الدولة المدنية وأهل الحلّ والعقد

وأما سؤالك الثاني والرابع ومضمونهما عن مناقضة الدولة المدنية لاجتماع أهل الحل والعقد على إمام واحد وأنه لكل دولة مدنية رئيس أو ملك متفق عليه بغض النظر عن آلية الاتفاق ؟ فجوابه أني ما كنت أظنك تحسب أن القارئ غافلاً لا يعلم أن أرقى نماذج الدول المدنية تحدُّ منصب الملك ـ إن قبلت بالملكية ولم تشنق الملك بأمعاء القسيس ـ إلى صورة أشبه ما تكون بالملكية الدستورية إن لم تكن هي، وهذا الملك أشبه ما يكون ملكاً فخرياً لا قرار له ولا تأثير ، إلا في أمور محدودة ، ولو تأملت نظام الحكم في بريطانيا والسويد والدانمارك والنرويج لأدركت أن ملوك هذه الدول لا يحكمون وإنما يقتصر دورهم على اعتماد السفراء واستقبال بعض المسؤولين وافتتاح الدورات البرلمانية دون أن يكون لهم دور مؤثر في صنع أو توجيه السياسات الداخلية والخارجية .

وحينما ننظر إلى موضوع البيعة الشرعية لولي الأمر وموقف الليبراليين منها نجدها مرفوضة في الدولة المدنية عندهم لسببين : الأول : لأنها في الأصل نمط سياسي مشرَّع من الدين ، أي أن مصدره هو الدين وبالتالي فهي من خصائص الدولة الدينية لأن مفهوم البيعة مستمد من القوانين الإلهية وليست القوانين الوضعية البشرية ( التي هي خلاصة التجارب البشرية ) وبالتالي فالبيعة تتعارض عند الليبراليين مع خصائص الدولة المدنية في نشأتها وكيانها . الثاني : أن الدولة المدنية لا تقوم إلا على أساس الديمقراطية الليبرالية ، والبيعة الشرعية عندهم لا تعكس بأي وجه من الوجوه الديمقراطية الليبرالية لأسباب كثيرة نذكر منها سببين كافيين : ـ السبب الأول : أن المفهوم الديمقراطي للسلطة يقوم على أساس التداول . تقول الكاتبة نعمات كوكو محمد ، إحدى منسوبات مركز الجندر للبحوث والتدريب بالخرطوم :'' ( الدولة الديموقراطية ومؤسسات المجتمع المدني ترتبط بقيم أخلاقية مثل قبول الآخر والتداول السلمي للسلطة ( أسس الدولة المدنية ) .

وبين الكاتب شاهر أحمد نصر في ''الحوار المتمدن'' ما يقتضيه مبدأ التداول السلمي للسلطة فيقول : ''ويتطلب التداول السلمي للسلطة بالضرورة وجود معارضة سياسية وطنية ...) . ثم جاء الدكتور صفي الدين خربوش ليبين ماهية هذه المعارضة في مقال له بعنوان ''تداول السلطة في الوطن العربي بين التشريعات والتطبيقات '' نشره موقع قناة الجزيرة الفضائية الالكتروني فقال : '' ويرتبط بالتداول السلمي للسلطة أيضاً وجود تعدد حزبي حقيقي يسمح بتنافس فعلي بين عدد من الأحزاب ذات التوجهات المتباينة كي تنتقل السلطة من حزب إلى آخر أو من زعيم أحد الأحزاب إلى زعيم حزب آخر، الأمر الذي يعني أن التداول السلمي للسلطة قد لا يستقيم في ظل وجود حزب وحيد وإن كان من الممكن حدوث نوع من التداول بين زعماء الحزب أو زعماء الاتجاهات المختلفة داخله''. وختم كلامة مستنتجاً : '' ومن ثم يتضح أن التداول السلمي للسلطة يكاد يلخص سمات النظام الديمقراطي ...''. ـ السبب الثاني : أن الديمقراطية عملية تستوجب فتح باب التنافس على السلطة بحيث يحكم صاحب الأغلبية ، وأما البيعة ـ في حالة الملك ـ فلا تنافس فيها ، وهو ما يعني أنها تتناقض مع أبسط قواعد الديمقراطية الليبرالية عند الليبراليين .

