



-
مهندس الكلمة
بحث في اصل تسمية رفحاء ( القسم الثاني )
تحيات طيبات عليكم , اعود لأكمل ماكنت قد بدأته في الجزء الأول وقبل دخولي الى متن الموضوع , اريد التأكيد على انّ ما اكتبه من رأي هو محض محاولة في الوقوف على اصل مادة رفح في التراث المعجمي العربي والسامي في محاولة للوصول ان كانت هي ذاتها اصل تسمية رفحاء ؟
ولأنها المحاولة الأولى من نوعها فلا اعفي نفسي من الخطأ ومفارقة الصواب اذا ما رأيتموه , انه اجتهاد شخصي , ان اصبت فلي اجران وان لم اصب فأجر واحد وحسبي هذا .
اعود ثانية فأقول , عندما نقول ( حماد الرويان ) فهل يجب التعامل معه كأسم علم لا يحمل معنى في ذاته ؟
لا ابدا .. فحمّاد اسم علم على وزن فعّال , وفعّال من اوزان وصيغ المبالغة في اللغة العربية كقولنا : همّام و هذّال و عمّار ...
وجذره الثلاثي ( حمد ) وحمد جذر سامي مشترك ( اي انه موجود في اكثر من لغة جزيريّة قديمة كالعربية والأرامية والبابلية والآشورية والعبرية والكنعانية والفينيقية والعربية الجنوبية والحبشية ...... )
ولقد ورد جذر ( حمد ) للمرّة الأولى بصيغته الثلاثية في التوراة الكنعانية كأسم علم لشخص يحمل مظاهر مقدّسة , وكان هذا قبل ظهور الأسلام بأكثر من 1500 سنة , ولقد خشي من ذلك احبار اليهود لعلمهم ان اسم حمده لرجل ليس من العبران وله شأن روحيّ ولاهوتيّ كبير , لذا حاولوا طمسه ومحوه من التوراة , وهذه اشارة عظيمة الى النبي الكريم محمد ( ص ) وهذا الأمر معروف بين جماعة من علماء اللاهوت ومعروفة ايضا المحاولات التي بذلت لأمحائه وطمسه .
وهنا اريد ان الفت نظركم الى ان الأقلاب في جذر حمد يمنحنا ذات النتيجة ( حمد = مدح ) . لأنني اليوم في معرض الحديث عن القلب اللغوي , وهنا سأحاول ان اعطيكم تصورا عن الأقلاب واثره في العملية الأشتقاقية ,
اوّل من تعامل مع الأقلاب كفنّ اشتقاقي في اللغة العربية هو ابو الفتح بن جني في كتابه الخصائص وسمّاه ( الأشتقاق الأكبر )
ولكن اوّل من عمل به كان استاذه ابو علي الفارسي , اذ كان يستعين به على معرفة اصول الكلم , ومن يعرف كتاب العين للفراهيدي وهو اوّل معجم وضع في اللغة العربية في بدايات عصر التدوين ( توفي الفراهيدي عام 175 هج ) , سيجد انه استخدم في كتابه اسلوب تقليب الجذر الثلاثي على وجوهه الستة والأشارة الى المستعمل منه في كلام العرب وكذلك الى المهمل اي الذي اهملته المعاجم العربية .
فمثلا مادة ( كلم ) فيها خمسة تقاليب مستعملة وهي ( كلم , كمل , لكم , مكل , ملك ) وجميعها تدلّ على القوّة والشدّة اما تقليبها السادس ( لمك ) فقد اهمل لأنه لم يأت في ثبت . وذات الأمر مع مادة ( رفح ) فتقاليبها المستعملة هي : ( رفح و حرف و فرح و رحف و حفر ) وفيها تقليب واحد مهمل وهو ( فحر ) وهي تدلّ على التحوّل والتبدّل من من البعد والتفرّق الى الجمع والألتئام .
فرفح الحاء فيها مبدلة عن الهمزة , اي رفأ والرفاء هو الألتئام والأتفاق والبركة , ورفأ تزوّج والزواج هو الألتئام الذي يحصل بعقد يشتمل على القبول والأيجاب بعد التفرّق والبعد اما ( حرف ) فهو الطرف والجانب وبه سمّي الحرف من حروف الهجاء , فهو لا ينبذ ما فيه من بعد الاّ اذا جمعته الكلمة بين ثناياها فيصبح دالاّ على الشيء بأجتماعه مع غيره , من البعد والأفتراق الى الجمع والألتئام وكذلك ( حفر ) فالحفر هو مفارقة السطح الى العمق , وفي العمق تكمن فائدة الحفر بالوصول الى الماء , وهنا يصنع الحفر الماء الذي هو البركة و ( الفرح ) هو مفارقة الحزن والأبتعاد عنه الى الجذل والبهجة التي فيه, اما ( رحف ) فعن ابن الأعرابي : ارحف الرجل اذا حدّد سكينا او غيره , يقال ارحف شفرته حتى قعدت كأنها حربة , اي صارت , ولا بدّ من انكم لاحظتم التبدّل الذي تحيلنا اليه صيرورة السكين الى حربة ليمنح السكين حالة اخرى من التماسك والقوّة لما اجتمعت به الرهافة , ويرى الأزهري ان الحاء في ارحف مبدلة عن الهاء والأصل ارهف, وسيف مرهف ورهيف اي محدّد .
