الاختلاف سنة ماضية ، يقول الله عزّ وجل : ( ولا يزالون مختلفين ) .
وما من شك في أن الاختلاف وارد ، وعدم الاتفاق على رأي واحد أيضاً أمر غير مستغرب ، لكن ما لا نريد وروده ، وما لا نحبّذ حصوله ، هو ذلك التراشق بالألفاظ ، وذلك التسابق نحو كيل الاتهامات بين الإخوان المتخالفين ..
يقول الله تعالى : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) والنبي صلى الله عليه وسلم حذّر من الاختلاف فقال : ( لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ) ..
هل الاختلاف يجر إلى الانتقاص !؟
هل العالِم الراسخ - مثلاً - إن ردَّ على أحد .. ينتقصه ,ويتهم نواياه ؟ بل لنذهب بعيداً إلى حيث القرون الأولى لنقرأ أدب الخلاف.
ثم لماذا أصبحت الصدور لا تتسع للخلاف في مسائل اجتهادية ؟ وكأننا لا نقرأ تاريخ الاختلاف عند المسلمين ؟
لقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في بعض الأمور وبعضها كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ..
أما اختلف الصحابة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وفي دفنه ، وفي خلافته ، وحول قتال مانعي الزكاة ، وفي بعض المسائل الفقهية ؟
لكن لا بد أن نعلم أنهم كانوا باحثين عن الحق ، محاولين النأي عن الاختلاف ماوجدوا لذلك سبيلاً ، ومتّبعين للحق إن توضّح لهم ، وقائم الحب والأخوة وحفظ الحقوق بينهم .
ولقد أتى علماء كبار من السلف بأقوال هي بمقاييسنا غير صحيحة البتة لمخالفتها الصريحة للنص فهل كان ذلك مبرراً للنيل منهم أو اللمز والانتقاص .
والسؤال الأهم :
لماذا إذا خالفنا أحدٌ في الرأي نعتقد أن هذا المخالف تبين له ما رأيناه لكنه كتم ذلك وأراد تضليل المسلمين بقولٍ آخر أطلقه ؟
ولأهمية هذه النقطة سأصوغها بأسلوبٍ آخر :
هل هذا الذي أتى برأي آخر غير رأينا عندما بحث المسألة هل تبين له صحة رأينا لكنه اتبع هواه وقال برأي آخر يخالف الحق ؟
أم أنه اجتهد وتبين له ما تبين وله الأجر على اجتهاده والأجر مضاعف إن أصاب ؟ وهذا على الأقل من إحسان الظن بالمسلم .
وإن عرّجنا حول نظرة الشباب الملتزم خاصة والناس عامة للاختلاف في مسائل الشرع الاجتهادية من قبل العلماء نجد فئةً غير قليلة منهم تسقط في التوجيه الاختلاف أو على الأقل الوقوف عنده ..
وإنه مما ينبغي علينا إحسان الظن خصوصاً بالعلماء ، والتثبت من قول المخالف ، وتحديد محل النزاع ، فقديكون الصواب نسبياً وكذلك الخطأ ويكون في بعض الكلام صواب وفي بعضه خطأ فيؤخذ الحق منه .
وينبغي السعي وراء الحق وقبوله ،ولابد من البعد عن اتهام النيّات ، ، والبعد عن الجدال والمراء ، وقد يكون هناك عذر للمخالف فنتلمسه له ولا نشنّعه أو نتهمه .
فإلى متى ونحن متطرفون في آرائنا تاركين منهج الوسط ؟ وإلى متى ونحن نطلق أحكاماً عامةً على كل قضيةٍ تنشأ ؟ وإلى متى ونحن لا ننظر بعين الإنصاف للعديد من المسائل ؟ وإلى متى ونحن نتهم كل من يختلف في الرأي باتهاماتٍ متنوعة ؟ وإلى متى ونحن أسرى التأثير والتأثّر فتتبدّل قناعاتنا تبعاً لأهوائنا وكأننا لا نعلم أن هناك حساباً أو موازين ؟
إنَّ المسلم الحق من يتبع الحق بغض النظر عمّن خالفه الرأي وإن كان من أحب الناس إليه لأنه كما قلت يرجو الله والدار الآخرة .
إن العلم وحده لا يكفي فلقد ضلَّ الذين أوتو الكتاب من بعد ماجاءهم العلم لأنهم أخفقوا في التوظيف لما عندهم من علم وحكمة ..
علينا أن نعلم أن الخلاف أقسام : هناك خلاف هوى ، وخلاف طلب للحق ، وقد يكون هناك خلاف الناس فيه على قسمين بين مؤيد ومعارض فهو بحسب ما يترتب عليه ، ومن الطوام خلاف الجاهل للعالم .
وهناك ما أسميه الاستبداد الفكري حيث يحاول البعض فرض رأيه وقسر الحق على نفسه بل وتسفيه آراء الآخرين .
لا شك أن الاختلاف أمرٌ فطري نظراً للفروق الفردية بين الناس ولأسبابٍ أخر ، فإن كان الاختلاف لحاجةٍ في النفس وهوى فهو شر وهذا من أسبابه العجب بالرأي مما يؤدي إلى مصادرة رأي الآخرين ، وبناء المجد الشخصي وتحصيل الكسب الفردي على حساب إسقاط الآخرين واتهامهم ..
وإن كان اختلاف تنوع لا تضاد هدفه الوصول للحق فهذا من أسبابه - إن أخذنا العلماء السابقين كنموذج - : إما اختلاف في رتبة الاحتجاج ، أو فهم النصوص ، أو فهم علّة الحكم ، أو الجهل بالدليل ، أوعدم الوثوق بصحته ، أو الاختلاف في دلالات الألفاظ ، فهذا اختلافٌ لا غرابة فيه وإن كان الهدف منه الوصول للحق فهو يؤدي إلى التبصّر والفهم والوصول للرأي السديد .
وإن بعض أوجه الاختلاف التي نراها ظاهرها الشر فهي تسبب التآكل الداخلي وهي وسيلة للانتقام وقذف الاتهامات ، فلا بدّ من إعادة فهم السلوك المنضبط لأننا نعيش فيما أسميه أزمة أخلاق وهذه سأفرد لها موضوعاً مستقلاً بإذن الله .
إن من آثار الاختلاف المذموم مصادرة آراء الآخرين لأننا نقتل الكفاءات , وزرع الشحناء ، ونحصر الأفكار في فكر واحد ، فما كل الاختلافات اختلافات تضاد ، فعلينا أن ننزل كل قول المنزل الذي هو له .
و أخيراً احترام الآخر وعدم سوء الظن به أو السخرية أو الغيبة أوتصيد الأخطاء مما علينا أن نراعيه عند اختلاف التنوع ، وأن نلتزم الموضوعية ، ولا نتهم الآخرين في أشخاصهم بسبب أقوالهم الاجتهادية المحتملة ، وأن يكون الجدال بالتي هي أحسن .
مواقع النشر (المفضلة)