



-
عضو متميز جدا
تابع لـ [ 5 ]
ولم يكن في حاجة لكل هذا التوكيد . لقد كان هو أشوق منها إلى تمضية كل دقيقة بجانبها . كان في نفسه مشاعر غريبة : شعور العطف والإشفاق ، وشعور اللهفة والحرمان ، وشعور الغيرة والغليان ، وشعور التسامي والإيثار ، وما لا يحصى من هذه الأحاسيس مجتمعات .
وكان كل من في البيت مستريحا لأن يقضي ليلته هناك . كان هو الصلة الوحيدة بين نفوسهم جميعاً ، بعدما قطعت الصدمة كل ما بينهم من الصلات .
***
بات يسمع أنفاسها في الحجرة المجاورة ، فلم يكن بينهما سوى حائط رقيق فيه باب مفتوح ، وكان يسمع تنهداتها في جوف الليل ، ويكاد يسمع وقع دموعها في سكون الظلام !
وكان يراها قريبة منه جداً ، بعيدة عنه جدا . كان يراها ملء يديه ، ثم ينظر فإذا يداه منها فارغتان !
وأوقد المصباح في جوف الليل ، وراح يكتب شعراً :
بيني وبينك خطوة :::: لكن عوالمنـا بعيد
ويداي فارغتان من :::: كنز به غنيَ الوجود
ثم تغالبه دموع قاهرة ، فيطفيء النور وينكفيء في سريره يغالب الدمع ما استطاع .
وفي الصباح كانت غائرة العينين ، صفراء غبراء ، كأنما انسلت من مقبرة . وكان مسترخي الجسم مهدودا .. مكدود الأعصاب .
قالت :
= كيف قضيت ليلتك ؟
قال :
= كما قضيت ليلتك !
قالت :
= يرحمنا الله !
ثم اتجهت إلى مرافق البيت ، وبعد قليل جاءت تدعوه . قالت :
= لقد سخنت لك ماء لتغسل وجهك ورأسك ، فإنك لمجهد ، والجو شتاء ، وللماء الدافيء قيمته في مثل هذه الأحوال ... اقترب أصب لك الماء !
ولكنها لم تدعه يغسل وجهه ورأسه . لقد دبت فيها حيويتها الكامنة من خلال الذبول ، فراحت تدعك له عينيه بالصابون ، وتدس أصابعها في شعره تخلله ، وإنها لتقول في دعابة ساحرة :
= لتكن انت ابني اليوم ، كما كنت بنتك بالأمس يا أبتاه !
فشل في لإقناع أهلها بالرأي الذي ارتآه ، وهو يستروح في هذا الفشل ريح الانتصار ، وفشل في إقناعهم ببراءتها التي عادت له فيها ، وفشل في استعادة الرضى عنها بطبيعة الحال ، واستمرت تلقى منهم الوخز والإعراض ، وتسمع منهم الغمز والإيلام ، وتجد نفسها بينهم في غربة وإذلال ..
قالت له :
= لقد وقع ما كنت أتوقع ، ولست صلح لك الآن رفيقة حياة . أحس في أعماق نفسي أنني لست في مستواك . ولن ألحق بذلك الآخر لأن كرامتي تأبى علي هذا ، كما يأباه شرف هؤلاء الساخطين ! ولن أنتحر لأن الانتحار جبن وعار . ولن أطيق الحياة في هذا البيت بعد الآن !
قال :
= وماذا اعتزمت إذن يا بنيتي ؟
قالت متألمة :
= لن اعدم وسيلة للحياة الشريفة . سأشتغل خادمة في احد البيوت . وإنني لماهرة في التدبير المنزلي كما تعلم !
وأحس بنفسه تتذاوب عطفا عليها ، وألما لها ، ووجدا بها .
وقال :
= لقد نسيت أن لك بيتا آخر ، يرحب بك ضيفة لا خادمة
قالت وهي تهتز من الانفعال :
= كلا ! .. إن قبلتني خادمة ، فخذني إليك منذ الآن !
ضمها إليه في رفق ، وربت عليها في عطف ، وقبل جبينها في حنان ، وقال :
= كلا يا بنيتي .. بل – إذا سمحت – رفيقة حياة .
قالت مغالبة النشيج المكتوم :
= أ و تقبلني بعد كل ما كان ؟ ( واستسلمت للبكاء )
***
لبس ملابسه وخرج مع والدها .
وقال له الوالد بعد أن غادرا الدار . وكأن حادث الأمس كان كابوسا انتهى ، فعاد كل شيء جديداً :
= دع كل هذا الهراء الذي تقوله (( سميرة )) والذي تقوله أنت أيضاً . إننا ننتظرك في موعد الغداء !
قال :
= لا أستطيع الغداء ، فلا بد أن أعود إلى الدار ، فالبيت مشغول على مبيتي الذي لم أتعوده . ولكنني سأحضر آخر النهار .
وعاد فوجد اتفاقاً بين الجميع على تناسي العاصفة ، وعلى أن تسير القصة كما كانت من قبل تسير . وعاد للفتاة إشراقها ، وبدت كالناقهة من وعكة ، تستنشق نسيم الحياة في لهفة وارتياح . وأحس انها خلصت له بعد هذا الإعصار ، وأن جرحه الذي أدمته الأشواك قد اندمل وطاب . وخيم على الجو نوع من الود العطوف والطيبة النقية والسلم والوئام ! .
.
-
عضو متميز جدا
[ 6 ]
[align=center]
.
.
.
.
... أنثى ... [/align]
باتت سهراته ليلية في دارهم ، فما كان يستطيع مقاومة الإغراء الذي يقود قدميه كل يوم إلى هناك . ولم تكن كل أويقاتهم صفواً ، منذ أن برزت في حياتهما الأشواك ، ولكن شيئا لم يكن ليستطيع أن يقف هذا التيار الجذاب .
كان ينتظر الموعد اليومي ملهوفاً ، ويذهب إلى هناك فيجدها كذلك ملهوفة . وقالت له في يوم تأخر عن موعده : (( كم خفت ألا تأتي الليلة . إنني هنا غريبة بين أهلي ، بل غريبة في الحياة كلها حين لا أراك ))
وكانت غريبة حقا . فأهلها جميعاً طيبون نفوسهم بعيدة عن التعقد والتركيب ، وهي عقّدتها الأزمات النفسية والأشواك ، وعقدتها صحبته ومناقشاته ، وعقدتها القراءات التي كان يزودها بها ويحضها عليها ، وعقدتها التوجيهات النفسية التي كانت تتلقاها عنه وهما في السينما أو في غير السينما .
ولم تكن هي الغريبة وحدها في هذه الدار ، فلقد كان هو أيضاً غريبا فيها ، فإذا غابت عن المجلس لحظة شعر بالفراغ ، وكثيرا ما كان هو وإياها يشعران بالوحشة في حضرة هؤلاء الناس الطيبين فينسحبان إلى حيث ينفردان! .
وافتقدها ليلة فقام يبحث عنها في حجرات الدار . ودخل حجرة النوم ... وكانت مفاجأة .
مفاجأة لن يتهيأ لها من قبل أبداً .
كانت الليلة مقمرة ، وللحجرة نافذة يطل منها القمر ، فيضيئها ذلك الضوء القمري الشفيف . وكانت واقفة دون أن توقد المصباح اكتفاء بهذا الضوء الفضي الشفيف . كانت واقفة بجوار السرير تبدل فستانها وحينما دخل الحجرة كانت قد خلعت ولم تلبس ... ووقع نظره للمرة الأولى عليها بالملابس الداخلية ... وكانت لحظة رهيبة ! .
كانت تربيته الأولى في بيئة محافظة متطهرة ، وكان قد انصرف في حياته إلى نوع من الجد لا يسمح له بالعبث ، وكان الشعر والفن قد صانا خياله من التلوث ... وكان هذا كله يبعده عن المرأة ، ويصيبه بلون من الربكة والاضطراب حين يلقاها وجها لوجه أيا كانت طبقتها وسنها .
فلما وُوْجه بالفتاة التي يحبها ، شبه عارية ، كان ذلك مضـاعفاً لخجله وارتباكه . ولكن عينه تقع على منظر فاتن في ضوء القمر الشفيف ، ولليل المقمر وجوه ، وللوحدة المغرية جوها . إنما هو في الوقت ذاته يشعر لهذه الفتاة بلون من القداسة ، وهو كذلك غير مستعجل ولا متسرع ، فهي له ، وستصير كلها إليه .
.... كل هذه النوازع المتشابكة في لحظة واحدة جعلته يقف برهة مسمراً . ألف جاذب يجذبه إلى الإقدام ، وألف دافع يدفعه إلى الإحجام . وبوغتت هي فارتبكت كذلك ، وبدلا من أن تلبس الفستان الثاني ، انكفأت على نفسها ، وطأطأت رأسها ، وحنته على صدرها ، فكانت في وضعها الجديد أشبه بتمثال فاتن في وضعه الفني الجميل !
وأخيراً غلبه ماضيه كله فتراجع ، وهو يتمتم : لا مؤاخذة ...!
***
ومضت فترة طويلة لم تعد فيها إلى المجلس ، وقدم بعض الزائرين والزائرات من أقاربهم ، وهم كثيرا ما كانوا يحضرون هذه الليالي ، استطلاعا لحال الخطيبين ! .. فلقد كان الحسد العائلي والفضول النسوي يدفعانهم للحضور . فتضيع الليلة في تكلفات سخيفة وأحاديث تافهة ... ثم ينصرفون .
حضروا ، فساد المنزل جو غير جوه . وأحست هي أنهم قد حضروا فقدمت بعد قليل ، ولكنها قدمت باهتة منطفئة ، يغشاها شيء من الانكسار .
وعجب هو لهذه الظاهرة ، وعزاها إلى أنها خجلة مما كان ! .. وجلس متضايقاً ، فسرى الضيق منه إلى الآخرين . وبعد فترة همّ بالانصراف تخلصاً من ثقل الجو ، فبدا على الزائرين الارتياح ، لما أحسوه من ضيق لا يبشر بخير !
وأمسك به أبوها وأخوها ، وتشددت أمها في دعوته للبقاء . ونظر إليها هي فلم يجدها تدعوه ليبقى ، فلم يستجب للدعوة ! .. وعندما وضعت يدها في يده وهو ينصرف أحس ببرودة روحها وفي أناملها أيضاً .. فخرج ضيق الصدر مغموماً !
***
ومضى يوم لم يجد في نفسه نشاطا ولم يذهب للزيارة كالمعتاد . وفي اليوم التالي كان جالسا في مكتبه كالعادة ، حين رن جرس التليفون ودعى للكلام .
قالت :
= أنت اليوم تعرف صوتي ولا بد !
وتهلل وجهه ، وانتفضت كل ذرة فيه ، وأجاب :
= طبعاً ، لقد حفظته !
قالت :
= ألا تحضر حتى تستدعى بالتليفون ؟
وارتبك لحظة ثم أجاب :
= لا .. كنت متعبا في ليلة الأمس
قالت :
= متعب أو غضبان ؟ أظنك ستأتي الليلة على كل حال !
قال :
= طبعا سأحضر الليلة كعادتي !
وسلمت وسلم ، وانقطع الحديث ، وانطلقت في كيانه موجة من النشاط .
***
وفي المساء كان يقصد إلى الدار ، وليس في خياله إلا صورتها المرحة الوثابة ، وإلا صوتها الشجي الطروب . واستقبلته متهللة ، وقبل أن يجتاز الممر وراء الباب – وكانت يدها لا تزال في يده –
قالت :
= كنت الليلة خائفة ... ولكم تمنيت لو تجيء في الظلام !
وأحس أن الدنيا لا تسعه من الفرح ، فضغط يدها بحراره ، فتأودت وهي يشد يدها في يده ، وبدت فتنة جارفة لا تحتملها الأعصاب !
وانطلقت بعد قليل إلى البيانو توقع عليه اللحن المسحور ، فغمرت روحه نشوة عجيبة ، وانسربت خواطره تراود أحلاما ذهبية ، وأحس بسعادة تضيء روحه بنور وهاج ، وتحلق به في واد من التيه بعيد .
وبعد أن استعادها مرة ومرة ، على عادته كلما سمع اللحن المسحور ، أعلنت في دعابة ساحرة أنها لم تعيد العزف ، ونهضت واقفة وانفلتت من الحجرة كالحورية الهاربة . أو كالغزال الشرود . وكان معه في الحجرة أبوها وأمها وأخوها الشاب ، ورآها تذهب نحو مرافق المياه ، فتظاهر بعد برهة بأنه ذاهب إلى المرافق – وكانت له الحرية في أن يذهب ويروح حيثما يشاء – وكان يفصل المرافق عن الحجرات ممر طويل ضيق ...
وفي منتصف الممر قابها راجعة . ولا يذكر أنه رآها كما رآها هذه الليلة . كانت متوهجة يخيل إلى الرائي أنها تتوقد ، كما يخيل إليه أن كل نفسها منافذ ، تتلقى منها الأضواء والأصداء ، وتشع منها الطاقة والحرارة ! .
ونسي المنزل ومن فيه – وهم على مقربة منهما – وراح يضمها إليه في شوق عارم ، ويهوى على شفتيها في لهف حرور ، وأحس انها تتذاوب فيه ، وتتفانى بكاملها ، وأنها تستجيب له بكل ذرة فيها ، وأنها تتلاشى وتتداخل وتتهاوى .
