[align=center]
.


:

.

.[/align]

[align=center].. صراع .. [/align]



استقبلته مشرقة متهللة كأن لم يكن بالأمس شيء ، واستقبله الجميع في ابتهاج ، وقدم لها زجاجة العطر الثمينة . وبدلاً من أن يزيد هذا في إشراقها وتهللها . لاحظ في يدها رجفة وهي تتناول الهدية ! فانقبضت نفسه ، وتذكر خاتم الخطوبة ! وغاض البشر في وجهه على الرغم من تظاهره بالبشاشة .

ولم يلحظ أحد من أهل المنزل شيئاً مما حدث . بل بدا عليهم وعلى الأم خاصة نوع من الاستبشار المتخفف الطليق . كانوا قوماً طيبين ، لا تنطوي نفوسهم على شيء من التركيب والتعقيد . وكانوا مغرقين في ثقة مريحة بمستقبل ابنتهم السعيد ، مع هذا الشاب الودود . وكانت ألفته بهم قد توثقت خلال فترة طويلة ، فعاد فرداً من الأسرة ، موثوقا به كل الوثوق ، محبوباً من كل فرد في المنزل ، حتى من كلبهم الصغير الذي كان يبصبص له بذنبه ، ويتواثب على قدميه ، يشاركه في ذلك أخواها الصغيران !

وانطلق الجميع إلى لون من ألوان الحديث المرح اللطيف ، يناسب جو الخطوبة السعيدة ! ثم أخذ الجميع ينسحبون واحداً إثر واحد ، ليخلو الجو للخطيبين السعيدين !



***


قالت – بعد أن خلا بهما المكان – وقد علا وجهها نوع من الجد والكآبة :
= اسمع يا سامي ... أرجو أن لا تحضر لي شيئاً من الهدايا !
وأحس لهذا الحديث بوقع الشوك المسموم ، فقال في ألم يخفيه :
= ولماذا يا سميرة ؟
قالت :
= لا أستحق !
قالتها في وجوم ثقيل ، وفي همود حسير . وطأطأت رأسها إلى الأرض كأنما هي آخر كلمة تقال !

قال :
= اسمعي . إنني لا أستريح لمثل هذه الكلمات . فهل لديك حديث آخر ؟ من فضلك أنا لست في حاجة إلى المزيد .
ولمحت في وجهه مرارة ، وفي قسماته وجوماً . فحاولت أن تغير الجو بابتسامة مغتصبة .ولكنها راحت تقول :
= صحيح ! أنا لا أستحق منك كل هذا الاهتمام . إنك إنسان طيب القلب ، خالص النية . أما أنا فبنت شريرة من الذي يرى كل هذا النبل ثم لا يخلص لك . ولكن أنا . أنا التي تسيء إليك في ليلة خطوبتك !

وأربد وجهها وتغيّر ، وهي تلقي إليه بالكلمات الأخيرة . وهنا واجهته المشكلة كلها ، وقد كان قد ركنها جانبا ، ووخزته الأشواك بحدة ، فبدت على وجهه أمارات الألم الحاد . وأدركت بغريزتها الفطنة حقيقة الألم وعمقه ، فارتدت بسرعة إلى الجانب الآخر .

قالت في تودد مغر ، وفي استسلام وديع :
= ولكنني أرجو أم تكون بجانبي . وألا تدعني وحيدة . إنني أستطيع أن أقاوم الماضي ، وأن أنتزع الأشواك حين أراك معي ، أستمد منك الثقة والحرارة . وإنك لصاحب حق في أن تمتليء نفسك بالشوك ، وفي أن تقطع ما بيننا كله ، وأن تفصم هذه الخطبة المعقودة ، وأن تسترد (( شبكتك )) أو تطوح بها في الفضاء . ولكن لتذكر مع ذلك أنني كشفت لك عن كل شيء راغبة غير مضطرة . وأنني أثق بك ثقة لا حد لها ، وأن أحداً من اهلي – حتى أمي – لا يعلم شيئاً مما حدثتك عنه ، واعترفت لك به ...... إنك الآن الرجل الوحيد الذي أعوذ به من الماضي وألوذ به من الأشواك !!!

