[align=center]

.

.


.


.




... أنثى ... [/align]


باتت سهراته ليلية في دارهم ، فما كان يستطيع مقاومة الإغراء الذي يقود قدميه كل يوم إلى هناك . ولم تكن كل أويقاتهم صفواً ، منذ أن برزت في حياتهما الأشواك ، ولكن شيئا لم يكن ليستطيع أن يقف هذا التيار الجذاب .

كان ينتظر الموعد اليومي ملهوفاً ، ويذهب إلى هناك فيجدها كذلك ملهوفة . وقالت له في يوم تأخر عن موعده : (( كم خفت ألا تأتي الليلة . إنني هنا غريبة بين أهلي ، بل غريبة في الحياة كلها حين لا أراك ))

وكانت غريبة حقا . فأهلها جميعاً طيبون نفوسهم بعيدة عن التعقد والتركيب ، وهي عقّدتها الأزمات النفسية والأشواك ، وعقدتها صحبته ومناقشاته ، وعقدتها القراءات التي كان يزودها بها ويحضها عليها ، وعقدتها التوجيهات النفسية التي كانت تتلقاها عنه وهما في السينما أو في غير السينما .


ولم تكن هي الغريبة وحدها في هذه الدار ، فلقد كان هو أيضاً غريبا فيها ، فإذا غابت عن المجلس لحظة شعر بالفراغ ، وكثيرا ما كان هو وإياها يشعران بالوحشة في حضرة هؤلاء الناس الطيبين فينسحبان إلى حيث ينفردان! .


وافتقدها ليلة فقام يبحث عنها في حجرات الدار . ودخل حجرة النوم ... وكانت مفاجأة .

مفاجأة لن يتهيأ لها من قبل أبداً .



كانت الليلة مقمرة ، وللحجرة نافذة يطل منها القمر ، فيضيئها ذلك الضوء القمري الشفيف . وكانت واقفة دون أن توقد المصباح اكتفاء بهذا الضوء الفضي الشفيف . كانت واقفة بجوار السرير تبدل فستانها وحينما دخل الحجرة كانت قد خلعت ولم تلبس ... ووقع نظره للمرة الأولى عليها بالملابس الداخلية ... وكانت لحظة رهيبة ! .

كانت تربيته الأولى في بيئة محافظة متطهرة ، وكان قد انصرف في حياته إلى نوع من الجد لا يسمح له بالعبث ، وكان الشعر والفن قد صانا خياله من التلوث ... وكان هذا كله يبعده عن المرأة ، ويصيبه بلون من الربكة والاضطراب حين يلقاها وجها لوجه أيا كانت طبقتها وسنها .

فلما وُوْجه بالفتاة التي يحبها ، شبه عارية ، كان ذلك مضـاعفاً لخجله وارتباكه . ولكن عينه تقع على منظر فاتن في ضوء القمر الشفيف ، ولليل المقمر وجوه ، وللوحدة المغرية جوها . إنما هو في الوقت ذاته يشعر لهذه الفتاة بلون من القداسة ، وهو كذلك غير مستعجل ولا متسرع ، فهي له ، وستصير كلها إليه .

.... كل هذه النوازع المتشابكة في لحظة واحدة جعلته يقف برهة مسمراً . ألف جاذب يجذبه إلى الإقدام ، وألف دافع يدفعه إلى الإحجام . وبوغتت هي فارتبكت كذلك ، وبدلا من أن تلبس الفستان الثاني ، انكفأت على نفسها ، وطأطأت رأسها ، وحنته على صدرها ، فكانت في وضعها الجديد أشبه بتمثال فاتن في وضعه الفني الجميل !

وأخيراً غلبه ماضيه كله فتراجع ، وهو يتمتم : لا مؤاخذة ...!



***


ومضت فترة طويلة لم تعد فيها إلى المجلس ، وقدم بعض الزائرين والزائرات من أقاربهم ، وهم كثيرا ما كانوا يحضرون هذه الليالي ، استطلاعا لحال الخطيبين ! .. فلقد كان الحسد العائلي والفضول النسوي يدفعانهم للحضور . فتضيع الليلة في تكلفات سخيفة وأحاديث تافهة ... ثم ينصرفون .


حضروا ، فساد المنزل جو غير جوه . وأحست هي أنهم قد حضروا فقدمت بعد قليل ، ولكنها قدمت باهتة منطفئة ، يغشاها شيء من الانكسار .

وعجب هو لهذه الظاهرة ، وعزاها إلى أنها خجلة مما كان ! .. وجلس متضايقاً ، فسرى الضيق منه إلى الآخرين . وبعد فترة همّ بالانصراف تخلصاً من ثقل الجو ، فبدا على الزائرين الارتياح ، لما أحسوه من ضيق لا يبشر بخير !


وأمسك به أبوها وأخوها ، وتشددت أمها في دعوته للبقاء . ونظر إليها هي فلم يجدها تدعوه ليبقى ، فلم يستجب للدعوة ! .. وعندما وضعت يدها في يده وهو ينصرف أحس ببرودة روحها وفي أناملها أيضاً .. فخرج ضيق الصدر مغموماً !


***


ومضى يوم لم يجد في نفسه نشاطا ولم يذهب للزيارة كالمعتاد . وفي اليوم التالي كان جالسا في مكتبه كالعادة ، حين رن جرس التليفون ودعى للكلام .
قالت :
= أنت اليوم تعرف صوتي ولا بد !
وتهلل وجهه ، وانتفضت كل ذرة فيه ، وأجاب :
= طبعاً ، لقد حفظته !
قالت :
= ألا تحضر حتى تستدعى بالتليفون ؟
وارتبك لحظة ثم أجاب :
= لا .. كنت متعبا في ليلة الأمس
قالت :
= متعب أو غضبان ؟ أظنك ستأتي الليلة على كل حال !
قال :
= طبعا سأحضر الليلة كعادتي !
وسلمت وسلم ، وانقطع الحديث ، وانطلقت في كيانه موجة من النشاط .