ومضت فترة لم يكن يعي فيها شيئاً ، ولكنه لا ينساها أبداً !!! مضت هذه الفترة ، وإذا هي تثني جيدها إلى الوراء وقوامها في يديه ، فتواجهه بنظراتها الجاهرة ، وتقول في دعابة ساحرة :
= الرجل وراءنا ! والله أناديه !
ولم يكن يملك إلا أن يضمها إليه في عنف ، وهي تسكب في نفسه أحلى رحيقها المذخور بهذه النظرة وتلك الفتنة .. ثم تملصت منه ، وانفلتت تجري ... وعاد هو إلى الحجرة نشوان ولكنه تعبان ! عاد فجلس ، ولم يلحظ أحد منهم عليه شيئاً ، ولو تنبه أحدهم إلى عينيه لرآهما تقطران نشوة وسكرا .
***
وغابت عنهم فترة طويلة ، ثم عادت وقد هدأ كل هذا النشاط ، وسكنت كل هذه الفورة ، وبدت مطفأة خابية .
وصدمه هذا الانقلاب صدمة عنيفة . وخيلت له أوهامه أن هذا ندم منها على ما وهبت له ، وأنها لا تزال تعد نفسها لحبيبها الأول ... كانت كل معرفته بالمرأة من الأوراق ....!!!
ووجم ، وثقل عليه الجو ، فشاع في المجلس كله الوجوم ، وبخاصة وقد تقدم الليل ، وداعب عيونهم النعاس .
وانتهز فرصة انفرادهما بعد قليل في الممر ، فراح يفسد كل شيء قال لها :
= يبدو انك نادمة على ما أعطيت
وهزت رأسها : أن نعم .
فلم يحاول أن يفهم إلا أنها تعني ما تقول !
قال :
= تريدين أن تكوني له خالصة !
وجرح هذا كرامتها ، فلم ترد أن تتقهقر .
قالت :
= أي نعم !
وغاظه ذلك جداً . ولم يحاول أن يفهم غلطته في سوق هذا الحديث إليها الآن .
قال:
= لن أعيدها مرة أخرى .... اطمئني !
قالت في برود :
= تحسن صنعاً !
وأفلت منه قياد نفسه ، ولم يعرف كيف يدير الكلمات ، قال :
= لا يزال أمامك أن تختاري . فالفرصة بعد لم تضع !
وتظاهرت بعدم المبالات . وكانت عادتها حين تجرح كبريائها . وقالت :
= والفرصة أمامك كذلك لم تضع ، وتستطيع أن تتصرف بكامل حريتك !
وهنا فقط أحس أنه أخطأ في إدارة الحديث من أوله ، وأنه استجاب لهواجسه التي لا زالت تختلج في ضميره ، وأنه دفع بها إلى مكابرة لا مفر لها منها .
فقال :
= لندع الحديث الآن ..
وعاد إلى الحجرة يستأذن للخروج . ولم تحضر هي لتسلم عليه .. فدعتها أمها ، فحضرت متثاقلة ، ومدت إليه يدها باردة فسلم وانصرف وملء نفسه ظلام .
.
-
عضو متميز جدا
[ 7 ]
[align=center]
.
.
.
.
... العذراء الأم ... [/align]
.... عاد إلى داره موحش النفس مظلما كئيباً ، تجثم على صدره الكآبة ، ويغشى نفسه الوجوم ... وفي أعماقه سؤال غامض لا يسمح له بالظهور والوضوح : تراه أخطأ طريقه في هذا المشروع كله ؟ وأن هذه الفتاة ليست له ، لا هي ولا فتيات القاهرة جميعا ؟ إنه يتطلب في فتاة أحلامه مفارقات لا تجود بها الحياة . يتطلب الحورية القاهرية المغمضة العينين . يتطلب الفتاة العذراء القلب والجسد ، في زي قاهري ، ويتطلب فيها الحساسية المرهفة والشاعرية المتوهجة ...
ومع هذا كله طيبة القلب وصفاء الروح .،!
تراه أخطأ الطريق فطلب الحورية العذراء في بنت من بنات القاهرة . أم تراه أخطأ الطريق من أوله ، فطلب حياة زوجية لا تصلح له بحال ؟
وفي مثل هذه الهواجس ، التي كان يصاحبها في نفسه .. هم ثقيل وهمود كئيب .
قطع الطريق الطويل بين دارها وداره ، حتى إذا وصل لم تكن فيه بقية من النشاط للصراع والتفكير فاستلقى مهدودا فنام ! .
وأصبح الصباح فإذا هو يجد له نفسا جديدة غير التي نام بها . لقد صحـا وفي نفسه صفاء هاديء وصوفية شفيفة ... إنه يعطف على الفتاة عطفا هادئا رفيقا . لقد صارعت أشواكها وقاومت ماضيها ، ولقد ألقت بنفسها بعد هذا كله إليه ، مجردة من كل ستار ، عارية من كل رداء . وبالأمس ألقت بنفسها كلها إليه ، واستسلمت لأحضانه .. أنثى كاملة تستسلم للرجل الذي تختاره ، فما باله لا يزال بعد هذا كله يذكرها بالأشواك ، ويحيطها بالشكوك ، ويحرجها بالاتهام ؟ لها الله ! .
وأحس عندئذ بالصفاء الهادئ يفارقه ، وبالصوفية الشفيفة تتخلى عنه ، وأجدّت له هذه الخواطر شوقا جارفا شديدا ، ورأى نفسه يعبر عن هذا الشوق بشعر حار ملهوف
وحينما جاء موعده اليومي كان قد أنفق كل رصيده من الصبر ، فانطلق إلى الدار ترف كل جوارحه هوى إليها ، وصعد السلم قافزا لاهثا . فلما كان أمام الباب وقف يلتقط أنفاسه قبل أن يضغط زر الجرس ....
وجاءت الخادم ففتحت الباب ، وبيدها الطفل الصغير – أخو الفتاة – وكان يحبه حبا جما لخفة دمه ، ورشاقة حركته ، وحلاوة حديثه . وكانت الخادم خارجة به للرياضة في منتزه قريب .. فتناوله بكلتا يديه ، وقبله قبلة حارة عنيفة ! ثم سأله عن (( سميرة )) ،
فقال الطفل في شيء من التخابث :
= عايزها ؟
= أيوه
قال :
= كانت تبكي ...
ولا يدري كيف استقبل هذه الكلمة ؟ تألم لها ما في هذا شك . ولكنه شعر بارتياح غامض .... تبكي ؟ إذن في نفسها من حديث الأمس بقية . وإن بكاءها ليؤلمه ، ولكن أوَلا يدل هذا على أن المسألة في نفسها باتت جداً ، وأنه يؤذيها ما يثور في نفسه حولها من شكوك ؟
وتنبه لهذا الشعور في نفسه فعده شعورا أثيما ! .. أوَ يريحه أن تتألم الفتاة لمجرد استيثاقه أن الأمر بينهما قد صار جدا ؟! ثم يزعم أنه يحبها ؟ يحبها أو يحب نفسه ؟ ومع ذلك يصف نفسه بالإيثار !
وبينما كانت هذه الخواطر تجول في نفسه كان يندفع في الدار منادياً :
= سميرة .. سميرة .. أين انت يا سميرة ؟
ولقيته أمها فسلمت عليه ، وفي قسماتها شيء من الانكسار ، ونادت بدورها عليها :
= سميرة .. تعالي .. إنه جاء !
وأحس من هذا أن عدم مجيئه اليوم كان متوقعاً ، وأنه قد دار بشأنه حديث . وعـاوده الشعور المبهم المختلط .... وأقبلت سميرة .
ونظر فإذا هي مكدودة ، تغيم عليها سحابة من الأسى . ولكنه قد حضر برصيد نفسي ضخم من الحماسة والطلاقة . فراح يجلو هذه الغاشية بنشاطه وطريقة حديثه والتفاتاته وحركاته ، واستجابت الأم لهذا فبدا عليها الانشراح . أما هي فكانت في نفسها بقية لا تزال ، ولكنها كانت خيرا مما لقيها أول مرة ...
وطلب منها أن تعزف له دوره المحبوب ، ولكنها تمنعت حتى كادت أمها تغضب ، فاستجابت لها ، وكان عزف هذا الدور يكفي لإحداث جو آخر .
وخرجت الأم – وقد راقها الجو الجديد – لتشرف على الشاي والفاكهة !
ولما اختلى بها قالت له في رزانة :
= يا سامي . إنك مظلوم معي . ومن واجبك أن تبعد عن طريقي . إنه مليء بالأشواك !
وحاول أن يطمئنها بشدة ، فأخذ يدها بين يديه وضغطها مربتا وقال :
= أرجو يا سميرة أن تغفري لي اندفاعاتي ، فأنا رجل جرح مرة ، فدعي لي فرصة تندمل فيها جروحي ، كما تركت لك فرصة تنتزعين فيها أشواكك .
وأدركت ما في لهجته من صدق وعمق فقالت :
= معك حق .. معك حق .. ولكنني مع هذا بدأت أخاف !
قال لها في توكيد ظاهر :
= لا .. لا تخافي .. ثقي أنني أثق بك في أعماقي .. وإلا ما وجدتني بجانبك إلى هذه اللحظة .
قالت :
= سأقول لك الحق : أنا مجرمة .
عندئذ فاضت نفسه رقة لها وعطفا عليها ، وراح يطمئنها على ثقته بها ، ويبرئها مما ترمي به نفسها . وبعد فترة على هذه الوتيرة من الحديث ، عاد إليها اطمئنانها ، وارتدت إليها بشاشتها ، وتوهجت عيناها بذلك البريق الجذاب العجيب ، وخيل إليه أنه غسل ما في نفسها وغسل ما في نفسه ، وأنهما يرفان طليقين في سماء الحياة .
وكان الليل قد أقبل ، وخيم الظلام على الحي – فقد كان ذلك في عهد الظلام التام أيام الغارات – ولم تحضر الخادمة بالصبي .
وبدأ قلب الأم يقلق ثم أخذت تتساءل عن سبب غيبة الصبي والخادمة ... ولم يمض وقت طويل حتى انقلب التساؤل حيرة .. وتطورت الحيرة لهفة ، شملت الأم والفتاة ، وشملته معهما بطبيعة الحال .
وحين بلغت الثامنة ولم يعودا انقلب الجو إلى قلق لا يطاق ، وسيطرت المخاوف لسوداء على قلوب الثلاثة ، ولم يبق شك في أن حادثا سيئا وقع للصبي والخادمة ، أو للصبي وحده ، فخافت الخادمة أن تعود .
وفي مثل هذه الحالات تصنع المخيلة أوهاما متلاحقة تخلخل الأعصاب .
وكان عليه هو أن يتماسك ليمسك بالمرأتين في حالة معقولة ، ولكنه في قرارة نفسه كان يحس بالخطر فقال :
=سأخرج للبحث عنهما في الطريق إلى المتنزه .......
ووجد من أعينهما تصديقا حارا على الاقتراح ، فخرج ، وراح بقطع الطريق إلى المتنزه متلفتا محدقا في الظلام ، متمنيا أن يعثر على الصبي الذي يحبه ، والذي تحبه فتاته كأمها على السواء .. ولكنه عاد بعد أن قطع الطريق مرتين دون أن يعثر عليهما .
وكانت عودته نذيرا بانطلاق الأوهام السود التي كانت تصدها الأم ، ولا تعترف لها بالوجود .
قالت :
= انتهى ولدي . اسم الله عليك يا سوسو ! .. وانهل دمعها المكبوت ، فشرقت مثلها الفتاة بالدموع ، وبدا في عينيها ألم جازع مفزوع .
ووجد نفسه يقول :
= لا لا .. لا قدر الله . ومع ذلك – فمن باب الاحتياط – سأذهب إلى قسم البوليس للسؤال !
وكان مجرد ذكره للسؤال في القسم كافيا لتثبيت مخاوف الأم وتأكيدها ، فصرخت صرخة خافته :
= ولدي ......
وقالت الفتاة في وله جازع :
= أروح معك !
وتجاذبته – في لحظة – عوامل شتى : خوفه عليها من الخروج وهي على هذه الحال ، وخشية عليها من الصدمة لو كان هناك شيء ، ورغبته الجارفة في أن تكون معه ، وشعوره العميق بلذة هذه الصحبة أيا كانت الأحوال !
وقال :
= الدنيا ظلام .. وأنا أقوم بما تريدين .
قالت في لهفة مجنونة :
= لا لا .. أروح معك ..
وانطلقت معه بملابسها المنزلية لم تغير شيئا ، وانطلقا إلى الشارع يجوسان خلاله في خطوات متعثرة ، وكان في الطريق أكوام من حجارة الرصف هنا وهناك ، يتعثر بها المارة في الظلام ، وبين خطوة وخطوة كانت تعثر ، فتضع كفها على كتفه اتقاء للسقوط ، فيحس لهذا بلذة خفية لا يحجبها قلقه على مصير الصبي ! .. ثم تقوم في نفسه معركة كلما أحس هذه اللذة الخفية في وسط الآلام التي تستشعرها الفتاة !
وقطعا الطريق في خط متعرج بين طوارى الشارع ، يتفرسان في الوجوه والأجسام ، كلما رأيا أشباحا في الظلام ، وكل خطوة تقودهما معا إلى اليأس ، وتثير في نفس الفتاة الألم وفي نفسه القلق ، حتى وصلا إلى قسم البوليس .
