الترام على المحطة مع صديقه حتى جاء فركبه ومضى في نشوة وانطلاق .



***



وغالبه الشوق الجارف لأن يتعرف الدار الجديدة . ولكن إرادته كانت أقوى ، فلم يحاول ذلك أياما طويلة ، إلا أن زياراته لصديقه لم تنقطع ، فالحي الجديد في طريق الحي القديم !

وفي كل مرة كانت تدور المعركة ذاتها ، وتنتهي الزيارة كما تنتهي إلا انه في مرة تشجع فطلب إلى زميله أن يرافقه ليتمشيا في الحي الذي ذكره البواب ، لأنه يريد أن يسأل عن شأن له هناك !

وكان وجود زميله معه هو المبرر الرسمي لوجوده وسارا حتى وصلا إلى الشارع المطلوب ، وظل يتصفح أرقام البيوت دون أن يلفت زميله ، وكلما قرب من الدار ارتفعت دقات قلبه وبدا عليه الاضطراب .

وحميت المعركة التي دارت في أول مرة ، وزاد الإحراج أنه يسير هنا ولا يركب الترام ، وازدحمت الهواتف والرغائب والمخاوف حين صار أمام المنزل ... ولكن هاهي ذي نوافذه مغلقة ولا شيء هناك ! .

وكان الجهد قد نال منه ، وبدا عليه الإعياء ، فلم يجد مشقة في إقناع صديقه أنه متعب ، وأنه يحسن أن يعود فيأخذ الترام .



***


ولم يحاول بعد ذلك أبدا أن يمر في هذا الحي ، لقد اطمأن إلى معرفة الدار ، كأنما هذا كل ما هنالك , ولكنه لم يتخلف عن زيارة صديقه والمرور على الشارع الذي به الدار من بعيد في الترام !

وفي يوم يلقى زميله في القاهرة ، فيسرع إليه ليخبره أنه ترك داره القديمة إلى عنوان جديد ، ويخرج من جيبه ورقة ليكتب له فيها العنوان الجديد !

وأخذ أخذة شديدة ، وخيل إليه لحظة أنها عملة سخيفة جداً ! .. وكاد لسانه يفلت فيؤنب الرجل عليها ! .. ولكنه يتدارك نفسه .. ويخفي تجهم وجهه وملامحه ، ويتناول الورقة في برود فاتر : لقد سقطت حجته في أن يذهب بعد اليوم إلى هناك !

وقال الرجل في براءة : ستزورني طبعا في عنواني الجديد ! .. قال في برود وشرود : إن شاء الله .. إن شاء الله .





.