ونظر إلى جبينها المطرق ، وإلى عينيها الذابلتين فإذا كل معاني الاستسلام : (( إنك الآن الرجل الوحيد ، الذي أعوذ به من الماضي ، وألوذ به من الأشواك )) !
قال :
= وهو ؟ ما رأيه ؟ وما موقفه من موقفك الآن ؟
قالت :
= لست أدري . فإني لم أعد أراه . لقد رفضوه كل الرفض حينما تقدم لخطبتي قبل عام .
قال :
= ما رأيك في أنني أحب أن أراه ؟
قالت :
= تراه ؟ وماذا تصنع به ؟ ( وبدا عليها الاضطراب ) .
قال :
= لست أدري ، ولكن لا بد لي أن أراه !
قالت متوسلة :
= لست أفهم معنى هذا الإصرار ، نفسي تحدثني أن الخير في ألا تراه !
وكان هذا وحده كفيلاً بأن يزيده إصراراً . فارتفعت نبرة صوته في لهجة جازمة :
= علاقتنا كلها متوقفة على أن أراه . فأعطني عنوانه ، ولا عليك مما يحدث بعد الآن !
قالت :
= تهدد ! إذن فإليك عنوانه ... ( ونظرت إليه نظرة طويلة مليئة بالرجاء والتوسل والاستفسار ) !


***


لم يكن يدري – في الحقيقة – لماذا يود أن يراه . إنه لم يسأل نفسه هذا السؤال .. أ لعله يود أن يقيس نفسه إليه في حومة الصراع !
على أيه حال لقد اندفع يصفق في فناء منزله القريب من منزلها ، وهو يسأل عن الشاب الضابط (( ضياء )) !

وخرج له شاب أبيض البشرة قصير بعض الشيء ، في حركاته شيء من البرود ، وأحس في نفسه بشيء من الراحة والاطمئنان لا يدري مأتاه !

قال له :
= حضرتك ضياء أفندي
قال :
= نعم
قال :
= أنا سامي ... وأرغب في أن أحادثك في أمر خاص .
ولو أنك لا تعرفني من قبل ! ، قال الشاب :
= آه .. سامي ... لا .. أنا أعرفك .. سأرتدي ملابسي حالا .. وأخرج إليك بعيداً عن المنزل ... تفضل ...!!!
قال :
= لا .. لا داعي للدخول .. أنا في انتظارك على محطة الترام .


***


ووقف على محطة الترام يقطعها جيئة وذهوبا ، وفي خطواته آلية ، وفي نفسه اضطراب : لماذا قابله ؟ ومالذي سيحدثه به ؟ ...
وأحس في رأسه بغليان !
ولم تمض دقائق حتى كان الشاب بملابسه الرسمية ! فقطع عليه اضطرابه .
قال الشاب :
= أين نجلس ؟
قال :
= في أي مكان . ليس في الشارع إلا قهوة (( نصف بلدية )) ولكن لا بأس بها . فهي أقرب من مقاهي القاهرة .
ها هو ذا الترام ، فلنركب هاتين المحطتين .

وقفزا فأدركا الترام .



***



لم يكن يدري كيف يبدأ الحديث .. فصفق للنادل وكلفه إحضار (( الطلبين )) وكان في هذا مهلة عله يجد مفتاح الحديث .. ولكن النادل مضى ثم عاد ، دون أن يفتح الله عليه بكلمة تقال ..

وأخيراً زالت الحبسة من لسانه ، فتحرك ، ودار الحوار .
= لقد أخذت عنوانك من سميرة !
= آه .. إنها بنت طيبة ، لقد عرفت أنك خطيبها . وهي بنت حلال !
= لقد خطبتها قبل أن أعلم قصتكما . أما الآن فقد تتغير الأحوال .
= إذن هي قصت عليك كل شيء ؟
= نعم وبالتفصيل .. وإني لأحب أن أعرف : ما إذا كنتما اليوم راغبين في محاولة ما أخفقتما فيه قبل عام ، إنني أضع بين يديكما نفوذي لدى أهلها الذين يعدونني واحداً منهم ، ونقودي التي أعددتها إذا كان هذا عائقاً أيضاً .

لم يدرك كيف اندفعت من فيه هذه الكلمات .. أهي رغبته الحقيقية في التخلي عنها بعد أن ظهر له ما ظهر ؟ أم هو إيثاره لسعادتها كما كان يزعم لنفسه ؟ أم هو استطلاع ما بينهما من تماسك واتصال ؟

ولكن الشاب لم يتحمس لهذا العرض – كما كان ينتظر – بل راح يقول في لهجة باردة فيها شيء من الطراوة ومط الألفاظ :
= ولكن ماذا نصنع لأهلها .. لقد قابلوني مقابلة سيئة جداً حينما ذهبت أخطبها .. ثم إن أهلي كذلك يمانعون في زواجي منها إلى حد تهديدي بالقتل إذا أنا أخذتها .. إن أمي تريد لي بنتا غنية .. بنت صادق باشا .. وهم يعرفون اسمك وصلتك بسميرة .. ولذا لم أرد أن أستقبلك في المنزل !

ثم زايله البرود ، وعلت نبرة صوته ، وبدا فيها شيء من الصدق والإخلاص وهو يقول : لن أتزوج ما دامت سميرة ليست من نصيبي !