ووجد هنالك ضابطا شابا في دور التمرين بالقسم ، فتقدم هو إليه يسأل ، وتخلفت عنه قليلا . وأخذ الضابط يراجع دفتر الأحوال . وكانت هي قد تقدمت في هذه الفترة فوقفت بجانبه معتمدة بذراعها على كتفه في تهالك . وقلب الضابط بعض الصفحات ثم قال :
= سعيد ....
ولم يكد يتم حتى شهقت شهقة والهة مكتومة ، وكادت تسقط ، فألقت بنفسها عليه معتمدة بكلتا يديها .
وأتم الضابط الاسم ، فاتضح أنه ليس أخاها . ولزيادة التأكيد سأل هو الضابط عن عمر هذا المذكور في (( المحضر )) . فلم يعد هناك شك في أنه ليس الصبي المفقود .
ونظر إليها الضابط الشاب فاتقدت عيناه . ثم أراد أن يعابث – دون تقدير للموقف – فقال :
= اطمئني . يظهر أنك تحبينه ! .. وضحك ضحكة فاترة سمجة ، ثم أخرج من مكتبه علبة وقدم لهما شيئا من الحلوى . فاعتذر هو شاكرا في برود :
وسأله الضابط عن اسمه وعلاقته بالصبي .
فلما سمع اسمه بدا عليه اهتمام خاص ، وقال : حضرتك الذي تكتب في الصحف ؟ أنا أعرف هذا الاسم
قال ، وأحس بلذة عميقة :
= نعم !
وقال الضابط باهتمام ظاهر :
= نسأل في المحافظة ، ففيها تجتمع حوادث الأقسام . وقام بنفسه ليكلف عامل التليفون السؤال ، وعرض عليهما أن يستريحا على كرسيين .
ولكنهما شكراه ، وتابعا خطواته إلى التليفون ، وجاءت الاستعلامات مطمئنة ، فاستراحا إليها . ثم استأذن من الضابط شاكرا ، فصافحه هذا بحرارة ، وهو يقول :
= تستطيع أن تسألني بعد ساعة بالتليفون ، أو أعطني العنوان وأنا أخبرك إن وجدنا شيئا . وخرجا معا بهذا الاطمئنان السلبي . ولكنه خرج مستريحا لكل ما كان !
***
وعادا إلى الدار وهي متعبة من السير والقلق ، ولكنهما وجدا المفاجأة هناك .... لقد عاد الصبي والخادمة . كانت حديثة عهد عندهم ، فضلت طريق العودة ، ثم اهتدت أخيرا إلى الطريق ..!
وفي اندفاعة جارفة راحت تحمل الصبي بيديها ، وتضمه إليها في لهف حار ، وتمطره بالقبلات كالسيل المنهمر ، وتستريح هنيهة ثم تعود ... فلما كادت تشبع قال هو معابثاً :
= كفى ! لقد بدأت أغار !
قالت :
= تغار ؟ وأنت مالك ؟ هذا حبيبي سوسو !
قال وذهنه خال من كل فكرة سابقة :
= وهل أغار إلا لأنه حبيبك ؟
وفجأة تغير وجهها لهذه الكلمة ، وانطفئت الشعلة المتوهجة كما ينطفئ المصباح ، وبدا عليها الكمد والإجهاد . وقالت في نبرة كسيرة خافتة :
= ماذا تعني ؟
وكان لا يعني شيئا . ولكنه أدرك ما جال بخاطرها في هذه اللحظة فقال :
= لا أعني شيئاً .. إنك مجنونة .. خذي كلامي ببراءة .. ولا تحوجيني للشرح أو للتحفظ .. فأنا أكره التحفظ والتكلف ...
وعلت نبرة صوته وهو يقول :
= يا سميرة .. منذ اليوم دعينا نعيش بلا تحفظ .. كما خلقنا الله !
وردت إليها هذه اللهجة الحاسمة طمأنينتها ، ولكنها لم ترد إليها توهجها ، فظلت ساكته فترة من الزمن .
***
وذهبت تعنى بعشاء الصبي من اللبن والفاكهة ، ولم يلبث إلا قليلا حتى رنق الكرى عينيه فنام .
نام بين يديها فانحنت عليه بحنان ظاهر ، ورفعته إلى كتفها في رفق ، وربتت على ظهره في حنو ، وتحركت نحو السرير ببطء .
ونظر إليها وهي تنيمه . فإذا مشهد فاتن ، لم تقع عليه عيناه : هذه القسمات الحانية ذات الوجه الجميل ، وهذه النظرات الرحيمة في تينك العينين الساحرتين .. وهذه الحركات الوانية في جوارح الجنية الهاربة ، وهذه القبلة المديدة من تينك الشفتين الفاتنتين .. إنها الأمومة الكاملة في نفس الحورية العذراء ، حورية وأم .
هذه هي المفارقة التي لا تجتمع إلا في الخيال ، تتحقق أمامه في العيان !
وفي تلك اللحظة كان يحلم بالعش المسحور . وكان له طفل تنيمه الحورية الهاربة ، في هذا العش المسحور ........!
.
-
عضو متميز جدا
[ 8 ]
[align=center]
.
.
.
.
.. الماضي الحي .. [/align]
كانت تزوره في الدار مع أختها وأخيها ، ولم يكن هو وحيداً ، فقد كان يعيش مع شقيقتيه الفتاتين . وقد انعقدت أواصر الصداقة القوية بينها وبينهما . ولم يكن هناك حواجز تحول دون زيارتها .
ودخلت حجرة مكتبه ، وأخذت تتفرس في مجموعة كتبه ، وتقلب في بعض الصفحات ، ثم اتجهت إليه وهي ترفع رأسها فتبدو فاتنة رائعة ، وقالت في لهجة الطفل المتودد : اختر لي كتابا أقرؤه من كتبك .
كانت تعلم غرامه بالكتب ، وحبه للقراءة ، ورأيه في المرأة التي لا تقرأ . وكانت في الوقت ذاته مولعة بالمكايدة تُفتن فيها افتتانا ، فكانت حريصة على أن تبدو في معظم الأحيان وهي تغيظه بارتكاب ما يكره واجتناب ما يحب . ولكنها كانت تنسى هذه المكايدة في بعض الأحيان فتبدو على طبيعتها ، تريد أن تعجبه وتروقه ، وتصوغ نفسها في الصورة التي يحب . وكان طلبها هذا الكتاب تقره توددا منها تقصده ، ويفطن هو إلى مغزاه .
واتجه إلى القسم القصصي في مكتبته ، فهو أولى الأقسام بأن يجتذب فتاة إلى القراءة ، وكان قد أهدى إليها من قبل بعض القصص فادعت أنها لم تقرأها . ولكن لسانها كان يخونها فتشير في أحاديثها معه إلى ما ورد في هذه القصص . فيضحك مرة من هذا في سره ، ويضحك مرة منه في جهره ، فتحاول الإنكار بعد فوات الأوان ! .
ولا يدري إلا الشيطان ، لماذا وقعت يده على قصة (( الماضي الحي )) المنقولة إلى العربية عن (( جي دي موباسان )) ... كل قصة إلا هذه القصة كان معقولا أن يوجه إليها نظره في ذلك الحين .
ولكن هذا هو الذي كان !
أتراها قوة شيطانية تلك التي دفعت بيده إلى هذا الكتاب ؟ أتراها نفسه الباطنة التي ما زالت إلى اليوم ترتاب ؟
أيا كان الباعث فقد اضطربت يده حينما وقع نظره على العنوان ! .. ووقع نظرها عليه أيضاً !
قال في تردد :
= لا .. خذي غير هذا ( وهم أن يعيده إلى موضعه في المكتبة )
قالت وقد أثار العنوان أولا وتردده ثانيا ما في نفسها من استطلاع :
= ولماذا ؟ هات هذا الكتاب !
قال في إصرار هذه المرة بعض الشيء :
= لا ... غيره خير منه
قالت وقد زاد تشبثها به :
= لم أقرأ إلا هذا الكتاب !
ولم يعد بد من أن يسلمه إليها .. وقد أحس في أعماق نفسه بغم عظيم وقلق دفين !
***
كانت القصة قصة سيدة أخطأت . كان لها ولدان لهما ولدان ! ولكنهما يحملان اسم أحدهما وحده . وقد حسبت أن الماضي قد مات ، وحسب الناس أن (( بيير وجان )) شقيقان !
كانت سيدة محترمة ، بريئة ! فوق مستوى الشبهات ! ...........
أما الماضي فقد كان سرا لا يعلمه أحد . ومن أين لأحد أن يعلمه ، وصاحبه الآخر قد مات .. وهي لن تكشف عنه بطبيعة الحال ؟
لقد استراح ضميرها لهذا كله ، بعد أن غيب في عالم النسيان ، وعاشت مع زوجها وولديها وكأن لم يكن ما كان !
ولكن هذا الماضي يُبعث في يوم من الأيام . إنه حي لم يمت بعد عشرين عاما أو تزيد ..
إن (( بيير )) يكشف فجأة أن (( جان )) ليس أخاه الشقيق . إنه ابن ذلك الرجل الآخر الذي عاش صديق الأسرة ، ومات فأوصى بثروته كلها للولد الأصغر (( جان )) حيث لم يسأل أحد يومها : لم هذا الإيثار ؟
ويعنف المؤلف كل العنف – وهو يكشف هذا السر للابن الأكبر – فيمزق ما بينه وبين أمه من رباط . إن هذه المرأة البريئة المظهر قد خانت أباه . إنها أمه ، وهذه هي القسوة الكبرى في المأساة ! وإنه ولدها ، ولكنها تحس وقع نظراته وشبهاته – التي تتحول إلى يقين – كما تحس بالأشواك المسمومة . إنه ولدها ، وهذه هي القسوة الكبرى في المأساة !
***
قالت له في هذه المرة عند أول لقاء :
= لقد قرأت القصة !
وأحس أن كلماتها تقطر مرارة ، وأنها تتماسك وكيانها يرتجف وينهار .
قال :
= إنها قصة عنيفة ... لقد أشفقت أن أقرأها مرة أخرى لأنها مؤذية !
قالت مستطلعة :
= ولماذا تؤذيك ؟
قال وقد أراد أن يتجاهل كل شيء :
= إن المؤلف قد رسم موقفا أليما بين الأم والابن يهز الأعصاب .
قالت :
= أوتحسب ان كل من يقرؤها يحس فيها ما أحسست !
وفهم أنها تضرب على وتر خاص ، فقال :
= لا شك في هذا وإن تفاوتت أحاسيس الناس
قالت وقد بدت في صوتها رعشة تغالبها :
= لماذا أعطيتني هذا الكتاب ؟
قال :
= لأنك أصررت على أخذه
قالت :
= ولكنك اخترته من أول الأمر !
قال :
= لم اختره .. لقد وقع في يدي مصادفة ، فأشفقت منه على أعصابك ، لأنني جربته في أعصابي ... ( ثم أضاف ) : منذ أعوام !
تطلعت إليه ثم قالت :
= متى قرأته ؟
ووجدها فرصة يبعد بها الشبهة فقال :
= أقول لك منذ أعوام
قالت متخابثة :
= أولم تعد إليه مرة أخرى في هذه الأيام ؟
قال :
= كلا .. لم أطق أن أعود إليه مرة أخرى .. بعض الصور تطبع في النفس فتحاول الهروب منها ، ولكنها تتراءى لها كلما أبعدت عنها .. فلا يحتاج الإنسان لمراجعة الأصل أبدا .
ووجد نفسه يندفع في وصف تأثير القصة في أعصابه ، وهي تصغي إليه بشدة ، وتتراقص في عينيها ظلال معركة . فأمسك عن الكلام ، وأمسكت هي كذلك ، وسادهما صمت ثقيل .
***
دخلت كلمتا (( الماضي الحي )) في قاموسهما بعد هذا اليوم . فما تأتي كلمة (( الماضي )) حتى تلحق بها على الفور (( الحي )) وحتى تبعث في خيالهما صورة خاصة . وتبعث في حياتهما جوا خاصا . ولم يفلح بعد ذلك في أن يعيد الثقة إلى نفسها مرة أخرى . كانت تصارع وكانت تريد أن تكون له ..... ولكنها باتت تخشاه !
.
-
عضو متميز جدا
[ 9 ]
[align=center].
.
.
.
.. القطيعة .. [/align]
مرت الأيام . واقترب الموعد المحدد للعقد ، وأخذ الجميع يستعدون له باهتمام ، واستقر الرأي على أن تقام حفلة الشاي بدل المقصف ، ونزل مع أخيها فاتفقا مع مشرب من مشارب الشاي على الحفلة ، ودفع هو (( العربون )) كما راح ينتقي علبة الملبس الخاصة بالعروس . وجلسوا ليلة يختارون أسماء المدعوين ، وشاركت هي في إعداد البيان ، وأملت أسماء صديقاتها ليحضرن اليوم الموعود .
ونزلت مع أمها فاشترت عددا من الفساتين – من بينها فستان الليلة الخاص – وكانت شقيقتاه وشقيقتها كذلك قد اشترين الفستان الخاص بالسهرة من لون واحد ، وذهبن إلى خياطة واحدة للتفصيل ...