***


وفي المساء كان يقصد إلى الدار ، وليس في خياله إلا صورتها المرحة الوثابة ، وإلا صوتها الشجي الطروب . واستقبلته متهللة ، وقبل أن يجتاز الممر وراء الباب – وكانت يدها لا تزال في يده –
قالت :
= كنت الليلة خائفة ... ولكم تمنيت لو تجيء في الظلام !
وأحس أن الدنيا لا تسعه من الفرح ، فضغط يدها بحراره ، فتأودت وهي يشد يدها في يده ، وبدت فتنة جارفة لا تحتملها الأعصاب !


وانطلقت بعد قليل إلى البيانو توقع عليه اللحن المسحور ، فغمرت روحه نشوة عجيبة ، وانسربت خواطره تراود أحلاما ذهبية ، وأحس بسعادة تضيء روحه بنور وهاج ، وتحلق به في واد من التيه بعيد .


وبعد أن استعادها مرة ومرة ، على عادته كلما سمع اللحن المسحور ، أعلنت في دعابة ساحرة أنها لم تعيد العزف ، ونهضت واقفة وانفلتت من الحجرة كالحورية الهاربة . أو كالغزال الشرود . وكان معه في الحجرة أبوها وأمها وأخوها الشاب ، ورآها تذهب نحو مرافق المياه ، فتظاهر بعد برهة بأنه ذاهب إلى المرافق – وكانت له الحرية في أن يذهب ويروح حيثما يشاء – وكان يفصل المرافق عن الحجرات ممر طويل ضيق ...

وفي منتصف الممر قابها راجعة . ولا يذكر أنه رآها كما رآها هذه الليلة . كانت متوهجة يخيل إلى الرائي أنها تتوقد ، كما يخيل إليه أن كل نفسها منافذ ، تتلقى منها الأضواء والأصداء ، وتشع منها الطاقة والحرارة ! .

ونسي المنزل ومن فيه – وهم على مقربة منهما – وراح يضمها إليه في شوق عارم ، ويهوى على شفتيها في لهف حرور ، وأحس انها تتذاوب فيه ، وتتفانى بكاملها ، وأنها تستجيب له بكل ذرة فيها ، وأنها تتلاشى وتتداخل وتتهاوى .

ومضت فترة لم يكن يعي فيها شيئاً ، ولكنه لا ينساها أبداً !!! مضت هذه الفترة ، وإذا هي تثني جيدها إلى الوراء وقوامها في يديه ، فتواجهه بنظراتها الجاهرة ، وتقول في دعابة ساحرة :
= الرجل وراءنا ! والله أناديه !
ولم يكن يملك إلا أن يضمها إليه في عنف ، وهي تسكب في نفسه أحلى رحيقها المذخور بهذه النظرة وتلك الفتنة .. ثم تملصت منه ، وانفلتت تجري ... وعاد هو إلى الحجرة نشوان ولكنه تعبان ! عاد فجلس ، ولم يلحظ أحد منهم عليه شيئاً ، ولو تنبه أحدهم إلى عينيه لرآهما تقطران نشوة وسكرا .



***


وغابت عنهم فترة طويلة ، ثم عادت وقد هدأ كل هذا النشاط ، وسكنت كل هذه الفورة ، وبدت مطفأة خابية .

وصدمه هذا الانقلاب صدمة عنيفة . وخيلت له أوهامه أن هذا ندم منها على ما وهبت له ، وأنها لا تزال تعد نفسها لحبيبها الأول ... كانت كل معرفته بالمرأة من الأوراق ....!!!

ووجم ، وثقل عليه الجو ، فشاع في المجلس كله الوجوم ، وبخاصة وقد تقدم الليل ، وداعب عيونهم النعاس .

وانتهز فرصة انفرادهما بعد قليل في الممر ، فراح يفسد كل شيء قال لها :
= يبدو انك نادمة على ما أعطيت
وهزت رأسها : أن نعم .
فلم يحاول أن يفهم إلا أنها تعني ما تقول !
قال :
= تريدين أن تكوني له خالصة !
وجرح هذا كرامتها ، فلم ترد أن تتقهقر .
قالت :
= أي نعم !
وغاظه ذلك جداً . ولم يحاول أن يفهم غلطته في سوق هذا الحديث إليها الآن .
قال:
= لن أعيدها مرة أخرى .... اطمئني !
قالت في برود :
= تحسن صنعاً !
وأفلت منه قياد نفسه ، ولم يعرف كيف يدير الكلمات ، قال :
= لا يزال أمامك أن تختاري . فالفرصة بعد لم تضع !
وتظاهرت بعدم المبالات . وكانت عادتها حين تجرح كبريائها . وقالت :
= والفرصة أمامك كذلك لم تضع ، وتستطيع أن تتصرف بكامل حريتك !

وهنا فقط أحس أنه أخطأ في إدارة الحديث من أوله ، وأنه استجاب لهواجسه التي لا زالت تختلج في ضميره ، وأنه دفع بها إلى مكابرة لا مفر لها منها .
فقال :
= لندع الحديث الآن ..

وعاد إلى الحجرة يستأذن للخروج . ولم تحضر هي لتسلم عليه .. فدعتها أمها ، فحضرت متثاقلة ، ومدت إليه يدها باردة فسلم وانصرف وملء نفسه ظلام .




.