[align=justify]الهوة السحيقة بين التنظير والتطبيق *

" إذا كان لديك ست ساعات لقطع شجرة فمن الأفضل أن تنفق خمس ساعات في شحذ منشارك، لتتمكن من قطع الشجرة في الساعة الأخيرة، بدلا من أن تنفق ست ساعات في قطع الشجرة بمنشار غير جاهز، فلا تنتهي ".

تذكرت وأنا أقرأ هذا المثل الصيني القديم الأمثالَ العربية المستلقية في مقبرة التراث .. منتظرة نفخة البعث.. لإعادة صياغتها أو على الأقل تطبيقها في الواقع كما هي .. أظنكم توافقونني أن التراث العربي متخم بالأمثال والحكم التي لا يستطيع قراءتها مجردة عن الشرح 90% من المتعلمين فضلاً عن غيرهم .. فضلا عن تطبيقها على أرض الواقع

إذا كنت سأمارس ـ حسب الموضة ـ جلد الذات العربية بخيزران التشاؤم سأقترح ترشيح الأمة العربية كأفضل عارضة أزياء لفساتين التنظير المطرزة بالحكم والنصائح والأمثال؟ أما إذا كنت متفائلا فسأستعير لسان الشيخ محمد الدويش لأقول : (الفكرة قد يقدمها من لا يستطيع تطبيقها فيأخذها من هو أقدر منه على ذلك، وقد يأخذها من يطورها ويرتقي بها، وقد لا تكون ملائمة للمرحلة فتتغير الأحوال ليستفيد بها من بعده).

وهذا كلام جميل وليس أدل على ذلك من أن نظرية النسبية لأينشتين ـ التي ظهرت في عام 1916م وظلت كامنة في الكتب ـ هي التي مكنت الحلفاء من الانتصار في الحرب العالمية الثانية بإنتاج القنبلة الذرية عام 1945م . ومكنتهم ـ بقيادة أمريكا ـ بعد ذلك من تحويل الدول العربية إلى كرة تعشق الأقدام وتهوى الركل.

باختصار .. عندما تنتقل الأفكار .. من النظرية .. إلى التطبيق .. سيصبح لها تأثير القنبلة الذرية !!

ما رأيكم أن نخرج رؤوسنا من الرمال .. فالخطأ ليس عيباً .. العيبُ ألا نتكلم في أخطائنا .. أن لا نتعلم منها .. دعونا نحتسي كوباً من الصراحة المرّة.. بدون سكر مجاملات .. وبمعزل عن أسلوب الشامتين والمتشائمين .. دعونا نتكلم عن أخطائنا بصراحة يحركها تفاؤلية تقود إلى التصحيح ..

يقول احد رجال الإدارة : ( الفاشلون قسمان، قسم يخطط دون أن ينفذ، وقسم ينفذ دون أن يخطط )، قلت : الأول العلم دون عمل، والثاني العمل بدون علم، والأمة العربية لها قصب السبق في القسم الأول ـ ولا فخر ـ فأسهل شيء هذه الأيام أن تكون منظّرا .. في الأخلاق .. في النجاح .. في إدارة الوقت .. في سوق الأسهم .. في سوق الطماطم .. وأما تطبيق هذه النظريات على أرض الواقع وجني الثمار والأرباح فـ ( حديث خرافة يا أم عمرو ) !!

قصة واقعية :

اتصل بي أحد الشباب يسأل عن حكم قتل الحشرات بالأسيد وتشريحها لأن أخته تدرِّس مادة الأحياء .. تذكرت الشافعي عندما سئل عن حكم قتل الذباب للمحرم .. ولمّا يجف دم السبط ابن الزهراء بعد .. فتخيلت نفسي الشافعي يتربع باسقاً في مجلسه فقلت لصاحبي : " الأمة الإسلامية تذبح من الوريد إلى الوريد وتباد بالأسلحة الكيماوية وتشرّح الجثث لتحليل الأحماض النووية للأبطال الشهداء، وأنت تسأل عن تشريح الحشرات لتدريس مادة الأحياء " ..

طبعا اتصلت بالشيخ العلامة الأستاذ الدكتور (س) من الناس، لمعرفة حكم انتهاك معاهدة جنيف وإنشاء المعتقلات السرّية في الداخل والخارج لهذه الحشرات المسكينة وإعدامها جميعاً .. دون محاكمة .. وبمادة الأسيد المحرمة دولياً ، ثم صلبها بكل صفاقة في حصة الأحياء التي ينعس فيها ثلاثة أرباع الطلاب والربع الباقي مركّز ( من زود الشفاوة) ثم تشريحها دون رأفة أو رحمة ..

فسألت شيخنا .. فأجاب بجواز ذلك بغرض التعلم .. وعندما تجاذبت أنا وهذا الزميل أطراف الحديث .. قال وهل يشمل هذا الحشرات التي نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتلها .. فكان لا بد أن نعيد الاتصال على الشيخ مرة أخرى .. فما راعنا إلا وصليل السيوف الهندية المشرعة تكاد تخترق دروع الجوال الذي أتحدث فيه .. (أنت ما فهمت كلامي ؟! يعني مو عاجبك جوابي أول مرّة !! افهم كلامي زين لا تروح تنقله خطأ ) ..

أنا بصراحة خفت لا أكون أشركت بالله وأنا ما أدري .. أو تكلمت في السياسة .. أو أن سؤالي كان شبيها بأغاليط صبيغ بن عسل التميمي الذي فتّت َ الفاروق بن الخطاب الدرّة على نافوخه يوماً ما .. أو بهرطقات وسفسطات أهل التصوف والجدل .. جلست (أمردغ) سؤالي على بطنه تارة و(أجعفه) على ظهره تارة أخرى.. لأعرف مالذي استدر غضب هذا الشيخ الذي (كنت) احترمه كثيراً ..

تساءلت أين نظريات الأخلاق والحلم وأدب المفتي والمستفتي التي كنّا ندرسها على يدي هذا الشيخ وأمثاله صباح مساء ؟؟ نفسي بس أعرف ليش ( رازّ ) رقم جواله في كل نشرة تضم أسماء العلماء والدعاة والمفتين .. إذا كان لا يطيق الأسئلة العادية التي ترد من الناس؟؟ أين هم من وقوف النبي صلى الله عليه وسلم مع الجارية في حرارة الشمس ؟؟ وإذا تحدثنا عن أخلاق بعض القضاة .. وكتاب العدل .. ورجال الأمر بالمعروف .. فضلا عن غيرهم لعرفنا عمق الأزمة التي تمر بها الأمة الإسلامية ..

إنه التنظير والتشدق والمعرفة العارية عن العمل والتطبيق !!


* بقلم التجوال الدولي[/align]