كان كل شيء في الظاهر يندفع إلى الأمام . ولكن تيارا آخر مضادا كان يسير في الخفاء . كان شعوره بأنها صارت له ، وأن حياتها سترتبط بحياته يوقظ في خاطره الوسواس والهواجس ، وكانت الأشواك التي خيل إليه أنها اقتلعت أعمق مما قدر لها في الضمير .
وكان شعورها بأنها صارت له وأن حياتها ارتبطت بحياته يوقظ في خاطرها المخاوف والمخاطر ، بعد أن كشفت له عن موقفها وجردت نفسها من كل سلاح .
كان الشك يوغل في نفسه بجانب الحب ، أو بسبب الحب ، فكان حريصا ملهوفا على أن يتأكد أنها خلصت له إلى النهاية .
وكانت كبرياؤها قد استيقظت فهي تريد أن تتأكد من استعاده مركزها في نفسه ومن انتهاء شكوكه فيها .
وكان كلاهما في سبيل الحصول على هذا اليقين يرتكب في كل يوم حماقات صغيرة ، أخذت تحيل الحياة إلى جحيم .
***
كان قد اختار لها علبة ملبس صغيرة من الفضة الخالصة ، وأقبل بها فرحا بحس انتقائها , ولكنها لم تهش للعلبة ، ولم يبد عليها أنها تستقبلها استقبالا طيبا ، وبدلا من أن يفكر في ان نوع العلبة قد لا يكون أعجبها ، فكر في أن المناسبة كلها لا تفرحها !
واغتمت نفسه لهذا الخاطر ، وأوّله بما كانت تعترف له به في إبان الصراع : إنها حينما تحس فقدان أحدهما يكون هو العزيز عليها ، فراح يرقب كل حركة من حركاتها ويؤولها هذا التأويل ، وتفلت منه تلميحات ونظرات لا يفوت مغزاها فتزداد انقباضا ، وتوجس نفسها خيفة ، وتحاول أن تتأكد بتجربة جديدة تزيد الموقف سوءا وتعقيدا ! .
وقدم يوما إلى الدار ، وكانت تتهيأ مع جارة لهم لزيارة صديقة ، وكانت في مثل هذه المصادفات تتخلف فلا تخرج ، أما في هذه المرة فحاولتها تجربة لتعرف مدى احتماله لها في حياتهما .
ومضت في زيارتها .......
وفسر خروجها وتركه في المنزل بأنها لم تعد تعنى به ، فآلمه هذا الخاطر ألما شديدا لم يستطع معه البقاء في الدار .. فلما عادت بعد فترة قصيرة لم تجده ، وانهالت عليها أمها تأنيبا ، فزادها هذا التأنيب شماسا ونفوراً .
ولكن الاستعدادات لليوم المحدد سارت في طريقها المرسوم ! .. وجاء في اليوم التالي ونفسه محملة ، وحينما استقبلته لمحت ما يختلج في نفسه ، فزادها ذلك هما وذبولا .
ثم انفرد بها وراح يعاتبها في خشونة على فعلتها بالأمس ، فلم تتراجع ، ولم تدركها غريزتها بالحل المناسب . وكانت قسوة التأنيب الذي لقيته من أمها العصبية تملأ نفسها مرارة ، إلى جانب مخاوفها من الحياة مع رجل لم يعد ماضيها يهيئ لها في نفسه احتراما ، وزادها عتابه الخشن خشية ومرارة ، فعاندت عنادا شديدا .
أما هو فكان يحس أنه ضحى بما فيه الكفاية ، وأنه احتمل ما فيه الكفاية ، وأنه أنفق رصيده كله من العطف والتسامح والإيثار في أيام الصراع والعلاج ، وأن له الآن – وقد صار زوجا – أن يتلقى الجزاء تقديرا لموقفه وعرفانا بسماحته ، وكان هذا الجزاء الذي يرتجيه ، أن يجد بجانبه شريكة خالصة له متوددة إليه .
وأما هي فكانت تخشى أن تتودد كما يريد ، فيحمل ذلك منها على ذلة الاعتراف ، ومهانة الانكشاف ، وكانت تقيس مكانها عنده باحتماله لتدللها ، في وقت لم تعد له طاقة لاحتمال الدلال !
فلما اشتدت المناقشة بينهما إلى حد لم تبلغ إليه من قبل أبداً ، خرج من الدار مغضبا ، وسار في الطريق ثائرا ... وكانت ذقنه طويلة ، وشعوره بطولها يسبب له عادة مضايقة ، ويفسد مزاجه كثيرا ، فدخل دكان حلاق ، وهو لا يدري تقريبا ، وفي الفترة التي قضاها في الحلاقة كانت نفسه تصفو ، وكان تسامحه يعاوده ، وأحس في نفسه بقية من رصيد ، فرأى أن يبذله للمرة الأخيرة . وكانت قبل هذه المشادات قد أظهرت رغبتها في مشاهدة أحد الأفلام الجديدة ... ورأى نفسه ينساق مسرورا إلى دار السينما فيقطع ثلاث تذاكر ، له ولها ولأخيها الصغير ، الذي كان يصاحبهما في معظم الحفلات ، لحفظ المظاهر في أنهما لا يختليان بعيداً ! .
وأحس وهو يمسك بهذه التذاكر الثلاث أن كوة من الرجاء تنفتح في خاطره ، وقدر أن هذه المحاولة اللطيفة سترد إلى الجو صفاءه لأنها مفاجأة لا تنتظرها ، وقد خرج بعد المشادة غاضبا .......!
ودخل الدار متهللا نشيطا فوجدها لا تزال منزوية كئيبة . وقد قاطعت كل من فيها ، فلم تتأثر نفسه بانقباضها ، وابتسم وقال لها :
= تعالي أحدثك على انفراد
قالت :
= لقد شبعنا من الحديث على انفراد !
وصدمته هذه المقابلة . ولكنه وجد في نفسه سعة لعرض المفاجأة!
وكانا قد وصلا إلى حجرة الجلوس ، فأخرج من جيبه الأوراق الثلاث في تمهل ، ثم أسرع وهو يبسطها على ظهر البيانو ، وقال في ابتسامة ودود :
= هذه تذاكر الرواية وسنشاهدها غداً !
ولو تلقت المفاجأة كما انتظر لانتهى كل شيء ، فقد كان على استعداد في هذه اللحظة لأن يغفر لها مشاداتها جميعا . ولكنها لم تدرك الغرض ، فقالت في استخفاف :
= تحسبونني طفلة ، تغضبونها وتوبخونها ، ثم ترضونها بقطعة من الشيكولاته ؟
وانصب عليه ماء بارد ، وصغرت في عينه جدا ، وتلفت فإذا آخر شعاع في نفسه يخبو ، وآخر فسحة في صدره تضيق ، وقال في خشونة :
= لم تفهمي قصدي .. إنك صغيرة .
وسمعت أنه يقول لها (( حقيرة )) ، فاتاعت ، ورفعت صوتها منفعلة : أي نعم حقيرة !.. حقيرة .. هذا ماكنت أتوقع .. معك حق .. هذا ما كنت أحس . إنك تحتقرني في ضميرك ، انكشفت الآخرة ولم يعد شيء مخبوءا ...
وانطلقت من الحجرة غاضبة وهي تبكي في شبه نشيج ، وأقبلت أمها فأدركتها رقة عليها بعد ما انبتها بالأمس تأنيبا شديدا ، وحسبت أنه هو الاخر يقسو عليها بعدما احتملت منها كل قسوة ، وغلبها حنان الأم ، وراعها مشهد ابنتها تتعذب عذابا ظاهرا، فأدركتها عصبيتها كذلك ، وانطلقت توجه إليه اللوم في عنف شديد ..
قالت :
= إنه لا يكون هكذا يا ابني ! .. إن الحياة لا تستقيم على هذا النحو . ولو كانت جارية يعذبها سيدها ما احتملت أكثر من هذا ، كل يوم عتاب ، وكل يوم مناقشة ، وكل يوم تأنيب ، أنا من جهة وأنت من جهة . يا رحمة للبنت المسكينة ! .. سأنتظر حين يجيء أبوها .. إن هذا الحال لم تعد تطاق !
وفوجئ هو بهذه الثورة من هنا ومن هناك في اللحظة التي لم يبق له فيها رصيد للاحتمال وأحس إحساسا قاطعا أكيدا عميقا أن كل شيء قد انتهى ، وأنه لم تعد صلة تربطه بها !
وغلا دمه واشتد انفعاله ، وانطلق لسانه :
= وهو كذلك .. فأنا الآخر لم أعد احتمل شيئا .. كل شيء يحسن أن ينتهي !
وكانت هذه الكلمات كفيلة بأن تشعر الأم أن الصلة تتقطع ، فزادها هذا ثورة وهياجا ، وإذا كانت تتقي من قبل شيئا فإنها لم تعد تتقي . وكذلك استمعت الفتاة إلى كلماته وأحست من لهجتها أن كل شيء قد انتهى .. فندت من فيها كلمات كانت الطعنة المجهزة الأخيرة . قالت :
= الحق علي أنا التي قبلتك ، بعدما حذرني كثير من الناس ! ولم يعد هناك مجال لشيء .. فهذه بالذات لن تكون امرأته في يوم من الأيام ....!
***
وجاء الوالد .. وعرضت أمها الأمر .. وبدت له جفوة في حديث والدها وأخيها الأكبر يحاولان سترها فتبدو ، ولأول مرة سمع أخاها يتهمه في لهجة جافة بأنه لم يكن في الحقيقة جادا في مشروعه ، وأنه كذلك كثير الشكوك والمخاوف إلى درجة لا تطاق !
وأدركته روح السخرية بالموقف كله ، فأعفته من الردود العنيفة التي كانت تجيش بها نفسه ، وأحس في نفسه باشمئزاز من الطبيعة البشرية ومن أهل القاهرة خاصة .. وكانت نشأته في الريف تخيل له أن الناس هناك أحسن أصلا ، وأكثر مروءة ، وأنقى ضميراً .
وعلى أية حال فقد اتفق الجميع على اليأس من المشروع ، ولم يكن بقي على الموعد إلا ثلاثة أيام . وكان الألم يحز في نفس الوالد ، ولا بد أنه كان أعنف في نفس الوالدة .
ولكن الأسرة ردت إليه خاتم الخطوبة والشبكة (( وعلبة الملبس )) فكانت أشبه شيء في حسه بمخلفات الميت بعد درجه في الأكفان !
وقام هو من جانبه يرد صورها وأوراقها إليها وإن لم تطلب إليه ردها ، فتلك مخلفات الميت بعد درجه في الأكفان !
تم هذا كله في شبه ذهول . فخيل إليه فترة أن كل شيء هين ، وأن كل شيء قد انتهى . ولكنها كانت (( سرقة السكين )) كما يقول العوام ! .. فقد تنبه بعد فترة فإذا هو لا يجد نفسه ولا يجد ماضيه ولا يجد حاضره ، وكأنما هو في بَحَران !
.
-
عضو متميز جدا
[ 10 ]
[align=center].
.
.
.. الترام المسحور ..[/align]
مضت أيام بعد المعركة قبل أن يستعيد لنفسه صلاتها بالحياة . وقبل أن يستيقن أن ركب الحياة يسير كما كان من قبل يسير ، وأن عجلة الزمن كذلك تدور ، وأن معالم الكون ومعالم القاهرة لا تزال ! .
مرت عليه هذه الأيام وهو في حالة نفسية غريبة ، ليست عقلا ولا جنونا ، وليست صحوا ولا ذهولا . كان يحس بالدهشة تخالجه كلما رأى شيئا من مظاهر الحياة التي كان يراها قبل الكارثة ! .. وكان قد احتجب في داره أياما من الإعياء ، واستغرق في نفسه وأغلق عليه منافذها ، فلما خرج إلى الطريق أدهشه أن يجدها كما كانت ! وعندما قادته قدماه إلى المحطة بهت بهتة حقيقية وهو يرى القطار الذي كان يركبه إلى المدينة ..... أولا يزال القطار يسير ؟
وإلى أين يذهب بالناس ؟
ووصل إلى المدينة فسار في طرقاتها بنفس الشعور ... وكان كل شيء ممكنا – مع ذلك – إلا أن تقوده قدماه إلى الشارع الذي يسير فيه الترام .. وترامها هي على وجه خـاص !
ورآه مقبلا فحدق فيه ببلاهة ، وكان وعيه غائبا .. ومرت لحظة ونفسه تحدثه ذاهلة : إنه لا يذهب إلى هناك ، فلماذا يسير إلى الترام ؟!
ثم أفاق فروّعه أن يكون وصل إلى هذه الحـال !
****
ودارت عجلة الزمن ، فأصبح يقينا ما ليس باليقين .. وعوّده كر الغداة ومر العشي أن الكون يستطيع أن يكون دون أن يكون حبه الكبير ! .. وأن الحياة تستطيع أن تمضي وإن وقف حبه إلى حدود وأن القطار والترام يسيران وإن لم ينقلاه إلى هناك !
ولكن الزمن لم يستطع أن ينسيه أن لهذا الترام الخاص سمة خاصة تميزه من كل ترام ، إنه ترام مقدس أو مسحور . ويكفي أن يلمح رقمه وهو يسير ليدق قلبه دقات عنيفة ، ولتتحرك خطاه ويهم بالركوب . ثم يصحو فيسخر من نفسه ، ويقف لحظات يسترد فيها هدوءه ثم يسير .
