تحيات طيبات أيضا وأيضا

وأكتب الآن من مقهى للأنترنت قرب محطة باندكتن في لندن،
وقبل نحو ساعتين أخبرتُ من انني سأقضي رمضان في أبو ظبي، وهذا ما جعلني استبشر خيرا

أكمل ماكنت قد بدأته في الأمس

في حديثي عن العزّى وعشتار واقترانهما ببعض تطرّقت إلى الحديث عن النخلة وعبادتها وتمثّل عشتار فيها أو كونها مرتبطة في سقيها سواء في طور ذكورتها عند المعينيين أو في أطوار أنوثتها. فنعرف أن كتب الإخبارين دفعت إلينا أخبارا عن عبادة أهل نجران لنخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد كل سنة، فأن حلّ يقومون من فورهم بتعليق كل حسن من ثيابهم وحليّ نسائهم ثمّ يعكفون عليها يومًا.
وتذكر كتب السير إن عبادة الأشجار كان مستمرة أو على الأقل كان هناك استعداد حتى منتصف العصر الراشدي بتبنّي فكرة عبادتها. إذ ورد في سيرة ابن هشام عن الحارث بن مالك أنه قال، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية قال: فسرنا معه إلى حنين قال: وكانت كفار قريش ومن سواهم من العرب لهم شجرة عظيمة خضراء يقال لها "ذات أنواط" يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوماً قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة خضراء عظيمة قال: فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى: "أجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم".
وهناك رواية أخرى تعزّز هذا الرأي ترد فيما ذكره الحموي في معجمه عن الحديبية وشجرتها إذ ذكر إنها قرية متوسطة سمّيت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها والتي وردت في النصّ القرآني الكريم ( لقد رضيّ الله عن المؤمنين إذ بايعوك تحت الشجرة) ، وقد أمر الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطعها بعد أن تناهى إلى سمعه إن الناس تزورها من أجل أن تتبرّك بها ، فخشي أن تُعبد. ولقد ذُكر في تفسير الجليلين (سورة الفتح ، الآية 18) إنها كانت سمرة.

أما "ذات أنواط" فأجد أن عبادتها لا تختلف كثيرا عن طقوس عبادة نخلة نجران، وهي سمرات من الطلح الشائك لا يظلّ ولا يثمر ولا ترعاه الإبل إلاّ إذا عضّها الجوع لأنها تسقم منه، ولقد استمرت عبادتها إلى ما بعد الإسلام كما ورد في رسالة الغفران للمعرّي ما يدلّل على ذلك .
ولقد كان العرب يعظّمونها في الجاهلية كما رأينا في خبر غزوة حنين. وذكرها المعرّي مقرنا إيّاها بأثر الحظّ على الحياة:

والجد يدرك أقواما فيرفعهم
وقد يُنال إلى أن يُعبد الحجرا

وشرفتْ ذات أنواط قبائلها
ولم تباين على علاّتها الشجرا

وذكر ابن الأثير أن العرب أطلقت عليها التسمية هذه لأنهم كانوا ينوطون بها أسلحتهم ويعكفون حولها. وذكر ياقوت إنها كانت قريبة من مكة ولقد كانت العرب تفد إليها مرة كل عام ويذبحون عندها ويعتكفون يوما.
وكذلك فأننا أصبحنا نعرف الآن أن (ذو الخلصة) كان صنم تعبدته العرب من خثعم وبجيلة وباهلة وبطون أخرى من العرب ويقع بين مكة واليمن. بينما يرى ابن الأَثير إن في هذا الأمر نظر لأَن ذو لا تُضاف إِلاَّ إِلى أَسماء الأَجناس ، ولقد تبلل الرواة والإخباريون في وصف هيئته فلقد أورد ابن الكلبي أنه مروة بيضاء منقوش عليها كهيئة التاج، وهي الرواية التي انفرد بها ابن الكلبي ولقد جعلته بعض الروايات كعبة اليمن. بينما يدفع الفيروز آبادي التسمية إلى أفق آخر في قوله: أو لأِنَّهُ كان مَنْبِتَ الخَلَصةِ. وهو نبات معروف.
وفي الحقيقة فإن ذا الخلصة كان مشتملا على نصبين أحدهما المروة البيضاء المنقوشة، وثانيهما شجرة الخلصة وهو ضرب من النبت الطيب الرائحة يتعلّق بالشجر ، أوراقه رقاق مدوّرة واسعة له ورد ، ويُطلق عليه العبلاء أيضا.
وذو الخلصة ليس سوى شاهد على تطوّر عبادة النبات وتقديسه.ولقد ورد ذكره في أخبار امرئ القيس لما قتلت بنو أسد أباه حُجراً وخرج يستنجد بمن يعينه على الأخذ بثأره حتى أتى حمير فالتجأ إلى قَيل منهم يقال له مَرثد الخير بن ذي جَدَن الحميري فاستَمده على بني أسد أمتَه بخمسمائة رجل من حمير مع رجل يقال له: قرمل ومعه شُذاذ من العرب واستأجر من قبائل اليمن رجالاً فسار بهم يطلب بني أسد ومَر بتبالة وبها صنم للعرب تعظمه يقال له ذو الخلصة فاستقسم عنده بقداحة وهي ثلاثة الآمر والناهي والمتربص فأجالها فخرج الناهي فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم، لو قتل أبوك ما نهيتني، فقال عند ذلك:

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا
مثــلي وكان شيخــك المقـبورا
لــن تنــه عن قتـل العداة زورا