[align=center]
.


.


:

.



.. سِـخريات .. [/align]




أذن لهما أبوها في أن يرافقها إلى السينما في حفلة الساعة الثالثة والربع ، بعد أن يتناول في دراهم طعام الغداء .

وخرج من الديوان مبكراً في هذا اليوم ، ليصل في ميعاد مناسب . ووجدها قائمة على تحضير المائدة في خفة ونشاط واجتمع أفراد الأسرة حوله ، يحتفلون به / وهم في ابتهاج ظاهر وفرح واستبشار ، وتناوبوا جميعاً تقديم أطايب المائدة له – على الطريقة الشرقية التي تتم عن طيبة القلب وصفاء السريرة ، وإن كانت تضايق في بعض الأحيان – واشتركت هي معهم في هذا الإكرام ، بعد إحراجها بالفكاهات والنكات من أمها التي كانت الدنيا لا تسعها من الفرح ! .. إنها سيدة طيبة عصبية المزاج ، مصابة بداء الكبد ، وتريد أن تفرح ، وأن تقشع الهم ، لأن الكدر يثير عليها الداء ، وهذه بنتها الجميلة خطيبة شاب تثق في أخلاقه ، ومستقبله طيب ، وهو ملحوظ المكانة في الأوساط الأدبية والسياسية ، كما علمت من بعض الناس . والعائلة كلها تحسدها على هذا التوفيق . فما الذي يعوقها عن الفرح والبهجة والاستبشار ؟!

وانفضت المأدبة ، وتناول الجميع الشاي والقهوة ، حسب أمزجتهم وعاداتهم . واقترب موعد السينما فتهيأت للخروج . و حينما خرجت من حجرة الزينة بدت وكأنها قطعة من الفتنة تتحرك ، فأحس في نفسه إحساس الغني الموفور الثراء ، وهو يطالع رصيده الضخم ... أهذه كلها له ؟ وانتعشت كل ذرة فيه .

ونزلا إلى الطريق ينتظران الترام . وفي المحطة لمح ضابطا شابا يحوم حولهما ، فبدا عليه التضايق ، وتحركت غيرته العنيفة ، ولحظت هي تغير وجهه ، فأدركتها خفتها الشيطانية ، وقالت عابثة :
= واحد ثان !
ولم يحس لهذه الإشارة بأية وخزة . فقد كانت عيناها ونبراتها تنطق بأنها له وحده في هذه اللحظة ، وأن الأنثى المتباهية بفتنتها هي وحدها التي تتكلم فيها !
فانطلقت أساريره بعض الشيء ، وقال معابثا هو الآخر :
= من يدري ؟ !

وأقبل الترام ، فركبا في مقاعد الدرجة الأولى ، وكانا وحدهما . وأحس انه يملك جوهرة ثمينة وأنه حارسها . وفتح الباب الفاصل بين الدرجتين ، ودخل كمسارى الترام . وهو رجل عجوز متهدم يتحامل على نفسه بجهد . دخل مطرق الرأس فنظر – كأنما إلى أقدامهما وحدها – وقطع تذكرتين ومد يده بها في فتور . وفجأة رفع رأسه وانتفض كالمأخوذ وهو يحدق في وجهها بشدة ، حتى لم ينتبه إلى اليد الأخرى التي تمد له النقود ، وتناول تذكرتي الترام . ثم تنبه إلى موقفه فانسحب مسرعاً وأغلق خلفه الباب ! .. ونظر هو إليها ، فإذا هي تغالب عاصفة من الضحك ، وعيناها تدمعان ، ويختلج جسمها كله في اهتزاز . فقال :
= مالك ؟
قالت – في تخابث فاتن :
= عاشق آخر ! أليس كذلك ؟
وكانت نكتة بارعة على غيرته الشديدة ، كما كانت زهو الأنثى بفتنتها التي تذهل حتى الشيوخ الفانين . وكانت لها هذه الجاذبية العجيبة حقاً . الجاذبية التي تكاد تتجرد عن الجنس .. لأن الكل يشتركون فيها : الشيخ والشاب ، والرجال والنساء .. حتى الأطفال !

