هذه القصة -المتسلسلة بحلقات - , إهداء لكل شخص,
مشى على تراب رفحاء الحبيبة , وتنفس هواءها , و عاش تحت سماءها ,
مع الشكر الجزيل لكاتب القصة د/ إبداع ابن بديع الزمان..
......................
حكاية من عبق الماضي "الرفحاوي"
-الحلقة الأولى-
في لحظة من لحظات الصمت الهادئ والسكون العميق, أمسكتُ بألبوم الصور المحفوظ داخل درج المكتب-بمفتاح- والذي اعتبره من أثمن ما أملك ,
لأطيع روحي العطشى إلى ما يروي ظمأها من سلسبيل الحياة الذي جَعَلَ عجلة الذكريات في ذهني تدور إلى الوراء بسرعة لا توصف ,لتصل بي
إلى ذلك الزمان (الثمانيني الهجري) في تلك المدينة الصغيرة الواقعة على حدود المملكة مع العراق,
عندما كان اسم (رفحاء) يقترن بمعاني عدة, مازال صداها يتردد في أفئدة أناس عاشوا ومازالوا يعيشون فيها ,
ليوقظ بداخله الحنين إلى تلك الحقبة المميزة من تاريخ مدينتهم الصغيرة,
كانت عيني تنتقل بسرعة من صورة لأخرى , وكأنها تبحث عن شيء ما , عن صورة تحمل عمقاً أكبر بكثير مما تحمله باقي الصور,
وهنا بين الصور, وجَدَتْ عيني ضالتها, فطرب الفؤاد فرحاً, وابتسمت النفسُ سروراً,
هاهي صورته تقبع هنا في هذا المكان والتي- مازالت- تجعلني أُخفق في إخفاء ضحكتي المنطلقة من الأعماق في كل مرة أفتح ألبوم الصور لأطُرب الفؤاد بذكريات
الماضي الجميل التي كان فيها (مساعد) صاحب هذه الصورة ,
بطلاً لكل فصل من فصول حياتنا الزاخرة بالإثارة التي كانت تصنعها لنا روح (مساعد) في قوالب السذاجة الممزوجة بالفكاهة أحياناً,
وبالحزن والألم أحايين أخرى .
ما أسرع الأيام تمضي حتى تنطوي السنة بعد الأخرى, وكأنني ما بعدتُ عن ذلك الزمن طويلاً,
ليس هناك ما أحن إليه بلهفة شديدة أكثر من لهفتي الآن لرؤية ( مساعد) بعد هذا الزمن الطويل,
ما هو حاله وكيف أصبح؟ بعد أن طبع على أرض رفحاء ذكرى حكايته الثرية بعمقها, الفريدة من نوعها.
كم شدتني صورتك يا( مساعد) , وكم سحبتني معها وتغلغلت بي ,حتى استلّتْ المزيد والمزيد من زمان الطفولة والصبا ,
حتى بتُ أعيش لحظاتها بأدق تفاصيلها ,
فما أجمل خيوط الشمس تتلألأ في الأفق في صباحٍ مشرق, فتلامس أسطح بيوتنا القليلة المنثورة في مدينتنا الهادئة.
كانت بيوتاً طينية تقطعها شوارع مرصوفة وغير مسفلتة, بيوتاً متجاورة متناسقة ,وكأنها قد خُططت هندسياً بالمسطرة,
قريبة من بعضها البعض تماماً مثل قلوب ساكنيها, الذين اشتهروا وبلا أدنى شك, بكل الصفات الأصيلة ,
بأنفس محبة للخير, وأرواح بسيطة جميلة خالية من التعقيدات المزعجة التي انتشرت بقوة الآن في عصرنا الحاضر,
تحت تأثير من تصريفات الحياة المتطورة,
التي فرضت على بعض العقول أن تنسلخ انسلاخاً من جمال ماضيها العريق, إلى مرض (التمدن) القاتل.
كان في وسط المدينة جامع واحد كبير (جامع المطوع) في وسط البلد, وسوق شعبي نسميه (سوق العراقيين) نسبة إلى الباعة أصحاب البضائع,
وفي شمال المنطقة, خلف البيوت الطينية, تناثرت بيوت الشَعَر, وسط الصحراء الشمالية على الحدود.
لم تكن بيوتنا الطينية هي البيوت الوحيدة فإلى الغرب منها, كانت بيوت شركة (التابلاين) داخل السور المخصص للشركة,
حيث أنه لا يمكننا العبور إليها إلا عن طريق (الدِروازة),
وهناك يتغير المكان, وكأننا قد أصبحنا في منطقة أخرى,
كانت ستة بيوت مصففة, ثلاثة في جهة وثلاثة في الجهة المقابلة, بينهم شارع مسفلت, وقد كان الشارع الوحيد المسفلت ,
وشوارع قد خُططت بين هذه البيوت ذات الطابع الأمريكي المعروف,
كانت بيوتاً لكلٍ من رئيس المحطة ونائبه وممثل العلاقات للشركة ومدير المستشفى وبيتين للضيافة,
وهناك , إلى الجهة الجنوبية الشرقية من هذه البيوت كانت محطة (مكائن) ضخ البترول التي اعتدنا الاستيقاظ في الصباح الباكر على صوتها المدوي
وصوت "الصْيْت" المزعج.
وعلى بعد أمتارٍ من المكائن إلى الشمال قليلاً,كان النادي, ملعب (الغولف) , المطعم, السينما و مستشفى التابلاين الذي كان سكان رفحاء
يطلقون عليه اسم (الهوسبيتال) كما يُنطق تماماً باللغة الإنجليزية.
لم يكن في نفوسنا شغف لمعرفة العالم خارج مدينتنا الصغيرة, لأننا كنا نشعر بأن العالم بأكمله اجتمع ليتمثل بهوية (التابلاين),
والأكثر من ذلك أننا كنا نعيش بطريقة مختلفة تماماً عما نحن عليه الآن وكأننا لم نكن نحن ذلكم الأشخاص.
كنا نرى في آبائنا مثابرة ونشاط وجدية , ما حظينا بمثلها الآن, كان النظام أساساً لكل شيء في العمل وخارج العمل,
هكذا عشنا حياتنا التي كنا نصفها بالبساطة, والتي فهمنا بعد أن وصلنا إلى عميق ذكرياتها, أنها أدارتنا معها في تياراتٍ من أحداثٍ كانت غاية في الصعوبة والتعقيد.
بقيتُ حوالي النصف ساعة أسبح في أفق الماضي, حتى تنبهتُ لصوت خطوات سريعة تمشي من ورائي, كانت خطوات ابني ذو الأربعة عشر عاماً, يقترب ليشاهد
معي الصور,وبسرعة وبدون انتظار سألني:
-أين صورة(مساعد) يا أبي؟
- وهل تعرف (مساعد)؟
- سمعتك مرة تقول لي أنك تبحثُ عن صورة (مساعد) حتى تُريني صورة الشخص (المقرود في زمانه) , لكنك استلمت اتصال هاتفي , فانشغلتَ قليلاً.
والآن أنا متحمس لأن أرى صورته وأعرف قصته..
-إذن اسمع القصة..
-يتبع-
....................
ملحوظة:
"الحقوق الأدبية لهذه القصة محفوظة مسبقاً,
لكنها تُعرض حالياً في منتديات رفحاء حصرياً"
-بإنتظار ردودكم التي سنستفيد منها حتماً بإذن الله وبانتظار تفاعلكم مع القصة-
أخوكم / بديع الزمان
مواقع النشر (المفضلة)