السلام عليكم

هذا لقاء مع الشيخ سلمان العوده نقلته إليكم

اللقاء قديم .. في عام 27 هجري .. ولكنه جميل


الحميدي المريبيط - مجلة المختلف 20/12/1427 10/01/2007


الغوص في أعماق الرموز واستعادة الذكريات شيء يعيد للحياة طعماً نستلذ به عندما تدور بنا دفة السنين إلى مرحلة أولية من العمر .. إلى أحداث وأيام ومواقف مرت بنا .. هكذا يكون الحديث في محطة استذكار مراحل حياتية عندما يفتح لنا الشيخ والداعية الكبير الدكتور سلمان بن فهد العودة قلبه ويقرأ علينا تفاصيل حياته التي ستكون بلا شك دروساً نتزود بمعارفها ونحتفظ لتجاربنا منها الشيء الكثير .. فإليكم كتاب حياة " سلمان العودة " الذي حاولنا اختصاره في هذه الصفحات ..

لمرحلة الطفولة ذكريات خاصة فما الذي تختزنه ذاكرة الدكتور سلمان العودة عن مرحلة الطفولة ؟

- الذاكرة عادة مليئة بذكريات الطفولة ، فهي الرصيد ألكبير في مخزون ذاكرة الإنسان ، والأكثر تأثيراً ، من يستطيع أن ينسى أغنيات الأمومة وأحاسيسها المرهفة التي تلاحق الطفل أينما كان ؟ من ينسى براءة الطفولة وسذاجتها المحببة البعيدة عن التكلف والخداع ؟ من ينسى عبث الأطفال وشقاوتهم ومشاكستهم وصياحهم ؟ يبدو أن الإنسان متطلع للرجولة ومستعجل إليها ، فإذا بلغها بدأ التفاته إلى الوراء ليستعذب أيام الطفولة ويتمثلها .. ولا يستطيع أن يعود أدراجها بأكثر من أن يمنح أطفاله الفرصة في أن يعيشوا طفولتهم بعفوية وصدق وبراءة وألا يسرق فرحتهم بكثرة التدخل والحرمان !

عشت ونشأت في "بريدة" فكيف كانت الحياة آنذاك ؟ وما الذي تغير وما الذي بقي؟

- تغير الكثير .. بيوت الطين التي كان المطر يخترق سقوفها ، أو أحواشها اتلي كانت مياديناً للعب الكرة أو لصراع ألأبناء ، تغيرت بعض أنماط العلاقة الحميمة بين القرابة والجيران ، تغيرت تجمعات الفتية في الحارات والأزقة ، تغيرت الحياة الاجتماعية المفعمة بالروح الواحدة الواعدة ..وبفي الكثير .. بقية من مظاهر الروح الصافية العفوية ، ومظاهر حسن الالتزام التعبدي والتي تظهر في التجمعات والأمسيات الجميلة في رمضان واحتشاد المصلين في التراويح .

كانت تربية الآباء للأبناء في زمنكم قاسية نوعاً ما ، فكيف كانت علاقة الشيخ فهد العودة بسلمان وأشقائه ؟

- والدي كان متعلماً ويقرأ القرآن من المصحف ، كان تاجراً قديماًُ ورث التجارة ميلاً عن والده الذي يدين أهل المنطقة ، كان عصامياً منذ طفولته ويتمه ، عمل في رعي الغنم وهو ابن الست سنوات ، كما عمل أجيراً في الزراعة ، شخصيته الفطرية كانت رائعة،فهو طيب الخلق ، صبور ، متسامح ، هادئ ، وبهذا عرف كيف يربي أولاده بعيداً عن القسوة ، حتى حينما يكشف أن أحد الأولاد قد اختلس من الدكان شيئاًَ ، أو أن في البيت جهاز مذياع أو مسجل ، كان يتجاهل الأمر ويعالجه بحكمة ، ونادراً ما كان يضرب وإن ضرب فمس خفيف للتأديب والترهيب ، وليس للإيلام والتعذيب ، كان يمنح الأولاد حقوقهم ويسمح لشخصياتهم بالظهور الطبيعي بعيداً عن المصادرة والإلغاء .