وطالما لحظ مثل هذه الهزة التي انتابت الكمسارى الشيخ ، تنتاب الكثيرين والكثيرات ممن يلقونها في كل مكان .
لم تكن ممن يحسبهن العرف جميلات . كان تكوينها الجسدي – إذا استثنينا صدرها الفاتن – ليس ممتازاً . ولكن كانت هناك في وجهها جاذبية ساحرة . كانت خمرية اللون واضحة الجبين ، وفي عينيها وهج غريب تطل منه إشراقة مسحورة . وكان هذا الوهج أشبه شيء بالإشعاع الكهربائي المغنطيسي . ينبعث لحظة حين تشرق وتتوهج ، وينطفيء على التو حين تذبل وتنطفيء . وقد لا يمضي بين اللحظتين إلا مقدار ما تدير زر الكهرباء !
وكانت خطواتها القافزة الرشيقة الخفيفة ، وصدرها البارز الفاتن ، وهذا الإشعاع السحري الغريب ، لا تدع مجالا للفحص عن بقية تكوينها ، ولا تمهل الإحساس للتدقيق في شيء منها .

وكان يحسب نفسه يراها هكذا لأنه يحب ، ثم علم بالتجربة أن الجميع يقفون تجاهها هذا الموقف في كل مكان .


***



وفي الطريق ازدحمت المقاعد بالركاب . وأقبلت فتاة لم تجد لها مكاناً ، فوقفت تترنح وتهتز في الممر الضيق بين المقاعد ، فرأى هو أن يتخلى عن مكانه للفتاة . وبعد برهة لحظ على وجهها تغيراً ، فطأطأ يسألها : ماذا ؟
قالت هامسة :
= لا شيء ، إنها جميلة !
قال – وأدرك ما تعني وأحس له براحة لذيذة :
= من هي ؟
قالت :
= لا اعرف ، ( وهزت كتفيها في دلال زادها فتنة ) .
قال مداعبا في نشوة عميقة :
= هذه . وإلا الكمسارى العجوز ؟!
ولم تستطع أن تغالب الضحك ، فظل جسدها كله يترنج ، وهي تختلس إليه النظرة الضاحكة بين الحين والحين !


***


ودخلا دار السينما ، وجلسا متجاورين ، وهو يحس بسعادة تفيض بها نفسه ، فيود لو يعانق الكون كله ، وتحركت ذراعه اليمنى فطوقت ظهر المقعد ، وانزلقت عنه قليلاً فلمست ظهرها ، واختلجت هي اختلاجة خفيفة ثم استقرت ، ونظرت إليه متوردة راضية ، تمازجها الفتنة والإغراء . ولو كان النور مطفأ لصنع شيئاً آخر ، ولكن آدابه التقليدية لم تسمح له إلا بنظرة أودعها كل ما في قلبه من أشواق .

ثم أطفئت الأنوار ، وبدأت (( الجريدة )) وتحركت ذراعه قليلاً ، فسرت في جسده هزة ، ومالت هي إليه قليلاً فصافح شعرها خده ، وأحس بالنشوة فثمل ، وطافت برأسه الرؤى الغامضة في الفردوس النعسان !

وانتهت الجريدة ، وأعقبتها الرسوم المتحركة بمواقفها المضحكة ، فانتفضت ضاحكى كالطفلة ، وهي تتابع القصة في توفز ظاهر ، رده من حلمه المهوّم إلى يقظة طافرة ترقص فيها الحياة . وأعيدت الأنوار فأحس نقلة عنيفة من عالم إلى عالم ، وفرك عينيه – لا يدري أمن النور المفاجئ أم من النقلة المفاجئة – ثم أغمض عينيه بيديه واستغرق في أحلام !

ثم بدأت الرواية !

بدأت عادية في أول الأمر ، فعاد هو يضع ذراعه فوق ظهر المقعد ، ثم يحركها رويدا رويداً ، ثم يضغط بها ضغطاً خفيفاً ، فتستجيب له في بطء ، ينتهي بهما إلى حيث كانا في الفردوس النعسان !

ولكن يا للشيطان !

