الفصام النكد :ليس من طبيعة الدين أن ينفصل عن الدنيا وليس من طبيعة المنهج الإلهي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية و الشعائر التعبدية و الأخلاقيات التهذيبية ، أو في ركن ضيق من أركان الحياة البشرية .. ركن ما يسمونه ( الأحوال الشخصية ) .
ليس من طبيعة الدين أن يفرد لله سبحانه قطاعا ضيقا في ركن ضئيل – أو سلبي – في الحياة البشرية ، ثم يسلم سائر قطاعات الحياة الإيجابية العملية الواقعية لآلهة أخرى وأرباب متفرقون ، يضعون القواعد و المذاهب والأنظمة و الأوضاع و القوانين والتشكيلات على أهوائهم دون رجوع إلى الله ! .
ليس من طبيعة الدين أن يشرع طريقا للآخرة لا يمر بالحياة الدنيا ! ، طريقا ينتظر الناس في نهايته فردوس الآخرة عن غير طريق العمل في الأرض ، وعمارتها والخلافة فيها عن الله وفق منهجه الذي ارتضاه ! . ليس من طبيعة الدين أن يكون هذا المسخ المشوه الهزيل ! ، ولا هذه الألعوبة المزوقة التي يلهو بها الأطفال ! ولا هذه المراسم التقليدية التي لا علاقة لها بنظم الحياة العملية ! .
ليس من طبيعة الدين – أي دين فضلا عن أن يكون دين الله – أن يكون هذا العبث الممسوخ .. فمن أين إذا جاءته هذه السلبية الهازلة ؟ وكيف إذا وقع ذلك الفصام النكد بين الدين و الحياة ؟
لقد تم ذلك الفصام النكد في ظروف نكده ! كانت له آثاره المدمرة في أوروبا .. ثم في الأرض كلها ، حين طغت التصورات الغربية و الأنظمة الغربية و الأوضاع الغربية على البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها .. ولم يكن بد – وقد انفصمت حياة المخلوقات عن منهج الخالق – أن تسير في هذا الطريق البائس و أن تنتهي إلى هذه النهاية التعيسة ، وان تحيط بالبشر الدائرة التي يتعذبون الآن في داخلها ، ويذوق بعضهم بأس بعض ، بينما هم عاجزون عن معرفة طريق الخلاص فيها ! .
المستقبل .. لهذا الدين :إلا أن الحرب المشبوبة على الإسلام لا تفقدنا الثقة المطلقة في أن المستقبل سيكون لهذا الدين .
لقد صمد الإسلام في حياته المديدة لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية التي توجه اليوم إلى طلائع البعث الإسلامي في كل مكان ، وكافح – وهو مجرد من كل قوة غير قوته الذاتية – وانتصر وبقى .. و أبقى على شخصية الجماعات والأوطان التي يحميها السلاح ، إن الإسلام هو الذي حمى الوطن الإسلامي في الشرق من هجمات التتار كما حماه من هجمات الصليبيين على السواء ، ولو انتصر الصليبيون في الشرق كما انتصروا في الأندلس قديما ، أو كما انتصر الصهيونيين في فلسطين حديثا ، ما بقيت قومية عربية ، ولا جنس عربي ، ولا وطن عربي .. و الأندلس قديما و فلسطين حديثا كلاهما شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض فإنه لا تبقى فيه لغة ولا قومية بعد اقتلاع الجذر الأصيل ! .
المماليك الذين حموا هذه البقعة من التتار ، لم يكونوا من جنس العرب ، إنما كانوا من جنس التتار ! ، ولكنهم صمدوا في وجه عدوان بني جنسهم من المهاجمين حمية للإسلام لأنهم كانوا مسلمين ! .. صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية ، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم ( ابن تيمية ) الذي قاد التعبئة الروحية وقاتل في مقدمة الصفوف ! .
ولقد حمى صلاح الدين هذه البقعة من اندثار العروبة منها والعرب واللغة العربية ، وهو كردي لا عربي ولكنه حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارات الصليبيين ، وكان الإسلام في ضميره هو من حارب الصليبيين كما كان الإسلام في ضمير الظاهر بيبرس و المظفر قطز و الملك الناصر .. هو الذي كافح التتار .
لقد كافح الإسلام وهو أعزل لأن عنصر القوة كامن في طبيعته ، كامن في بساطته ووضوحه وشموله ، وملائم للفطرة البشرية ، وتلبية لحاجاتها الحقيقية .. كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد ، ومن أجل هذا يطلقون عليه حملات القمع والإبادة كما يطلقون عليه حملات التشويه و الخداع و التضليل !
ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيما أخرى ، تصورات أخرى ، لا تمت لهذا المناضل العنيد ، لتستريح الصهيونية العالمية و الصليبية العالمية ، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد ، إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلاب الوطن الإسلامي ، هذا هو دافعها الأصيل ..
من كتابه ( المستقبل لهذا الدين )
مواقع النشر (المفضلة)