من أشهر الأسماء التي رافقتك في طفولتك ولا زالت مرتبطة بك؟

- لكل مرحلة رجالها ، هذه حقيقة ، والميل للاتصال بالناس يكثر الأصدقاء ويوسع العلاقات ، فالذاكرة تحتفظ بآلاف السماء منذ عهد الطفولة إلى الآن ، وكثيرون هم الأصدقاء الذين أبعدتهم الحياة عني ، أو أبعدتني عنهم ، ولكن تبقى الذكريات الطيبة ، علمتني الأيام أن أبحث عن عذر لكل الذين يغيبون عني ، أو أغيب عنهم ، ليس صحيحاً أن يعتبر المرء نفسه مركز الحياة فينسب الناس إليه ، أو يحاسبهم بمقياسه .

مرحلة الدراسة لها ذكريات خاصة أيضاً .. لنتحدث عن جميع المحطات التي استوقفتك في مراحلك الدراسية ؟

- نذهب للمدرسة راغبين ثم ننصرف عنها كارهين .

لماذا؟

- لأنهم يعلمون الطفل الكلام والحركة ، ثم يأمرونه بالجلوس والصمت ، درست سنتين في القرية ، ثم انتقلت إلى مدرسة "الحويزة" ومن المدرسة أمسكت بأول خيوط الطريق فتعلمت القراءة ، ومن " الحراج أي المزاد " والمكتبات القليلة بدأت رحلة الشراء ، فقصص السندباد ، والزير سالم، والمهلهل ، والإسراء والمعراج .. والمجاميع الكثيرة التي كانت مصدر متعة ومعرفة وإلهام ، إلى جانب تفسير ابن كثير ورياض الصالحين وكتاب الكبائر وهي أول كتب جادة اشترتيها . ومن يومها أصبحت القراءة جزء لا يتجزأ من البرنامج اليومي ، أو وجبة دسمة لا يستغنى عنها ، وفي نهاية الابتدائية اشتريت "فقه السنة" لسيد سابق ،وحملته بحبور إلى المنزل متمنياً أن يقابلني أحد أساتذتي ليشهد ميلاد أحد القراء ، أما المتوسطة والثانية كانت في المعهد العلمي ، وفي المعهد تركيز على المعرفة الشرعية واللغوية ، كانت مدرسة فعلاً ، وفيها اتصلت بالشيوخ الكبار أمثال الشيخ صالح البليهي صاحب " السلسبيل"وصاحب الروح الفياضة والدعابة والابتسامة الصافية . في المعهد حفظت الكثير من القرآن والحديث والشعر العربي ، وتعلمت فنون الإلقاء عبر خشية مسرحه ، واندمجت في نشاطاته التربوية الكبيرة ، وتعرف إلى الجديد في عالم الثقافة الإسلامية ،كان المنفلوطي مقرراً علينا في العبرات والنظرات – مادة المطالعة ، ولذا قرأت كتبه ، ثم الطنطاوي في " رجال من التاريخ " و " قصص من التاريخ " فاستدرجني لقراءة كل ماوجد من كتبه باستثناء مذكراته لتأخرها ، وحاورت "الرافعي" لإعجابي بعاطفته الإيمانية لكني وجدته صعب العبارة ميالاً إلى الإغراب فاكتفيت بحب قلبي لوحي القلم ، قرأت " العقاد" ولم أتوسع فيه لعي كنت متأثراً بالمعركة بينه وبين دعاة المحافظة ، وإلى جانب هذا كانت القراءة السلفية قائمة عبر المقررات المدرسية ، وعبر حلقات العلم في المسجد ، والجهد الشخصي في المتابعة والإطلاع . التحقت بكلية اللغة العربية لمدة سنتين ، ثم انتقلت إلى الشريعة ، وتخرجت منها ، وفيها تتلمذت على أيدي عدد من الشيوخ ومن كافة الأقطار ، وعلى رأسهم الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين الذي جاء كأستاذ زائر للكلية قبل أن يتحول إلى مدرس فيها أما زملاء الكلية فلا زلت أحتفظ بعلاقات طيبة معهم .