وظلت هذه الرغبة إلى ركوب هذا الترام تراوده فيصدها عن خاطره ، وتعز عليه كرامته ، ويتغلب عليها بالسخرية من نفسه تارة ، وبالتصميم على مغالبتها تارة ، وبالحجة يحاور بها رغبته تارة : لماذا تركب ؟ وإلى أين تذهب ؟ إنه لسخف تفكيرك ذاك !
وذات يوم يقابله زميل له في المدرسة الأولى ، أيام المراهقة ، فيسلم عليه باشتياق الزملاء الغيّاب ، ويجلسان فترة يتذاكران أيام الصبا قيلتقي شعورهما عليها ، ثم يمتد الحديث فيشعر أن هوة تفرقه عن زميله .. لقد وقف تعليم الزميل وثقافته عند حد ، بينما مضى هو يتعلم ويتثقف ويوسع معارفه وتجاريبه ... فلما التقى به كان في واد وزميله في واد ...
ويبرد الحديث ويجد في نفسه فراغا منه ، ويعتزم أن يستأذن .. وحسبه هذه اللحظات .. ولكن زميله يسأله عن عنوانه فيذكر له رقم مسكنه في الضـاحية ! ثم يتقدم إليه الزميل ببطاقته وفيها العنوان ..
ماذا ؟ إنه يسكن هناك ! بل إن داره لا تبعد عن دارها إلا بمحطتين في الترام ... وهنا يعود زميله مخلوقا جديدا في نظره . مخلوقا آخر غير الذي كان .. مخلوقا مسحورا تحف به الأسرار وتحيط به الهالات .
وتراوده نفسه على أن يمد الجلسة .. فيصده عن ذلك أنه استأذن من زميله فعلا .. ولكنه يقول في حراراة واضحة ، ولهجة مضطربة ، لا يزن فيها الكلمات والإشارات :
= آه .. أنت هناك ؟ سأزورك إذن ، سأزورك قريباً !
ويتلقى زميله هذه الرغبة بالترحيب والاستبشار ، ولا يلمح شيئا مما وراءها ، ولا يجول في خاطره إلا انه إعزاز الزميل القديم وشوقه إلى لقياه !
***
ولم يمض يومان يومان حتى كان في طريقه إلى زيارته . لقد وجد المبرر . فما تستطيع نفسه أن تحاجه بعد اليوم في ركوب هذا الترام ! .. ماذا ؟ إنه ذاهب لزيارة زميله القديم العزيز ! ...
ويتحمس لهذا الخاطر حتى ليضحك لحماسته حين يفيق ، وكأن أمامه من يحاجه ويشتد عليه في الحِجاج !
وحين وجد نفسه في الترام .. تنفس نفسا عميقاً طويلا ، ومد قدميه في حجرة الدرجة الأولى ، وارتكن بمنكبيه على حافة النافذة بضع لحظات .
ومضى الترام محطة ومحطة ومحطة .. ثم افاق .. إلى أين هو ذاهب ؟ أماض هو إلى زميله حقاً ، أم ان هنالك غرضـاً دخيلاً ؟
وهتفت به كل ذرة في كيانه : آه لو يلقاها في المحطة أو في الطريق العام ! إنه سيكون في مجالها القريب بعد بضع محطات !
وتوالت المحطات .. وكلما قرب من المحطة المسحورة زاد قلبه خفقانا ، وزادت المعركة في نفسه احتداما ، وساورته خيالات صبيانية ساذجة ، ودار في نفسه حديث طفلي غريب :
= ولو كانت هناك ورأتك ، فماذا عساها تقول ؟
= ماذا عساها تقول ؟ إنني ذاهب إلى زيارة الزميل !
= ومن يدريها هي أنك ذاهب إلى زميلك ؟ ولم لا تؤول مرورك هنا بانك تقصد رؤيتها ؟
= من يدريها ؟ وما ذنبي أنا ؟ وهل هو طريقها الخاص ؟
= ومع ذلك فقد لا تكون هناك !
وهنا يحس بانطفاء في روحه وباكتئاب يغشاه ...... ثم ..... من الخير ألا تكون هناك . فقد تتوهم على كل حال أنني لازلت أهفو إليها بعد كل ما كان !
وبينما تدور هذه المعركة كان الترام يقترب ، وهنا تزاحمت خواطره ، وفقدت نظامها واتساقها : ليتها تكون . ليتها لا تكون . آه لو رآها . إنني أخشى لقياها . لست ذاهبا إليها ، أنا ذاهب إلى صديق ! هه ! هذه هي محطتها ! ... وكانت أنفاسه عندئذ لاهثة ، وعيناه زائغتان . وخبأ رأسه قليلا ثم أطل بعنف ، ودار بعينه دورة سريعة . وتحرك الترام من المحطة ... الحمد لله . إنها ليست هناك ، ولكنه يخمد ويخبو وتركد أنفاسه ، ويغشى خواطره الظلام !
***
واستقبله زميله ! – أو صديقه كما راح يسميه – بحفاوة وبشر وابتهاج ، ولاقاه هو بهمود وبلادة واكتئاب ، وعزا ما به إلى تعب السلم ، وغاص في كرسيه يستريح .
وانقضت الزورة ، وهم بالاستئذان .. وإذا زميله ينزل معه ليودعه ويعرض عليه أن يتمشيا محطتين حتى يفرغ زحام الترام بعض الشيء لأن فريقا من الركاب ينزل عادة هناك .
وأحس بانتعاش قوي لهذا الاقتراح . محطتان . أي انه سيركب من المحطة المقابلة للدار .. وزميله معه ، فهو حجته في زيارة الحي والركوب من هذه المحطة ! وكأنما هناك من سيسأله : لماذا جاء إلى هنا ؟ ولماذا يركب من هناك !
وسار في نشوة وفي قلق كذلك .. سار يتلفت هنا وهناك عسى أن تقع عينه عليها في الطريق أو في الشرفة إو في أي مكان . ولكنه لم يرها ، وبدأ يخمد مرة أخرى . وفجأة يرى أمامه وجها لوجه .. بواب الدار في الطريق العام
= عم سليمان ؟ أهلا وسهلا عم سليمان !
وقال الرجل بلهجته النوبية الخاصة :
= أوه .. إيه حالك يا بيه ؟ والله زمان !
= الحمد لله يا عم سليمان !
وأفعمت اللهفة نفسه أن يسأل عن أهل الدار .. ماذا جرى هم ؟ ما اخبارهم ؟ هل تزوجت ! وألف سؤال وسؤال ..... ولكن كبرياؤه وقفت به لا يلقي أي سؤال .
وقال الرجل في لهجة يخامرها الأسف والأسى :
= فين أيامك الحلوة يا بيه ... ( وسكت برهة ) .. هم كمان عزلوا من زمان !
وانفتح الباب على مصراعيه . ولكنه ظل متحفظا ، فقال في حذر ينفي عنه الريبة :
= نقلوا ؟ لا بد أن يكونوا بعيدا عن الحي !
وقال الرجل : إنهم لم يبعدوا كثيرا فهم في الحي المجاور ..
ولكن بقيت أمامه مشكلة أخرى : أن يعرف بالضبط عنوانهم الجديد .
ولكن لماذا يعرف عنوانهم الجديد ؟ ما علاقته بهم ؟ وهب له بهم علاقة ، فإنه يعرف رقم تليفون أبيها في مكتبه وهذا يكفي !
ولكن شعورا غامضا يساوره : إنه يحب أن يعرف المنزل الجديد ، إنه يحتفظ في مخيلته بصور المنزل القديم ، ويسترجع من هذه الصور حركاتها وتنقلاتها .
هي مرة في حجرة الجلوس توقع على البيانو ، وهي مرة تستقبله على الباب ، وهي مرة في مرافق المنزل ، وهي مرة تنام في سريرها الخاص ، وهي مرة تقفز وهي تقطع الممر القصير في بضع خطوات .... فهو يملك منها شيئا كثيرا ، ولديه منها رصيد مذخور . ولكن في هذا المنزل الجديد كيف يتخيلها ؟ إن صورها مائعة في خياله ، بل لا صور لها إلا ما يحاول الخيال أن يركبه من العدم فلا يسيطيع .
مرت هذه الخواطر في نفسه سراعا والبواب أمامه ، ثم هدته الحيلة ، فقال :
= والله كنت أريد أن أقابل أخاها لأمر هام ، ولكني لا أعرف العنوان !
وهنا أسرع البواب فذكر له اسم الشارع ورقم المنزل وهو يقول :
= (( والله ناس طيبين زيك يا بيه .. مين يعرف ؟ يمكن برضه يكون لكم نصيب ! ))
واستروحت نفسه هذه الكلمات استرواح الظلال في الهجير . إذن هي لم تتزوج بعد ،و من يدري فقد تكون هنالك بقية .. ألا يقول ذلك الرجل البواب ؟!
وارتد إليه نشاطه ، ووثبت خطواته ، ووقف ينتظر الترام على المحطة مع صديقه حتى جاء فركبه ومضى في نشوة وانطلاق .
***
وغالبه الشوق الجارف لأن يتعرف الدار الجديدة . ولكن إرادته كانت أقوى ، فلم يحاول ذلك أياما طويلة ، إلا أن زياراته لصديقه لم تنقطع ، فالحي الجديد في طريق الحي القديم !
وفي كل مرة كانت تدور المعركة ذاتها ، وتنتهي الزيارة كما تنتهي إلا انه في مرة تشجع فطلب إلى زميله أن يرافقه ليتمشيا في الحي الذي ذكره البواب ، لأنه يريد أن يسأل عن شأن له هناك !
وكان وجود زميله معه هو المبرر الرسمي لوجوده وسارا حتى وصلا إلى الشارع المطلوب ، وظل يتصفح أرقام البيوت دون أن يلفت زميله ، وكلما قرب من الدار ارتفعت دقات قلبه وبدا عليه الاضطراب .
وحميت المعركة التي دارت في أول مرة ، وزاد الإحراج أنه يسير هنا ولا يركب الترام ، وازدحمت الهواتف والرغائب والمخاوف حين صار أمام المنزل ... ولكن هاهي ذي نوافذه مغلقة ولا شيء هناك ! .
وكان الجهد قد نال منه ، وبدا عليه الإعياء ، فلم يجد مشقة في إقناع صديقه أنه متعب ، وأنه يحسن أن يعود فيأخذ الترام .
***
ولم يحاول بعد ذلك أبدا أن يمر في هذا الحي ، لقد اطمأن إلى معرفة الدار ، كأنما هذا كل ما هنالك , ولكنه لم يتخلف عن زيارة صديقه والمرور على الشارع الذي به الدار من بعيد في الترام !
وفي يوم يلقى زميله في القاهرة ، فيسرع إليه ليخبره أنه ترك داره القديمة إلى عنوان جديد ، ويخرج من جيبه ورقة ليكتب له فيها العنوان الجديد !
وأخذ أخذة شديدة ، وخيل إليه لحظة أنها عملة سخيفة جداً ! .. وكاد لسانه يفلت فيؤنب الرجل عليها ! .. ولكنه يتدارك نفسه .. ويخفي تجهم وجهه وملامحه ، ويتناول الورقة في برود فاتر : لقد سقطت حجته في أن يذهب بعد اليوم إلى هناك !
وقال الرجل في براءة : ستزورني طبعا في عنواني الجديد ! .. قال في برود وشرود : إن شاء الله .. إن شاء الله .
.
-
عضو متميز جدا
[ 11 ]
[align=center].
.
.
.
.. الصورة الهاربة .. [/align]
تخلفت عنده صورة لم يردها إليها ... لم يكن ذلك عن عمد . كانت هذه الصورة أكبر حجما من أخواتها . وكن جميعا في ظرف صغير ، أما هي فكانت في ظرف آخر كبير ، وكان قد أهملها في مكانها لأنها صورة (( مهزوزة )) فلم يكن يراها كثيرا .. لأن الصور الأخرى أوضح وأدق وأجمل . ولكنه أراد أن يردها إليها كما رد رفيقاتها ، وبحث عنها فلم يجدها ، فأضمر أن يردها حين يعثر عليها .
وحينما هدأت الثورة التي طغت على أحاسيسه ، وتكشفت الغمرة التي أغرقت عواطفه ، وسار الحنين إلى حوريته الهاربة التي تبدت أسطورة خالدة في حياته .... عندئذ أحس باللهفة والشوق إلى كل أثر من آثارها ، وشعر بالحنين المترقرق يهمس في جوانجه ؟ يا ليت شيئا من أشيائها يكون في متناوله !
وكان كل شيء يتصل بها من قريب أو بعيد قد بات حبيبا إلى نفسه ، ترف عليه روحه ويترقرق الوجد في حناياه وتحف به هالات مسحورة تتراءى خلالها الطيوف والأحلام !
ودب الندم والتمني إلى أحاسيسه في فترات كثيرة : لو أبقيت صورها ! إنها لم تطلبها مني ! لو أبقيت رسالتها إليّ ، وهي رسالة تنطق بنيل ضميرها ، ودقة حساسيتها ، وتصور حقيقة معدنها ، ويقظة شعورها ! .. لو أبقيت (( الشبكة )) وخاتم الخطوبة وهما يساويان – في الذكرى – أضعاف أضعاف ثمنهما ! .. لو أبقيت (( علبة الملبس )) إنها على كل حال أثر منها ! . لو عملت ، لو أبقيت .....