إن القصة لتأخذ في طريقها ، فتجري حيث تجري قصتها بالذات ! إنها قصتها ذاتها معروضة في شريط!

وأجفل عند الخطوات الأولى ، ولكن ذراعه تحركت حركة غير إرادية فضمتها إليه بشده . ويبدو أنها لم تكن لحظت بعد سبب رجفته ، فاستجابت إليه في لين وإغراء . ولو في غير هذه اللحظة لارتكب الحمقة التي يشمئز منها طبعه حينما تقع عليها عينه في دور السينما خاصة ! أما الآن فهو يصحو على الأشواك !

ولم تكن إلا دقائق حتى توالت المناظر والشواهد واللفتات على الشاشة ، فإذا هما وجهاً لوجه أمام قصتهما في الصميم ! قصتها بكل ما فيها من دروب ومنحنيات ومخاوف وشكوك . قصتهما . وها هي ذي الشاشة تواجههما بكثير من الهواجس والمشاهد التي كانا يهربان من مواجهتها في الحياة!


ولم يحاول في أول الأمر أن ينظر إلى وجهها ، ولكنه فيما بعد اختلس نظرة ليري قسماتها أمام هذه المواجهة القاسية ، فإذا هي تختلس إليه نظرة هي الأخرى ، فتقابلت النظرتان ، ثم ارتدتا سريعاً إلى الخفض والانكسار . وأحس كلاهما بكل ما جاش في نفس صاحبه ، فأدركه الدوار !


وفي هذه اللحظة وجد ذراعه تتراخى قليلاً فترتمي على ظهر المقعد ، ونظر فإذا رأسها المشرئب المتطلع يهوى ويسقط ، ويتخاذل متنها المنتصب ، فيتقوس في انحناء !


وهم ّ أن يدعوها إلى مغادرة السينما ، ولكن ريقه قد جف ، فلم يدر لسانه بكلمة ، واستمر ينظر إلى الشاشة ، وهو يحس الاختناق !


وبينما كانت القصة تسير كانا يحسان شيئاً فشيئا بانفراج الهوة بينهما ، وتقطع الأواصر التي تربطهما ، وفي كل خطوة كان يتكشف لهما المصير المحتوم ، ويشعران أن علاقتهما منخوبة ، وأن السوس ينخر في صميمها . وفي نهاية الرواية كانت البطلة قد عادت إلى حبيبها الأول . وكانت العلاقة بينهما قد انتهت كذلك .
لقد أحسا أن ما تم على الشاشة هو الذي تم في الحيـاة !


وأضيئت الأنوار فأحس بالدوار ، ووقف يستمع إلى النشيد الملكي ، بينما كانت لا تزال جالسة في خور ، فنبهها بغمزة فوقفت ، ثم تحركت الجموع للخروج فاندسا في غمار الجماهير ، ونسيا أنفسهما لحظة إلى الباب ، وخرجا من السينما صامتين ، وركبا الترام صامتين . وعادا إلى الدار في همود .


كان كلاهما يحس أنه لا يجد نفسه ولا يجد صاحبه ، وأن كل سبب بينهما قد انبتّ ، فلم تعد بينهما نقطة اتصال .


وكان كلاهما لا يجد ما يقوله ، ومع هذا كان يود أن بقول شيئاً يقطع به هذا الصمت البغيض ، الذي يثقل لحظة بعد أخرى ، ويخنق أنفاسهما كالتنين . ولكنهما في النهاية لم يجدا كلمة تقال .


كان خطيبها أمام أهلها وأمام الناس ، وكان أهلها لا يعلمون مما بينهما شيئاً ، ولا يجرؤ هو ولا هي على مكاشفتهم بشيء ، فكانا يصارعان الكارثة وحدهما ، ويتظاهران بالمرح والسعادة في جميع الأحوال !


أما في هذه المرة فقد أعياهما أن يتظاهرا بشيء ، بل أعياهما أن يتكلفا الابتسام الذي كان يسعفهما حين يفجؤهما أحد من أهلها وهما في زحمة الصراع .

ودخلا صامتين هامدين ، يتجسم في محياهما الهم والقنوط .