قال ، وقد تغيرت نفسه ، وبدا فيها غيظ مكتوم :
= قلت لك : إنني سأمهد لكما الطريق ، سأجعل أهلها يقبلونك ، أما أهلك أنت فعليك إقناعهم ، وإن لم يقتنعوا ..أفلست يا أخي رجلاً ؟ ( قالها في لهجة غيظ وازدراء ) !
قال الشاب – وقد ذهبت عنه حماسته الوقتية - :
= ولكنني مسافر للسودان بعد أيام ! فإذا كانت تنتظرني حتى أعود .. فسأتقدم إليها !
وكاد يصفعه ، ولكنه تمالك .. ثم اندفع يقول :
= هذا ليس كلاماً ، فإن كنت تريد شيئاً ، فتقدم اليوم ، وقدم مهراً ، إذا لم تستطع أن تكتب كتابك !

قال :
= إذا رضى أهلها فأنا على استعداد .

عندئذ أحس أن طعنة أصابته ، وأن الدنيا تظلم في عينيه ، وانقطع حبل الحديث ، ولكن الشاب عاود الكلام في رخاوة عجيبة :
= أنا لا أعرف لماذا تكرهها أمي كل هذه الكراهية ؟ إن أهلي يعتقدون أنها ستأخذني منهم ، مع أنها هي التي ردتني إليهم حين غضبت منهم في العام الماضي ، وبقيت في المعسكر لا أدخل بيتهم عدة أيام ؟
قال في استفسار مغيظ :
= وكيف ردتك إليهم ؟
قال الشاب :
= جاءت إلي في المعسكر عند الهرم ، وهددتني بقطع علاقاتها بي إذا أنا لم أعد للمنزل ، فعدت معها ...

جاءت إليه في المعسكر عند الهرم ! هنا أحس بالدوار ، هنا تراقصت في خياله عشرات من الصور المتتابعة ، كان يقف عند صورة منها ثم يطيل الوقوف . صورة (( خيمة )) في المعسكر . وهما منفردان . وهو هذا الشاب (( المائع )) وهي هذه الفتاة التي كانت ترتعش حينما تراه – كما قالت له في الاعتراف – والتي ودعته بدموعها في ليلة (( الشبكة )) وقالت : إن اللحن من حولها كان لحن الجنازة تشيعه به إلى مقره الأخير . مقره الأخير ؟ ها ها ها !

ووجد نفسه يقف للانصراف . ووجد نفسه يقول في حماسة :
= انتهينا ، ستتقدم لأهلها غداً ، وسأنسحب أنا الليلة ، وسأمهد لكما كل شيء منذ الآن !

***

لم يكن يدور في نفسه – وهو عائد إلى منزلها – إلا خاطر واحد :خاطر الانسحاب .. وإلا صورة واحدة : صورة (( الخيمة )) ، ولكنه يكذب على نفسه وعلى الناس لو قال : إن نفسه لم تكن شعلة من الجحيم ، وإن دماءه لم تكن تغلي في عروقه . وإنه لم تدر في أعماق حسه معركة بين شتى الاتجاهات ، وأنه لم يستسهل حماقة الجريمة على وضع من الأوضاع !

ودخل المنزل ، فبادرت إليه ، وفي عينيها نظرة استفهام متوسلة . فاتسعت حدقتاها – وهي تنظر إليه – وعلا صدرها وهبط ، وماتت على لسانها الكلمات !
وانقضت فترة طويلة قبل أن يجد لسانه يتكلم .

قال وهو يتكلف السخرية وعدم المبالاة :
= انتهينا يا ستي .. استعدي للعودة إلى ضياء !
فدنت منه ووضعت يدها على كتفه في خوف الطفلة المتوسلة وقالت :
= ضياء ! كيف ؟
قال وقد زايله هدوءه المتصنع :
= ضياء صاحب (( الخيمة )) في معسكر الهرم !
بدا على وجهها الذعر ، وعلى عينيها الاضطراب ، وتلعثم لسانها بالكلمات ، ثم قالت في انفعال :
= أي (( خيمة )) هو قال لك إنني ذهبت إليه في (( خيمة )) ؟ .. ( ثم جزت أسنانها في غيظ ) ... الكذاب !

لا يدري لم استراح وهي تلفظ هذه الكلمة ، وإن لم تصل إلى موضع الشك في نفسه ...
قال :
= ألم تذهبي إليه في المعسكر ، لترديه إلى أهله حين غضب منهم منذ عام ؟
قالت :
= نعم ذهبت ، ولكنني لم أقابله في (( خيمة )) لقد تمشينا بعيداً عن المعسكر في الرمال !




يتبع <<<<