وتقلب يده ذات يوم في أوراقه ، فإذا هو يعثر على الصورة ... . قفز قلبه قفزة شديدة بين ضلوعه ، وبقى فترة طويلة يدق دقا متواصلا عنيفا ، وارتجفت يده وهي تتناول في قداسة وروعة ، فتقربها من عينيه ، فيتطلع إليها هنيهة في شغف واغل وفي صوفية مشرقة ، ثم يقربها من فمه فيقبلها قبلة طويلة عميقة ، تشترك فيها كل خالجة وكل ذرة فيه ، وتستنفد منه طاقة يحس بعدها بالهمود والاسترخاء ... وتترقرق في عينه دموع دموع حــارة ، فيستسلم بها في راحة لذيذة ، وتنقضي فترة طويلة وهو في شبه غيبوبة .
ويفيق ، فلا يحاول النظر إلى الصورة مرة أخرى ، بل يدسها برفق بالغ في الظرف ، ويغلقه بحنان ! كما لو كان يلف وليداً لينام ! .. ويضع الظرف بعناية في درج مكتبه ويغلقه بهـدوء ، ويقوم فيمشي باحتراس حتى يغادر الحجرة ، ويغلق الباب في سكون .
.. إن هناك وليـداً نائماً يخشى عليه الضوضاء !!!
***
ومضت أيام كثيرة يحاول أن يرى الصورة فيها . كان مطمئنا لوجود الذخيرة عنده ، وكان في نفسه شعور غريب آخر : إنه يشفق من رؤية هذه الصورة ، وإنه ليرتعش حين يفتح درج المكتبة ليتناول منه شيئا ، ثم هو يحس بشعور العابد الورع حينما يقترب من الهيكل ليناجي المعبود المقدس . وكل هذه الأحاسيس المجتمعة كانت تصده عن المحاولة ، تلك الأيام الطوال .
وذات يوم يجد في نفسه لهفة تتيقظ للصورة ، ويفتح الدرج في عجل ، يتلمس الصورة في مكانها فلا يلقاها .
وأحس بفزع ، فراح يعيد الفحص بين الأوراق في هـدوء ونظام أول الأمر ، ثم في عجلة واضطراب بعد ثوان .
وعبثا يحاول أن يعثر عليها .. لقد قلب الأوراق رأسا على عقب ، ثم ترك الدرج وراح يقلب في الأوراق فوقه ، ثم ترك المكتب وراح يفحص في أدراك الكتب ، وفي كل مكان في الحجرة على غير جدوى ! .. يا للشيطان ! .. أين ذهبت الصورة ؟
راح يسأل أفراد الأسرة واحدا واحدا ، وراح يقلب كل ما في البيت ويبحث حتى في غير المظان .. ولكن جهوده كلها ضاعت سدى ..
وجلس حائراً مكدوداً . أين ذهبت الصورة ؟ وقام يعاود البحث من جديد ! وتكرر هذا البحث أياما كثيرة ، حتى يئس من وجودها ، وفرض الفروض الكثيرة لضياعها ... وهنا أحس ما يحسه الوالد يفتقد الوليد ، يفتقده تائها خرج ولم يعد للدار . ويحز الألم في نفسه ، وتتغشاه لوعة عميقة ويعتاده لهـف شديد ... ولكنها ذهبت ضياعاً !
***
ثم تمضي الأيام ، ويحس ذات يوم لهفة للحورية الهاربة من نوع جديد ، لهفة يجد لها في روحه رهقاً ، وفي حناياه التياعا ، ويشعر أنه نفسه تتذاوب حنينا . وأنه كله ذوب متهافت إليها ، وكانت هذه اللحظة أقسى على نفسه من كل لحظة سواها ، لا يستطيع أن يشفي لهفة ، وقد انقطع آخر خيوط الرجاء الضئيل في العودة .
وفي هذه اللحظة يتناول كتابا يحاول أن يهرب إليه من نفسه ، ويقلب صفحاته على غير اهتمام . وهنا تبغته المفاجأة العجيبة : الصورة هنا بين طيات ذلك الكتاب !
وخانته قواه ، وأفلتت منه إرادته ، وبدا في هيئة مضحكة ساذجة غريبة : حدقتاه متسعتان ، ونفسه مضطربة ، وصدره يعلو ويهبط ، والصورة أمامه ضاحكة لا تمتد إليها يداه !
وبعد فترة هدأ اضطرابه ، وسكن جأشه ، وعاد إليه هدوؤه ، فتناولها وضمها إليه في فرح ضمة الوليد العائد بعد اليأس والقنوط ، وراح يربت عليها .. فلو رآه أحد في هذه اللحظة لظن بعقله الظنون !
ولم تحاول الصورة بعد ذلك أن تهرب ! وقد ألفته ! واطمأن قلبه إلى أن بين يديه منها أثراً . ولم تطاوعه نفسه أن يرد إليها صورتها الأخيرة على الرغم من هتفات ضميره أن يردها إليها .
ووجد المعاذير لنفسه أمام إلحاح هذا الضمير : إنها لم تطلب منه صورها أبداً ، وإنها لتثق أن صورتها عنده كريمة ، وأنه لن يسيء إليها بهذه الصورة أبداً ، وإنه ليتوجه إلى الصورة بإحساس مقدس .. وشعور مطهر ..........
ولو أنصف نفسه لقال : إنه لا يقوى على فراق صورتها ، فإنها آخر خيط منها ، وإنها وحدها تتمثل فيها كل خواطر الماضي العزيز ، وكل صوره وأطيافه ورؤاه !
.
-
عضو متميز جدا
[ 12 ]
[align=center].
.
.
.
.. الأسطورة الخـالدة .. [/align]
لم يخالج صاحبه شك في أنه يهذي أو يمزح حينما ضغط على يده في عرض الطريق وناداه :
= ألم أقل لك : إنني سألقاها الآن ؟ ها هي ذي يا سيدي أمامك لتصدقني !
ونظر صاحبه فإذا فتاة مبهوتة مقيدة الخطوات ، تتوالى على سيماها في لحظة شتى الانفعالات .
أما هو فقد تابع سيره ويده في يد صاحبه ، يضغط عليها كما ضغط عليها كما ضغط أول مرة . وإنه ليترنح فيتظاهر بالتماسك ، وتتلاحق أنفاسه فيتظاهر بالابتسام ، حتى يصلا إلى مفرق الطريق فإذا هما يقفان !
لم يكن أحدهما بأقدر من الآخر على تحديد الاتجاه . فأما صاحبه فكان ما يزال في دهشة المفاجأة : المفاجأة من تحقق النبوءة على هذا النحو الذي لا يعهد إلا في عالم الأساطير . وأما هو فكان ما يزال في هزة المفاجأة : المفاجأة التي تنبأ بها منذ لحظة ، ثم هو يتلقاها كمن لا ينتظرها بحال !
وحينما طال بهما الانتظار ، صحا صاحبه قبله من دهشته ، وحسب أنه يسدي إليه خيراً إذا هو عاد به أدراجهما في الطريق ليواجهها مرة أخرى !
ولم يكن هو زاهدا في محاولة هذا اللقاء ، ولكنه كان في هذه اللحظة يستطيع أن يواجه الشيطان ، ولا يواجه الفتاة التي تهتف به كل ذرة في كيانه أن يلقاها الآن !
لقد تنبهت فيه غريزة الخوف من الخطر حينما رأى نفسه يكاد يستسلم لمحاولة صاحبه ، فيمثل دور الفراشة التي تتهافت حتى تحترق على نور المصباح . فإذا هو يمرق بصاحبه إلى ممر يؤدي إلى شارع آخر نواز للشارع الخطر ، وهو يزعم لصاحبه أنه يقصد إلى مشرب هنالك خاص ، حتى إذا صارا في الشارع الأخير ، أحس انه يلتقط أنفاسه ، وأنه في مأمن من جاذبية التيار .... فوقفا يستريحان .
***
كان صاحبه يعلم قصته منذ نشأتها . بل كان يعيش معه القصة في كل فصولها ، وكان يعلم أنه قد مضى على آخر لقاء لهما عام كامل بعد أن وقع بينهما ما وقع ، مما يؤذن بانفصال لا رجعة فيه ، وبعد أن انتهى بينهما كل شيء ولم يبق إلا الذكريات .
وكان صاحبه يعلم مرارة الذكريات وحلاوتها ، تلك المرارة وهذه الحلاوة اللتان يمزجهما في كأس واحدة ، يخشاها أبدا ، ويحن إليها أبدا ، ولا يفتأ يتشهاها مرة ، ويجفل من مسها مرة ، ويصوغ ذلك كله في قصائده وأغانيه ، بل يتخذ من ذلك كله مادة حياة .
كان كل شيء قد انتهى ، وانتهى بالصورة التي يعييه أن يحاول بعدها وصل ما انقطع ، أو رجع ما فات ، كانت كبرياؤه تأبى عليه أن يعود ، وكانت مرارة الذكرى تطغى على حلاوتها في معظم الأحيان ، وكانت تجربته تذكره دائماً بالآلام .
ولكن هذه التجربة وتلك الكبرياء لم تكن واحدة منها بمستطيعة أن تصرف طيفها عنه ، أو تمحو صورتها من نفسه ، أو تصرفه إلى حياة أخرى غير الحياة التي رسمها خياله معها . كانت قد استحالت في حياته إلى أسطورة خرافية تسيطر على هذه الحياة .
وكان يزعم لنفسه أو تزعم له نفسه – حينما يسترجع مرارة الكأس المسمومة – أنه قد انصرف عنها ، وأن الأسطورة الخرافية قد تنحت عن مجرى حياته ، فهو يصرف هذه الحياة كيفما يشاء !
وتحدث بهذا الزعم لنفسه مرة ، وتحدث به لصاحبه مرات . ولكنه كان يحس في أعماقه ، وهن هذا الزعم وتهالكه ، فيزيده هذا الإحساس توكيداً لما يزعم ، ومجاهرة بما يدعي ! ، كالخائف يهتف بالقوة والتحدي ليتشجع في وجه أشباح الظلام !
وكثيراً ما راوده صاحبه على أن يحاول العودة والاتصال – وهو يعلم من دخيلة نفسه ما يعلم – فكان هذا يزيده إصرارا على كبريائه ، واستعادة لمرارة الذكرى ، وادعاء بأنها لم تعد شيئاً في حياته . وإن كان يتخاذل في بعض الأحيان ، فيعترف له بأنها أعمق في نفسه من هذا الادعاء ومن تلك الكبرياء ، وأن الذي يعصمه من محاولة العودة إنما هو مرارة الذكرى ووخز الأشكواك .
ثم تلت ذلك فترة أحس فيها حقيقة بأن عالمه قد خلا من تلك الاسطورة اللعينة ، ولكنه لم يسترح لهذا الإحساس .
لقد شعر بالفراغ والجفاف ، وانتابه ما ينتاب المؤمن بعد الإلحاد ، وما يصيب الصوفي بعد الضلال !
لقد خلا الهيكل من الصنم المعبود ، واستوحش الصوفي من سبحات الشهود ، وران على نفسه وعلى العالم كله ظلام وخمود
لقد عادت الحياة تكلفا لا يطاق ، وراح يقطعها كما يقطع الأجير المسخر أيامه ولياليه في العمل المجهد الكريه ، وليس له منه إلا أجره الزهيد !
ألا ما أشقى الملحدين الحيارى الشاردين عن الهيكل ، ولو كانت تعمره الأصنام !
***
واليوم – بعدما انقضى عام كامل – كان قد تناول الغداء مع صاحبه هذا وصديق ثالث لهما . وهم ثلاثتهم من أصدقاء الصبا ، ولكل منهم قصة في حياته تنتهي بالحرمان على نحو من الأنحاء ، ولكل منهم موسم يتحدث فيه عن قصته حينما تبدع يد القدر فيها فصلا جديداً ، فحيثما ضمهم مجلس تسللت إلى أحاديثهم قصة من قصصهم الثلاث !
وبعد الغداء ذهب الصديق الثالث لبعض شأنه ، بعدما قص على صديقيه فصلا من فصوله ، هاج صاحبه لأن يقص عليه بدوره فصلا من قصته : وما يكاد صاحبه ينتهي من هذا الفصل الأخير حتى تنبض في نفسه لهفة خاطفة ، وحتى ينسى كبرياءه وادعاءه ، وينسى مرارة تجاربه وذكرياته ، وحتى يفضي إلى صاحبه بهذه اللهفة العارمة :
= كم أنا مشتاق إليها ! إن المصادفات التي كانت تبيح لي لقاءها مرة ومرة – أيام أن لم يكن لقاؤنا رهن المصادفات – عادت تضن بها اليوم على مدار العام !
قال له صاحبه :
= إن الأقدار لحريصة على حبكة الرواية !
فمضى هو في لهفة حديثه : ترى كيف هي الآن ؟ أريد أن أعلم أي خبر عنها ، بل أريد فقط أن ألمحها من بعيد . ترى تغيرت ؟ أم ماتزال كعهدي بها منذ آخر لقاء ؟
ثم ينتفض واقفا من المقهى الذي كانا يستريحان فيه ، ويأخذ بيد صاحبه ، وإنه ليكاد يدفعه دفعا إلى السير في الطريق العام .
وقال له صاحبه – بعد مسيرة خطوات :
= إنني اهم أن أفترق عنك لشأن خاص
فتمسك به وهو يقول :
= كلا ! لن تتركني . فسنتسكع هنا !