واودّ في هذا المقام التأكيد على انّ ظاهرة الأقلاب , ظاهرة سامية ( جزيرية ) ولا تختصّ بها العربية وان كانت اكثر غنى واقدر على الأشتقاق والتوليد , فكلنا سمعنا عن عمرو بن معدي كرب وهو من الفرسان و الشعراء المخضرمين , اي ممن ادرك الجاهلية والأسلام , وهو صاحب الصمصامة ( سيفه ) , فهل نمنح انفسنا فرصة لنتأمل اسم ابيه ( معدي كرب ) ما معناه ومن اين جاء ؟
معدي كرب اسم علم مركّب تركيبا اضافيا وهو جملة اسمية تامّة تعني في العربية الجنوبية ( غنيمتي بارك ) وهو خطاب موجّه الى الآلهة لتبارك ما يغنمه من اعدائه . وهنا نرى ان مفردة كرب ادّت معنى ( برك ) وهو جذر المباركة بالأقلاب اللغوي , وكذلك الأمر مع مفردتي : ( جذب و جبذ ) بمعنى سحب و ( اضمحلّ و امضحلّ ) وكلّها تؤدي ذات المعنى او من ذات الوحدة القرابية بين المعاني .
وهناك ايضا ما يعرف بالأقلاب الذي تتوافق فيه لغتان واحيانا اكثر كما في العربية والعبرية او العربية والآرامية والأرامية والأشورية ..... ولتمثيل هذه الحالة سأكتفي بأمثال قليلة للأشارة الى الظاهرة دون الولوج في تفاصيلها , فمثلا مفردة سوسن يقابلها في الأكدية ( سسنو ) ومفردة اسار وهو القيد في العربية يقابلها في الأرامية ( اسرا ) ومفردة ركع تقابلها مفردة ( كرع ) بالعبرية وتؤدي معنى الركوع ايضا.
اما الأقلاب بأسماء المدن والأمكنة فسأكتفي بمنطقة عسير , فهناك مكانان مقلوبان عنها وهما ( سعير ) في وادي ادوم , والمكان الآخر بذات الأسم ايضأ ( سعير ) وتقع في جنوبي منطقة الصحن التي تتصل بالمعانية , وتقع في اقصى الطرف الغربي من بادية السماوة وتمتد الى حتى تتصل بأقصى الطرف الشرقي من صحراء النفوذ حيث تقع رفحاء . وسعير وعسير مفردتان تعطيان معنى الشدّة والعسر , وربما سمّيت سعير بهذا الأسم لحرارتها اللافحة .
اخلص من كل هذه الأمثلة ومختلف الظواهر اللغوية والجغرافية التي حاولت بيانها لكم , ومن اسماء جمهرة واسعة من اسماء المدن والأعلام والألفاظ في المعجمية العربية والسامية , وبعد ان وازنت وقارنت بين مختلف المقدمات التي عرضتها , ان مفردة ( رفحا ) هي مقلوب مادة ( حرف ) والألف قد تكون من بقايا لغوية كانت شائعة في هذه المنطقة , كما في مناطق لوقا وبدنا وبئر الحبقا , ولا استبعد ان تكون موازية لألف ولام التعريف كما وضّحت لكم في الجز الأول من البحث , اما كتابتها مع اثبات الهمزة في نهايتها اي ( رفحاء ) فهو لزياة تفصيحها وتعريبها كما هو الأمر مع مدينة تيماء التي نطقها الآراميون ( تيمو ) وعثر على صيغة اخرى لنطقها في الكتابات التدمرية وهو ( تيمي ) وذات عملية تفصيح اسماء المدن القديمة يمكننا ان نلمسة في اسم مدينة ( الوركاء ) التي كان اسمها في الكتبات السومرية والبابلية القديمة ( اور و احيانا اوروك ) .
ان جذر ( رفح ) وبعد اخضاعه لمبدأ القلب اللغوي في علم الأشتقاق استخرجنا منه جذر ( حرف ) الذي يعني الطرف والشفير والحدّ , ولا يؤدي الحرف معنى الجانب وحسب بل وايضا الوحدة والتفرّد . ففي قوله تعالى ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) الحج -11 اي على وجه واحد , وفي معنى التفرّد الذي تحيلنا اليه المفردة فسأضرب مثلا بالجمل , اذ ان الحرف من صفات الناقة ففي كتاب الأبل يذكر الأصمعي انها الناقة المهزولة ويرى الصغاني في كتاب العباب الزاخر ان الحرف هي الناقة الضامرة تشبيها لها بحرف السيف , وكذلك الناقة العظيمة يشبّهونها بحرف الجبل اي طرفه , وفيها قول لذي الرمة :
جماليّة حرف سنادها يشلّها .... ( الديوان 1 _ 471 ) . وكما ترون فأن هذه الصفات تشمل الناقة اذا تفرّدت في نعت ووصف مخصوص بها .