ولهذا كله تجد بعض الليبراليين والعلمانيين يطرحون مشروع الملكية الدستورية كجسر يلاقي بين الممارسة الديمقراطية لتولية السلطة وبين الملكية . وهذا التلاقي يؤدي إلى تحقيق الديمقراطية الليبرالية وفي الوقت نفسه يعطي مساحة للملكية بما فيها مفهوم البيعة ، لكن العملية برمتها تنتهي بتقييد صلاحيات الملكية والحد منها على درجة كبيرة حتى إن البيعة نفسها تصبح مجرد بروتوكول رسمي مفرغ من أي محتوى سياسي فعلي ، كحالة الملكية في بريطانيا . التلاقي بين الديمقراطية الليبرالية وبين الملكية في تولية السلطة يمكَن من إجراء الانتخابات بمحاذاة البيعة فيتمخض عن الانتخابات حكومة بالأغلبية لا بتعيين الملك ، ويتمخض عن البيعة الإقرار بالملكية ذات الصلاحيات المحدودة كما هو الشأن في هولندا أو بريطانيا ، وحتى دستور البلاد نفسه يخضع لمفهوم الأغلبية .

إذن فالليبراليون بتعريفهم للدولة المدنية بأنها لا يمكن أن تقوم إلا على أساس ديمقراطية ليبرالية يعنون بذلك إلغاء مفهوم البيعة وما يترتب عليها من صلاحيات شرعية لولي الأمر ، وقد يتنازلون عن إلغاء مفهوم البيعة كإجراء يعطي للملكية صفة الوجود لكن بموازاة ذلك ينزعون جزءاً كبيراً من الصلاحيات التي تتضمنها البيعة لتنتقل تلك الصلاحيات إلى الحكومة المنتخبة ديمقراطياً فتكون الملكية وقتئذ في إطار دستوري ، تحكمه الأغلبية والأغلبية فقط مهما كانت عقيدتها وفكرها. وهذا هو الذي يهدف إليه دعاة الدولة المدنية ( الليبراليون ) ومن يدور في فلكهم وتضطره أجواء المرحلة للتستر. يقول د / خالد يونس خالد : '' الدولة المدنية الدستورية لا تكون إلا في أجواء ديمقراطية ليبرالية والحرية العلمانية ...

إذن السبيل إلى الدولة المدنية هي الديمقراطية الليبرالية ''. كما جاء في ورقة قدمها الكاتب إلى مؤتمر الدولة المدنية ضمن سلسلة مؤتمرات دعم الديمقراطية في العراق التي عقدت في لندن خلال الفترة من 24 ـ إلى 31 يوليو / تموز 2005 م . ومن المهم مراعاة حساسية السياق السياسي لتوظيف المصطلحات الغربية ذات الدلالات السياسية لأنها جزء لا يتجزأ من الأدوات النظرية الضرورية لتقييم توظيف تلك المصطلحات في المرحلة الراهنة ... فصيحة الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة تعالت بقوة بعد أحداث 11 سبتمبر وتم تركيز هذه الصيحة على المملكة العربية السعودية ، ومن يومها ابتدأت نبرة الطرح العلماني تطل برأسها في الساحة الثقافية والإعلامية ...

وإذا كان لمصطلح الدولة المدنية الذي اطل علينا حديثاً معنى يتضمن لدى العلمانيين في العالم قضية فصل الدين عن الدولة فإن من حق أي غيور على ثوابت الأمة أن يطالب بتحريره وإن طالب بإلغائه أصلاً إذ انه ليس من الحاجات ولا الضروريات فلا ضير ، فإن لنا في مصطلح الدولة الإسلامية غنية ، لأن الإسلام دين وحضارة . فالدولة المدنية مولود طبيعي للعلمانية وإن ساغت في مجتمع استبدت به الثيوقراطية الكهنوتية التي تكبت العقل وتحارب العلم ، فلا وجه ولا مكان ولا قبول لتمريرها في مجتمعات إسلامية دينها أول محرر للعقل وحض على العلم ، فأول آية نزلت كانت (إقرأ) وأول من نادى بحقوق الإنسان .