ويسكت لحظة ليقول – وكأنما يستشرف لرؤيا من بعيد :
= أحس انني سألقاها الآن .
فيتهكم صاحبه ويجيبه مداعبا :
= إذن أتركك تستمتع بهذا اللقاء !
وإنه ليخشى أن ينفذ صاحبه وعيده ، وأنه ليحس برعشة في كيانه كمن يواجه الخطر ، فيقول :
= كلا ! لن تتركني . فإنني لأفضل إذا لقيتها أن تكون معي ، كما يحسن أن تكون معي لو كانت صدمة قطار أو صعقة تيار ، ثم يتلو أبياتا من إحدى قصائده في هذا السياق .
وإنه ليمد بصره ، فإذا المفاجأة المنظورة ، وإذا الخطر المرتقب على بعد خطوات .
يا للسماء ! بل يا للشيطان !
إنها الأسطورة الخالدة في صورة من صورها الكثيرة . وهل كانت القصة كلها إلا أسطورة في عالم الخرافات .
***
حينما هدأ روعه ، واستقرت قدماه في الشارع الموازي للشارع الخطر ، كان في حاجة ماسة إلى الوحدة والانفراد ، كان يحمل في وطابه ثروة مفاجئة ، يريد أن يستعرضها وحده في خفية عن الأنظار !
قال له صاحبه :
= والآن إلى أين ؟
قال :
= إلى الضاحية
قال الصاحب :
= وهو كذلك لتستريح !
وسار به مرة أخرى إلى الشارع ليركبه الترام ، فلم يحس هذه المرة بالرهبة من الشارع الخطر ، ولم يحس باللهفة عليه أيضا .
لقد كان في وطابه من الثروة ما بشغله عن الرهبة واللهفة جميعاً .
وحينما انفرد في الترام كان في غيبوبة حالمة . كانت الأشياء والمناظر والأشخاص تتوالى على عينه المفتوحة كما تتوالى الأطياف الغامضة والرؤى اللطيفة ، فلا تترك في حسه إلا ظلالا خفيفة . ومع هذا فقد كان يود الخلاص من هذه الظلال . كان يضم جوانحه في رفق على ومضة من عالم الخلود ، لا يجوز أن تخشاها ظلال الزحمة الفارغة في عالم الهالكين .
ثم ركب قطار الضاحية ، وإنه ليركبه كل يوم في الصباح والمساء ، وإنه ليضيق به في الأيام الأخيرة وبما يثيره من الضجيج والغبار ، ولكنه اليوم لا يشعر بهذا الضجيج ، ولا يلتفت لهذا الغبار . >>
وإن القطار ليخرج من العمار إلى الصحارى في ساعة الغروب ، وإنه ليرسل ببصره كالحالم في هذا الفضاء الجميل ، وكأنما يراه أول مرة في هذا الأوان !
***
في هذا المساء كان كالحالم المخدور ، فإذا صحا فليستعيد في خياله موكب الصور المتزاحمة في تلك اللحظة المليئة ، وليحاول أن يتخيل كيف كانت سحنته وملامحه بعدما لمح كالبرق سحنتها وملامحها وليسأل نفسه كالأطفال :
أكان يبدو علي التماسك وعدم المبالاة ؟
أم كنت خائراً مضعضع القوى ؟
أكنت منفرج الملامح باش السمات ؟
أم كنت مقطب الوجه مغضن الجبين ؟
ترى أسأت إليها بجمودي وقلة مبالاتي ؟
أم ترى استشفت خواطري وانفعالاتي ؟
ما الذي كانت تفعله لو لم يكن معي صاحبي ؟
ما الذي كنت أفعل لو لاقيتها منفرداً ؟
وهكذا وهكذا من هذه الأسئلة الطفولية الساذجة ، التي لا يطمئن فيها إلى جواب ، والتي كانت تخطر له ببال ، لولا الأسطورة التي تظلل حياته ، وترده في كثير من الأحيان إلى خواطر الأطفال ، ولكنه مع هذا كله لم يكن قلقا ولا مهتاجا ، كان هادئ القلب ، رضي النفس ، نشوان الخيال . لقد أرضاه أنها لاتزال بعد هذا العهد الطويل تضطرب هذا الاضطراب حين تلقاه ، وأنه يستطيع أن يتظاهر بالتماسك في وجه هذا الاضطراب !
ولقد أرضاه أنه لا يزال يحمل الشعلة المقدسة بين جنبيه ، ويملك هذا السر الذي كان يحسبه قد تاه : سر التوجه إلى الصنم بمثل هذه الحرارة ومثل هذا الاختلاج !
ولقد طمأنه أن صاحبه يقرر – وقد رأى منهما ما راى – أن الستار لم يسدل بعد ، وأن الرواية لم تتم فصولا ، وأن في الجعبة مخبآت . لقد استمع إلى نبوءة صاحبه هذه في لهفة واشتياق كما يستمع إلى أسعد البشريات !
***
وكان في الأيام الأخيرة قد ضاق بالعاصمة في حر الصيف ، وبرم بالعمل في وقدة الحر ، وتجاوز الضيق دائرة العمل ودائرة القاهرة ، فشمل الحياة كلها ، وشمل الناس والأشياء ، وكان قد اعتزم أن يرحل عن العاصمة الكريهة إلى جهة ما ، وأن ينجو بنفسه من هذا الضيق المحطم للأعصاب . ولو لبضعة أيام .
فأين صارت منه العزيمة بعد ساعات ؟
إن القاهرة لحبيبة ، وإن الحياة في هذه الدنيا لجميلة ، وإن في الكون الواسع لفسحة للآمال ، وإنه لن يبرح القاهرة ، ولو لبضعة أيام .
أبيس في القاهرة هذا الطريق العام ؟
أولم يلقها مصادفة في هذا الطريق العام ؟! ...............
.
-
عضو متميز جدا
[ 13 ]
[align=center].
.
.
.
.. عــــارية .. [/align]
بعد عام ونصف عام لاقاه الضابط الشاب – صاحب الماضي الحي – في الطريق العام ومعه فتاة ! ..لقد دهش أول الأمر ودفعه حب الاستطلاع لأن يعرف من تكون الفتاة .. لعلها أخته أو قريبته . إلا أن هاجسا كان يهتف في اعماقه : كلا كلا إنها شيء آخر في حياة هذا الشاب .
كيف يعرف ؟ ليته يستطيع أن يسأل كائنا من كان
ولم تطل به الأيام في هذا الشك والقلق ، فلقد لقى الشاب مرة أخرى وحيداً . لقيه في الترام فما لبث أن سلم عليه ، وأخذ معه في الحديث .
قال :
= لقد عدتَ من السودان !
= نعم من مدة !
= وكيف الحال الآن ؟
= الحمد لله .
= ألا تزال تسكن هناك !
= نعم في نفس المنزل .
وخاف أن يستمر الحديث هكذا حتى ينزل من الترام ، فعرج على المسألة التي تضطرب في نفسه من بعيد .
= لقد شاهدتك منذ ايام في شارع فؤاد فلم أسلم عليك لأنك لم تكن وحدك .
= آه .. كانت معي خطيبتي !
= خطيبتك ؟ وهل خطبت غير .... ؟
= ماذا أصنع ، إن أمي لم تقبل أبداً ، ثم هي . لقد قابلتها فلم تسلم علي ّ !
= معها حق ! ( قالها في راحة وفي حنق مكتوم ) .
= إن أهلي جميعا شديدو الحنق عليها . إنهم يشيعون عنها إشاعات كثيرة ، ويشوهون سمعتها في كل مكان ، ويقولون عنك أنت : إنك تركتها لسوء سلوكها ، وقد ساءت سمعتها فعلا في الحي كله ! فتركوه إلى حي جديد .
همّ أن يصفعه في هذه اللحظة . ولكنه أمسك نفسه وهو يقول :
= أنا ؟ أنا تركتها لسوء سلوكها ؟ من قال ذلك ؟ إن الذي يقول هذا كذاب . إنها مسكينة . إنها ضحية الرجولة الناقصة في شبان الجيل !
وكان الترام قد وقف ، فاستأذن الشاب ونزل ، قبل أن يسمع بقية الشتائم التي كانت ستنفجر لو طال الحديث !
***
لم يستطع ان ينام ليلته . لقد كان يساوره القلق ويخز ضميره الندم. من يدري أن له يداً في تعطيلها عن الزواج ؟ إن خطبته لها كانت قد عرفت في وسطها كله ، فمن يستطيع أن يعرف الحقيقة ؟ من الذي لا يظن أن فصم الخطبة كان لشيء علمه عنها مما يسيء ؟ وهل الناس مستعدون أن يقدروا حقيقة الموقف ؟ وهل لديهم الوقت الكافي للبحث والمعرفة ؟ إنها كانت محسودة في أسرتها لجمالها وذكائها وزواجها ، وإنهم سيجدون في فصم الخطبة بعد عقدها مادة كاملة لشفاء أنفسهم من الحسد الكظيم . ثم ألم يكن هو الذي منعها من هذا الشاب ؟ حقيقة إنهم رفضوه أول مرة ، ولكن من يدري أنه لولا وجوده في المرة التالية .. لقبلوه ..... مسكينة .
مسكينة . ليته يستطيع اليوم أن يصلح هذه الأخطاء !
وأدركته سنة من النوم ، فوجدها . وجدها عارية تتوارى في عينيه في انزواء . ودار بينهما حوار : هو يريد أن يلقي عليها رداءه ليسترها ، وهي تمتنع وتتوارى ... ثم ... ثم تعتذر له من دعوتها لمرافقته :
= إنني كما ترى عارية ، لا أستطيع التعرض للأنظار ! ....... ثم إنني لست ......... عذراء ......!
***
كان هذا الحلم من وحي الوساوس التي ساورته في اليقظة ، ولكنه ترك في نفسه أثراً عميقاً . لقد طبع في خياله حقيقة واضحة حتى لتحس . حقيقة أليمة مؤذية ، لا يقر له من بعدها قرار : أتكون حقيقة كما قالت في الحلم ؟ أيكون امتناعها عليه لهذا السبب ..... ؟ هي ؟ هي حوريته الهاربة ؟ هي عذراؤه الطهور ؟ هي ... هي ؟
وفي مساء اليوم التالي كان في منزلهم على غير انتظار .
لقد دهشت حينما رأته دهشة شديدة ، ودهش كل من في البيت أيضاً . إن كل شيء قد انتهى إلى غير رجعة ، فما الذي يرجعه الآن ؟
وقال لهم في لهجة عميقة صادقة :
= هل أستطيع أن أستأذنكم في أن أخلو بسميرة دقائق قليلة ؟ إن لي معها حديثاً للمرة الأخيرة ! .. وكانت الحواجز بينهما معدومة – على الرغم من كل ما وقع – فلم يجد ممانعة من أحد ، فكل من حولها يتمنون رجع ما فات .
وجلس بجوارها على أريكة واحدة ، وأخذ يدها بين يديه في اضطراب ، ونظر في عينيها بشدة يريد أن يستجلي سر الحلم الرهيب . إنه ليهب نصف عمره لمن ينبئه بالسر المرهوب .
قال :
= اسمعي يا سميرة . لعلك تستغربين عودتي الآن ...
قالت :
= كلا . لقد كنت اتوقع في كل يوم أن تعود !
قال :
= نعم هذا صحيح . أتذكرين يوم أن لقيتك بغتة في الطريق بعد الانقطاع ؟
قالت :
= لقد كان منظرنا يومها غريباً !
قال :
= والآن . باختصار . أريد أن أقول لك : إنني لقيت (( ضياء )) وعلمت منه حقيقة موقفك .
قالت وهزت كتفها ساخرة :
= ضياء ! ألا تزالان تلتقيان ؟
قال :
= لا . لقد قابلته مصادفة ومعه خطيبته !
قالت بنفس اللهجة :
= لقد علمت !
قال :
= ولقد رأيت حلماً أزعجني فجئت لأستوثق !
قالت :
= متشكرة . ولكن لندع هذا الحديث ، فما عاد يجدي بعد الآن .
قال في حرارة :
= إنك لا تدرين حلمي الرهيب . إنه رهيب حقاً . إنني أكاد أجن !
قالت في دهشة :
= وما حلمك ذاك ؟
هنا تلعثم وبدا عليه الاضطراب . بأي حق يواجهها بهذه التهمة الكبيرة ؟ ألمجرد أنه رأى حلما من الأحلام ؟ وأحس في هذه اللحظة أنه ظالم لها ، ونظر فإذا عيناها تطل منهما البراءة ، فعادت إليه ثقته الوثيقة .
قال في تلعثم :
= على أي حال هبي ما قد حلمت به صحيحاً فإنني مستعد أن أغفر كل شيء . إنني أقبلك على كل وضع من الأوضاع ! ..
قالها في صوت عميق النبرات ولم يدر إن كانت فهمت . ولكنها قالت في هدوء :
= من الخير أن نبقى هكذا أصدقاء . من الخير لي ولك ، إنني في حاجة لأن أحس أن هناك صديقاً ، وأنت رجل شاعر فلتمض إلى عملك الأدبي كفنان !
قال ، وقد حسب انها تتجمل ولا تنوي ما تقول :
= لا يا سيدتي . إن كان الشعر لا ينضجه إلا الحرمان ، فأنا سأطلق هذا الشعر من الآن !