قالت أمها :
= أعوذ بالله ! ما لكما هكذا مكشرين ؟
وهنا فقط وجد كلمة يقولها :
= لقد كان الفيلم عنيفاً جداً
قالت :
= ولماذا تشاهدان هذه الأفلام الرديئة ، في هذه الفترة الحلوة من حياتكما ؟!



***



الفترة الحلوة !

هنا لم يطق صبرا على المواجهة ، وخاف أن تخونه الكلمات ، وأن تفضحه السمات ، فانفلت إلى حجرة النوم . ولم يكن عليه من بأس في أن يرتاد من حجر الدار ما يشاء . لقد كان في حاجة لأن يستلقي ويستريح ، كالرحالة المجهد المكدود في سفر طويل .

لم يخلع ملابسه ، ولم يخلع حذاءه ، فما كانت له بقية من قوة يؤدي بها هذه الحركات . لقد كان حسبه أن يلمح السرير لينحط عليه كالجدار المنهار .


وانقضت دقائق ، ومناظر الرواية أمام عينيه ، بينما ترن في أذنه كلمات الأم الطيبة القلب ، عن هذه الفترة الحلوة من الحياة . وينفلت زمام أعصابه ، فلا يستطيع أن يضبطها لمواجهة هذه المفارقات .


وفي هذه اللحظة تصل إلى سمعه من حجرة الجلوس نغمة البيانو . إنها تعزف ، إنه لحنه المحبوب ، لحنه المسحور .


لقد سمع هذا اللحن من قبل ، وسمعه كثيرا ، سمعه من تلك الفتاة نفسها ، سمعها تعزفه فاستعاده واستعاده ، وظل يستعيده في نشوة عجيبة ، حتى قالت له في دعابة ساحرة : لن أعيده مرة أخرى إلا لقاء أجر معلوم !


لم يكن يعرف اسم اللحن ولا عنوانه ، ولم تكن تعرفه هي كذلك . كان أستاذ البيانو قد حفظها إياه ، دون أن يذكر لها عنوانه . فما قيمة الاسم والعنوان ؟


إن هذا اللحن المجهول كان يستجيش ضمائره ويحرك خواطره ويثير في حسه النشوة والحلم واللهفة والانسياب . كان يصور نفسه في تلك الفترة التي لم يكن يعيش فيها على الأرض ، ولم يكن يحس إلا أن الحياة حلم ظافر سعيد .


لقد كان يحب . يحب هذه الفتاة التي تعزف ذلك اللحن وإنها لتعزفه بيدها وقلبها ، وبأعصابها وملامحها . كانت هي اللحن ذاته في صورة مجسمة . ولم تكن قد برزت من بعد تلك الأشواك ..

ثم ها هي ذي تعزفه مرة أخرى ....


وإنه ليسري إلى نفسه رويدا رويدا ، وينسكب في أعصابه رفيقا رفيقا ، وإن نفسه لتهدأ وتطمئن ، وإن أعصابه لتسكن وتستريح ، وإنه ليثمل ، ثم ينتشي ، ثم يرف في جو شاعري شفيف ، وإنه لينتفض بعد لحظة خفيفاً نشيطا ، وإنه لينفلت إلى حجرة الجلوس ملهوفا مشتاقا ، حتى إذا اقترب استرق السمع والنظر ، فإذا هي ، هي حلمه الجميل ، هي حوريته الهاربة ، هي .، ولا شيء سوى الماضي العزيز ، والثقة العميقة ، والحب المفتون ... هي .. وإنه ليطوقها من الخلف في لهفة ، فتبدو كأنما ذعرت للمفاجأة . المفاجأة التي كانت تنتظرها ولا شك بغريزتها العبقرية ، غريزتها الفطنة التي توحي إليها في هذه اللحظات بالذات بالعمل المفرد الوحيد ، الذي يجدي في مثل هذا الأوان .

هي . وقد وجدها . ووجد نفسه ، ووجد فيها ما يقال .


وإن الحب ليعود اللحظة يحلم ، وإن الحياة لهي في هذا الحلم الظافر السعيد !





.