ومما جاء في بيان المفكرين السعوديين وعددهم 153 مفكراً وعالماً : '' ركز موقعوا الورقة الأمريكية على ضرورة فصل الدين عن الدولة ، ورأوا في ذلك قيمة عالمية ينبغي على جميع شعوب الأرض قبولها ( لاحظ أن هذا هو طرح دعاة الدولة المدنية من العلمانيين والليبراليين في العالم ) ونحن المسلمين ننظر إلى إشكالية العلاقة بين الدين والدولة نظرة أخرى تختلف عن هذا التصور، وتصورنا يحمي إرادة الأكثرية،ويحفظ حقوقها ويحمي كذلك حقوق الأقلية . عن الدين الإسلامي دين شامل له أحكام تفصيلية في كافة مناحي الحياة ، ويصعب أن تتكون دولة جادة ومحترمة لشعبها في البيئة الإسلامية دون أن تتبنى أحكام هذا الدين العامة .

إ ن الإسلام ليس عدواً للحضارة ، لكنه يرفض الاستخدام السلبي لها ، والإسلام ليس عدواً لحقوق الإنسان أو الحريات ، ولكن الإسلام يرفض تحويل الحرية والحقوق إلى أداة للصراع ، كما يرفض اعتماد رؤية ثقافية محددة على أنها القانون العالمي الذي يجب تعميمه بالإكراه ''. والأهم من ذلك أن البيعة عقد الحكم مع الحاكم ، عقد بين الرعية ـ ويمثلهم أهل الحل والعقد ـ والحاكم ـ وهو الإمام أو الملك أو الرئيس ـ ، وفي شريعة الإسلام تكون البيعة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين هما شرط السمع والنصرة والطاعة ، فما ظنك بحاكم أو ملك يبايعه أهل الحل والعقد على أن يحكم فيهم بالكتاب والسنة ثم يسند الأمور إلى مؤسسات المجتمع المدني لتكون مستقلة في التشريع بمنأى من كتاب الله وسنة نبيه أو بمزاحمة قوانين تُجعل في مرتبة الكتاب والسنة مكتفياً بملكية دستورية، فإذا أدركت هذا عرفت جواب سؤالك الثاني .

وهل تريد يا أخي قينان أن تهمش قيادتنا وتصبح بلا نفوذ لصالح مؤسسات المجتمع المدني الخديجة حالياً والتي يحرك كثيرا منها إملاءات دول خارجية تكفل لها الدعم والتمويل مقابل تنفيذ ما تريده منها هذه الدول ؟. لا أظن هذا ، وحاشاك.وربما خفي عليك سبب ذلك ولا مانع من أن أبينه لك : السبب هو أن عصر العولمة أدى إلى بروز مؤسسات اجتماعية عالمية وعابرة للقارات ، وباتت هذه المؤسسات الاجتماعية قوة مسيطرة تستخدم كل أدوات القوة من مال وتكنولوجيا وموارد. وهذا ما أكده نيكانور بيرلاس Perlas Nicanor - رئيس مركز التنمية البديلة - في مقال نشره في المجلة الألمانية INFO3'' '' بعنوان ''المجتمع المدني القوة الكوكبية الثالثة'' فقال : ( العالم - توجهه الآن ثلاث قوى هي : المصالح الاقتصادية الكبرى و الحكومات القوية و المجتمع المدني الكوكبي ) .

هذه القوة الكوكبية الثالثة ـ أخي قينان ـ تمكنت من فرض سيطرتها ومفهومها وأجندتها على حساب المصالح المحلية والإقليمية للدول بواسطة مؤسسات المجتمع المدني التابعة لها داخل تلك الدول، الأمر الذي أدى إلى إضعاف سيادة هذه الدول بفعل السيطرة والهيمنة لبعض القوى الدولية على مؤسسات المجتمع المدني التي تدعمها . وهذا ما كشفه الباحث المتخصص بقضايا التمويل الأجنبي والتطبيع الأستاذ '' عبد الله حمودة '' ، في ندوة عن'' مخاطـر الـتمـويل الأجنبي لمـراكز الـدراسات ومؤسـسات المـجتــمع الأهــلية '' مبيناً مخاطر التمويل الأجنبي الذي تغدقه مؤسسات أجنبية مرتبطة بمؤسسات غربية أمنية واستخباراتية على بعض ما يُسمى (بمؤسسات المجتمع المدني)، لتنفيذ مشاريع معينة تبدو محايدةً في ظاهرها، لكنها تخدم أجندات معادية