قالت في لهجة جازمة :
= كلا يا سامي .. إن عملك الأدبي أدوم وأخلد . إنك لا تزال مخدوعا في قيمتي ، إنني لا أساوي شيئاً ، ولكن لتظل هكذا مخدوعاً من بعيد لتستطيع أن تنشيء شعراً وقصصا . لقد سمعت قصصك الأخيرة في (( الراديو )) وهي قصص مؤثرة وجميلة ، إنك تتحدث فيها عن (( الحورية الهاربة )) فلتتحدث عن هذه الحورية ما استطعت . فلو أنك عرفتها على حقيقتها لما كتبت كلمة واحدة بعد الآن !
وأحس في تعبيرها نضوجا كاملا لم يعهده من قبل . نعم إنها كانت على استعداد لهذا النضوج ، وكانت بوادره تلوح في بعض تصرفاتها وبعض تعبيراتها ، ولكنها كانت أبداً الطفلة المرحة العابثة ، تفتن في وجوه الشيطنة لتغيظه وتحنقه ، ثم تنفجر ضاحكة في اللحظة المناسبة ، حتى سماها (( الطفلة الشقية )) مع ما يبدر منها في بعض الأحيان من بواكير النضج والاستواء .
فقال :
= أراك يا سميرة تتحدثين بلغة الروايات ، وأخشى ان تخلطي بين الحقائق والخيالات ، هذا الذي تقولينه يصلح للقصص ، ولكنه لا يصلح للحياة !
قالت :
= كلا! إنني أعرف الحقيقة وأعيش فيها ، إنما أنت الغارق في الأحلام والخيالات ، وإنه لمن الخير لك ألا تعيش في الحقيقة وأن تبقى هكذا في الأحلام !
وارتفعت في عينه درجات وهي تقول هذه الكلمات الأخيرة ، وزاد حرصه عليها وشغفه بها ، ولم يبال الأشواك والأحلام !
قال :
= ولكنني لن أترك كل هذه الثروة تفلت من يدي بعد الآن !
قالت :
= يا لك من رجل طيب مخدوع .. لقد غرك البريق !
قال :
= فليكن ، ولا بد أن ننتهي إلى قرار ، فقد طال الحديث . وهم ينتظروننا في الحجرة المجاورة .
خفضت بصرها ، وألقت بالكلمات كأنها صادرة من بعيد :
= اسمع يا أخي ، إنني لا أصلح لك . إن حياتنا لن تستقيم . إنني عارية ، عارية أمامك ، ولن أقف عارية أمام إنسان !
(( عارية ؟ )) قالتها بنفس اللهجة التي سمعها في الحلم ، وانتظر أن تكمل ما قالت ... ولكنها لم تقل شيئاً ، فظل يحدق فيها بشده وهو منصرف إلى صورتها الأخرى في المنام !
قالت :
= مالك تنظر إلي هكذا !
قال :
= أليس عندك ما تزيدين ؟
قالت :
= كلا ! فهذا هو قراري الأخير .
قال يغمغم :
= والحلم ؟
قالت :
= أي حلم تريد ؟ حلمك ! إنك لم تفصح لي عنه بالتفصيل .
هنا عاوده اضطرابه ... أيفضي إليها بالحلم الفظيع ؟
قال :
= اسمعي يا سميرة ( وضغط يدها بين يديه ) لقد قلت لك إنني على استعداد لأن أغفر كل شيء ، كل شيء ، أيا كان !!!
حدقت في عينيه بشدة ، وانفجرت تبكي !
رباه ! ما دلالة هذا البكاء ؟ أهي الحقيقة المفزعة تواجهها فتبكي ؟ أم هي التهمة الأليمة تصيبها فتتلوى ؟ من ذا يعطيه اليقين ويسلبه الحياة ؟
ثم افاقت لتقول :
= ألم أقل لك إن حياتنا لن تصلح بعد الآن ؟
قال :
= ولم لا تصلح ؟ وماذا جد الآن ؟
قالت :
= لا تغالط نفسك ، إنك لن تثق بي مرة أخرى ، لا يخدعنك أنك تشعر في لحظة ما بالتسامح الكبير . إن هذه اللحظة ستزول ، ستزول عندما يضمنا بيت واحد ، وعندما يطلب كلا من صاحبه تبعات الحياة المشتركة ... بربك تصور أنني كنت سائرة معك في الطريق فلقينا ضياء ! ألا تثور في نفسك المعركة من جديد ؟ ألا تتزاحم في خاطرك الصور من جديد ؟ ألا تهجم عليك هواجسك من جديد ؟ أيمكن أن تستقيم بعدها حياة ؟
......... والأحلام ؟ من ذا يعصمك يا صديقي من هذه الأحلام ؟
ثم ابتسمت وبدا على وجهها حنان الأم للطفل المخدوع !
وقال هو في ذهول :
= وأنت .. ما خط سيرك في الحياة
قالت :
= سأعيش راهبة .
قال :
= هذا يخيفني من أجلك
قالت :
= اطمئن إذن .. فسأقبل أول طارق من عرض الطريق دون سؤال أو استفهام !
وأحس بأن الموقف قد انتهى ، وأنه لا سبيل إلى زيادة كلمة واحدة .
قالت وهي تنهض وتشدّ يده :
= لنكن أصدقاء !
فأجاب في صوت خافت :
= وهو كذلك . فلنكن أصدقاء !
.
-
05 Apr 2006, 08:21 AM
#10
عضو متميز جدا
[ 14 ] - عذرا يبدو أنه سقط سهوا أثناء عد الفصول وقت التعريف بالرواية -
[align=center].
.
.
.
... أحــلام .. .[/align]
كان يقول لها – أيام كانا يلقيان – إنني أستطيع أن أشم رائحتك وأميزها من بين ألف فتاة في الظلام ! وكان هذا يسرها ويستخفها ، فتحاول أن تخفي سرورها وخفتها بالتهكم وبالدعابة ، فتقول : (( إن حاسة الشم قوية جداً عند بعض المخلوقات )) فيضربها على يدها ويتضاحكان .
***
ولم يدر في ذات يوم – وهو يسير في شارع سليمان باشا نحو شارع فؤاد – ما الذي جعل هذه الذكرى تقفز إلى خاطره بعد اعوام ..
ولكنه يدري أنه اندفع على الأثر يشق زحام الخارجين من السينما القريبة وهو يفتش في الزحام عن شيء لا يتبينه في ذهنه على وجه التحقيق .. ثم كانت المفاجأة عندما استدار احد هذه الوجوه ، وحين نظرت إليه – كما نظر إليها – وفمها مفغور وحدقتاها متسعتان ، وهي تقول في دهشة :
= اوه .. أهذا أنت يا سامي !
قال في ابتسامة بلهاء :
= نعم أنا !
ومدت إليه يدها في اندفاع وصافحته بحرارة ، وهو مستسلم لا يكاد يحرك أصابعه ، وحانت منها التفاتة خاطفة إلى أصابعه في كفها فراحت تقول :
= ألا تزال وحيداً كما أنت ؟
قال :
= هذا لا يهم على كل حال .. وأنت ؟
ثم التفت إلى الطفل الصغير الذي يمسك بطرف ثوبها وينط وهو يسير بخطوات قافزة صغيرة ، وقال :
= أهذا ابنك ؟
قالت :
= نعم !
وقبل أن تنطق لفظتها كان قد انحنى على الطفل فرفعه بين يديه وتفرس في وجهه ، ثم أهوى عليه بقبلة في أنس وألفة ، وفي حنان ولهفة .. إنه يعرف هذا الوجه ، يعرفه جيدا ، وإن لم يكن رآه قبل الآن
وتابع حديثه معها :
= أهو وحيد ؟
قالت :
= نعم لم يأت سواه
وما اسمه ؟
قالت : ( سمير )
كاد يصيح من الدهشة ولكنه تماسك ، وتظاهر بالسكون ورددت شفتاه في شبه همس :
= سمير ؟ غريبة !
قالت :
= أليس هو هذا اسمك المختار
قال :
= أي نعم ، ولكن ....
ثم نظر إليها فإذا هي تنكس بصرها ، وتبدو في عينيها ظلال معركة ، فماتت على شفتيه الكلمات ، ومد يده فأخذ بيد الطفل الأخرى .. وساروا ثلاثتهم ، لا يشك أحد ممن يراهم في أنهم طفل ووالدان .
***
كان قد جرب مرة ومرة – في أيام الفراغ – أن بعض الوجوه تلفته إليها . ثم كشف مرة أن في كل وجه يلفته شبها قريبا أو بعيدا بالوجه الخالد في ضميره ، فعرف سر هذا الالتفات !
وكان قد استيقظ لنفسه وميوله ، فعرف أنه يحب من الألوان ما رآه يوما عليها ، ويحب من السمات ما يقرب من سماتها ، ويحب من الطرقات ما سارت مرة فيه ، ويحب من الأماكن ما التقيا مرة هناك ، فآمن أنه مقيد مقود ، وأنه لا يستطيع أن يتجه إلى وجه جديد .
ولم يحاول في أول الأمر أن يعرف من اخبارها شيئاً ، فاللقاء الأخير كان ينذر بالنهاية الأخيرة . وكان يرى في اهتمامه بها بعد ذلك نوعا من الضعف يستكبر عليه ولا يرضاه .
ثم انقضت فترة أخرى ، فانقلب هذا الشعور ، وبات ملهوفا على خبر من أخبارها ، أو أثر من آثارها ، وكم مرة بعد مرة دافعته يده إلى القلم ليكتب إليها أو لأحد من أهلها .
ولكنه كان يمسك نفسه من تلبيه هذا الخطر الداهم حتى يثوب إليه هدوؤه ، وحتى تذهب عنه سورته ، فبسكن إلى أن يعتاده هذا الخاطر بعد أيام .
ثم انقضت هذه الفترة أيضاً . وعاد لا يريد أن يعلم من أخبارها شيئاً ، لا لأنه لا يريد أن يعلم ، ولا لأنه يستكبر على أن يعلم ، ولكن لأنه يشفق من شيء يتوقعه . ولا يتصور كيف يكون وقعه على نفسه إذا كان !
وكان له في كل يوم لقاء معها ، ولكن في الخيال ، وحوار يدور بينهما ، ولكن في الخيال . وكثيرا ما استيقظ لنفسه ، وهو يبسم أو يتجهم ، ويشير بيديه وقسماته ، بينما هو منفرد في البيت أو في الطريق !
كان يحس أنها له وحده ، ولا يمكن أن تكون لأحد سواه . وكان يشعر أنها اعطته وحده مالا تستطيع أن تعطيه أحدا سواه . وكان يتصور أنه ترك عليها ظله فلم تعد تصلح لأحد سواه . وكان يعتقد أنها ملكه وحده ، ولو لم يكونا رفيقي حياة ,
لقد بنى في أحلامه عشها المنتظر ، ولقد مضى بخياله يطوي الأيام ، ولقد عاش في هذه الأحلام عيشة الواقع ، واستغرق في هذا الخيال حتى لم يعد يفرق بينه وبين الحقيقة !
وما الفرق بين الخيال والواقع ، إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ، ويترك آثاره في النفس والحياة ؟
وما الفرق بين الحلم والحقيقة ، وكلاهما طيف عابر ، يلقي ظله على النفس ثم يختفي منه من عالم الحس بعد لحظات ؟
على أية حال ، لقد عاش أحلامه ، وجسم خياله ، فكانت هذه المخلوقة رفيقة حياته ، ومعها عاش في العش الدافئ ، ومنها بلا شك كان له طفل !
طفل وحيد .... فما كان يتصور أن تلد له أكثر من طفل واسمه (( سمير )) ، فما كان يتصور أن يكون اسمه غير سمير . وهو طفل من لحم ودم ، حدثها عن شكله وسمته ، فهو طفل معروف السحنة واضح السمات !
هو سمير .. هذا بعينه الذي يراه الآن !
***
مر هذا الشريط كله في ذهنه ، وهما يدلفان إلى محطة الترام ، في غير انتباه . وجاء الترام ، فصعدت إليه في حركة آلية ، وهو يساعدها ، ويُصعد إليها (( سمير ))
وعندما تحرك الترام أدركته صحوة مفاجئة ، ونظر فإذا هي كذلك تلوح له بمنديلها ، ثم تجفف به قطرات من الدموع !
وفيما يشبه الذهول وجد نفسه يعدو خلف الترام .. ثم ثقف فجأة كأنما سمر في مكانه :
= ماذا ؟ إلى أين ؟ إنها ليست لك الآن ! إنها ذاهبة إلى هناك !
وأحس بالدوار ..
ولكنه أفاق :
= سمير ؟ غريبة ! ... أليس هذا هو اسمك المختار ؟
= كلا ! إنها لك . لك أنت وحدك برغم كل ما كان . لقد ألقيت عليها ظلك ، لقد طبعتها بطابعك ، لقد وسمت طفلها باسمك الذي اخترته ، إنها لك ، ولن تصلح لحد سواك !
= أحلام !
= أحلام ؟ وما الفرق بين الحلم والحقيقة إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ويترك آثاره في النفس والحياة ؟
= خيالات !
= خيالات ! وما الفرق بين الخيال والواقع ، وكلاهما طيف عابر يلقي ظله على النفس ثم يختفي من عالم الحس بعد لحظات ؟ .............
.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
قوانين المنتدى
مواقع النشر (المفضلة)