زملاء دراستك هل مازالوا يواصلونك ؟

- الود باق ، والمشاغل مهما بلغت باعدت الأجساد ، لن تؤثر في القلوب ، ولا يستطيع الإنسان أن يوفي جميع الناس حقوقها ، ففيه الأصدقاء والقرابة والجيران والأساتذة والطلاب ،ومن المفروض أن يكون هناك تواصل وود ، وألا يكون التباعد صرفاً ولا الانشغال هجراً ، وهذا ما أحرص عليه .

دائماً يشير الإنسان إلى من وقفوا معه وساندوه فمن هو الشخص الذي يدين له الشيخ العودة بالفضل بعد الله ؟

- في تراثنا الشعري كثيراً ما يتجه المشاهير لهجاء الناس ، كما قال ابن صمادح : وزهدني في الناس معرفتي بهم وطول اختياري صاحباً بعد صاحبِ فلم تُرني الأيام خـلاً يسـرُني بَواديه إلا سـاءني في الـعواقـبِ ولا قلت أرجوه لكشف مصيبة من الدهر إلا كان إحـدى المصائب ويروى أن الحريري قال لولده عند موته : لا تغتر ببني الزمان ولا تقل عند الشدائد لي أخ وحميم جربتهم فإذا المعـاقر عاقر والآل آل والحميـم حميم وهذه لغة لا أؤمن بها ، فمن الناس إلا أنا وأنت ؟ وربما أن هذا من الأنانية أن ينتظر الإنسان من الناس فوق ما يجب ، أو أن يتعامل بفوقية وتسلط وكبرياء ، ولو تأمل المرء مسيرته لوجد الآلاف من الناس الذين ساندوه في مراحل حياته ممن يعرفهم أو يجهلهم ، وكان "الشافعي" –رحمه الله- يقول : الحر من راعى وداد لحظة ، أو انتمي لمن أفاده لفظة .. وأنا أحاول أن أكون حراً ، ولعل ذكر اسم لا يعني نسيان الباقيين ..فأنا مدين لكل أستاذ أو معلم أو شيخ أو أخ صحبني يوماً أو ساعدني أو صوبني أو أسدى إليّ معروفاً ..وما أكثرهم !

بعد تخرجك من الجامعة عملت معيداً في الجامعة وهناك بدأت علاقة أخرى فكيف وجد الشيخ الجو العام في قاعات جامعة الإمام محمد بن سعود ؟

- بعد الجامعة أثرت الإعادة فراراً من القضاء ، ثم تنصلت منها وعملت مدرساً في المعهد الذي تخرجت منه لأربع سنين ، تعاملت فيها مع أساتذتي القدماء كزميل جديد .. كانوا يرون حماستي فيبتسمون ويقولون :"بشر الزرع بفلاح جديد "! وتعاملت مع الطلاب الصغار في الأولى متوسط إلى الكبار في ثالث ثانوي والذين لا تفصلني عنهم سوى أربع سنوات ، وكان همي الأكبر ضبط الفصل في معهد يتناقل الحدّاث أخبار الشغب فيه ، ثم انتقلت إلى الإعادة دراسةً وتحضيراً للرسالة العلمية التي كانت عن أحاديث الغربة في السنة دراسةً وتحقيقاً ، وأثناء ذلك كنت أعطي محاضرات في فرع الجامعة بالقصيم في مادة الحديث النبوي ، وقد استفدت من تجربتي في المعهد بطريقة التعامل مع الطلاب ، من حيث عدم الحساسية تجاه السلوك الشبابي العفوي غير المنضبط ، والتسامح بشأن الأسئلة والطروحات الخارجة عن المنهج ، لم يعد المدرس يشعر وهو يدلف إلى الفصل أنه يتهيأ لمواجهة خصم لدود ، أو لخوض معركة شرسة ! بيد أن جامعاتنا تحتاج إلى عناية أكبر بالجانب المعرفي الأكاديمي ، وعدم الاقتصار على الأسلوب التقليدي في الإلقاء والعرض ، والاهتمام بالمعاصرة والتجديد ومعالجة النوازل ، وفوق هذا وذاك تحتاج إلى تأسيس العلاقة بين أفرادها وقياداتها على أساس الثقة والمحبة والاحترام وحسن الظن وقبول التنوع ، ومجانبة المشاعر السلبية التي تنشأ بين الأقران والمتنافسين ، فالمنافسة الشريفة تكون بمزيد من التحصيل والمعرفة وتحديث المعلومات ، وليس بالتغاير وتعويق الآخرين .