كذلك اريد ان اشير الى ان رفحاء شهدت احداثا تاريخية كبيرة وتعاقبت عليها اقوام عدّة . ففي عملي على الأطلس التاريخي الذي اعدّه الدكتور حسين نصّار والبحث القيّم الذي انجزه الدكتور طه الهاشمي قبل نحو نصف قرن ومن خلال متابعتي لمسير الجيوش الأسلامية ابان حرب الفتوح استطعت ان اتبيّن مرور مجموعة من الجيوش والسرايا خلال الأرض التي تشغلها رفحاء . ولوجود آبار الماء في ( قارتها ) اي في حرف جبلهاالذي يقع في شمال غربي المدينة , فليس من المستبعد ابدا ان تكون الجيوش التي قطعتها قد اقامت لبعض الوقت وتزوّدت بالماء قبل متابعة مسيرها , خصوصا وان الوصول الى رفحاء كان قد تمّ بعد ان قطعت جزءا كبيرا من صحراء النفود الكبرى . وبأمكاني التأكيد على ان الجيش الذي خرج به سعد بن ابي وقاص يريد العراق قد مرّ بها , وكذلك جيش خالد بن الوليد بعد عودته من الأنبار لفتح دومة الجندل , ومن هنا نشأت التسمية , اي من الآبار التي تقع في حرف الجبل , وقد تكون اعمق تاريخيا , اي ان تكون التسمية من وضع اقوام اخرى استقرت في المنطقة او نزحت اليها من مناطق مجاورة , ومع تقاطر السنين والألسنة والأقوام ومع عمل المخيال الجمعي والذاكرة الشعبية تحوّلت المفردة من حرفا الى رفحا .
ولكي ادفع الرأي الذي ذهبت اليه سأقوم الآن بتعزيزه جغرافيا , فكما علمنا ان الحرف هو الطرف والجانب , فسيكون لموقع رفحا منذ القدم في طرف ( حرف ) الحيرة واحلافها , اي لخم وشيبان وتمتدّ احيانا لتشمل بكر وربيعة , ربما بعض الأثر في نشوء التسمية , كذلك فأن رفحا تقع في طرف الجزء الشمالي الشرقي لصحراء النفود , وايضا فأن موقعها يجمع طرفي الباديتين الكبيرتين السماوة والشام , والطرف كما رأينا هو الحرف والجانب والحدّ .
والرأي الثاني الذي اذهب اليه والذي يعتمد عليكم انتم سكانها واهلها لأقراره او نبذه وتركه , فعند بحثي قبل اشهر في معنى مفردة ( رفحا ) افترضت انها قد تكون اسما لنبات من نباتات البرّ والبوادي , فأخذت اراجع المصادر الأوربية والعربية سواء الحديثة والموروثة , وللأسف لم اقع على اسم نبات له شبه بجذر ( رفح ) ولكني وقفت على نبات آخر وهو ( الحرف ) بضمّ الحاء وقرأت عنه ما توفّر لديّ من معاجم وكتب النبات والطب كمفردات ابن البيطار وقانون ابن سينا وقالوا في صفته : الحرف هو حب الرشاد , واضاف الأزهري انه حب كالخردل , اما ابن سينا فقال عنه انّه شديد الحرافة , والحرافة هي الطعم الحار اللاذع , وذكر معلومة وجدتها تقترب بعض الشيء مما اريد اذ اكّد ان الحرف نبات برّي , اي ينمو في البرّ ويستخدم في تركيب علاجات كثيرة للشعر المتساقط وللورم البلغمي ويستعمل مع الماء والملح ضمادا للدماميل وهو ينفع من عرق النسا , فأذا كان هذا النبات مما ينتشر في رفحاء او برّها او ما جاورها من مناطق واراض فقد يكون تعزيزا آخر للرأي الذي ذهبت اليه من ان الأصل في تسمية رفحا هو الحرف خصوصا وان معاجمنا تخلو ( تماما ) من هذا الجذر بالمعنى الذي يدلّ على المدينة .
اشكر لكم صبركم على مطالعة هذا الموضوع رغم العناء والتعب الذي قد ينالكم منه , ولكنه رأي حاولت ان ادعمه بما توفّر لديّ من رؤية ومصادر مختلفة وبصيرة . وارجو ان اجد من يناقش النتائج التي توصّلت اليها لنبلغ الغاية التي تهمّنا جميعا , وهي الأصل في تسمية هذه المدينة الطيّب اهلها , ومن اراد التحقّق من ايّ ومعلومة ذكرتها , فما عليه سوى ان يراسلني برسالة خاصة وسأذكر له المصدر مشفوعا بمكان وسنة طبعه ورقم المجلد والصفحة ,
اخيرا اهدي هذا الجهد الذي استغرق مني عشرات الأيام والساعات والمصادر لرفحاء واهلها الذين حللت عليهم ضيفا منذ سنين خلت . مع غاية مودّتي لكم جميعا
صلاح
التعديل الأخير تم بواسطة salah ; 26 Dec 2002 الساعة 09:33 PM
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
قوانين المنتدى
مواقع النشر (المفضلة)