تأخرت كثيراً في نيل درجة الدكتوراه ، فما الأسباب التي أدت إلى ذلك ؟

سجلت الدكتوراه بعد الماجستير مباشرةً وكان حول موضوع التشبه وأحكامه ، ثم أبدلته بموضوع التشبه وأحكامه ، ثم أبدلته بموضوع شرج الطهارة من بلوغ المرام ، وسجل في جامعة الإمام ، ولا يزال مجمداً وإزاء ذلك قدمت الموضوع بذاته لإحدى الجامعات الشامية وتم قبوله ، والموضوع عبارة عن مادة ألقيتها في دروس المسجد (الجامع) بـ"بريدة" ثم صححهتها ونقحتها واعتنيت بها ، وحرصت أن يتولى الإشراف عليها في قامة معالي الشيخ عبد الله بن بيه ، وأن يتولى مناقشتها شخصية علمية كالشيخ عبد الله بن جبرين . أما سبب التأخير فيعود على تأثر الجامعات بالظروف السياسية وترددها في إمضاء إجراءاتها القانونية أو إيقافها .

دعنا ننتقل إلى الجاني الشخصي في حياتك وما يتعلق بالزواج ، فأعتقد أنك مرتبط بزوجتين .. أليس كذلك ؟ .. شيخي اعذرني في دخولي في خصوصيتكم ، أسألك عن متى كان هذا الزواج وكم لديك من الأبناء ؟

لدي بيتان وثلاثة بنات هن : غادة وآسية ونورة ، واثنا عشر ولداً أكبرهم معاذ وحفيدة واحدة هي :ريماز بنت معاذ .

علاقتك مع أبنائك هل تشابه ما كان عليه والدكم أم تغير بتغير أحداث الزمن ؟ حدثنا عن هذا الجانب ؟

أمنح أبنائي تجربتي بعفوية دون تكلف ، وألتمس جرعة من السعادة والهناء في العيش معهم ، والاجتماع على وجبة طعام أو سفرة أو سهرة أو نار تدافع صقيع الشتاء ، الثقة ضرورية للتربية ، لا يجب أن تحكم الأخطاء علاقتنا ، بل تعالج بحكمة وهدوء وبطريقة مباشرة ..بصراحة : أستحي من مواجهة أولادي بما يكرهون ، ولكني أعالج ما لا يعجبني بأسلوب أو بآخر ، وأحرص على أن أكسب المزيد من حبهم واحترامهم ،وأعبر لهم دوماً عن هذا الإحساس .

سفرياتك مستمرة فها أزعج ها الأمر عائلتك ؟

يبدو أن حب السفر فطرة عند الكثير ، ولعلي منهم ، وأظن بقائي في السجن لفترة طويلة حفز لدي الرغبة في التعويض ، وهذا يبخس حق الأسرة ولكني أعوضهم باستقطاع وقت كاف للاجتماع بين الفينة والفينة ، وبسفر سنوي للعائلة بعيداً عن هموم الحياة .



يتبع