....وفي عام 1953 م قام إقليم آتشيه بحركة مقاومة وثورة ضد النظام الشيوعي الحاكم في جاكرتا إلا أنها قمعت بعنف ، ولم تكن هذه الثورة قاصرة على آتشيه فقط بل شملت جزيرة سومطرة التي تعتبر معقل للإسلاميين .حيث تشهد آتشيه منذ السبعينات – وبالتحديد منذ عام 1976 م - نزاعا بين السلطة المركزية في جاكرتا وحركة تحرير آتشيه وهي حركة مسلحة مازال لها وجود قوي في المنطقة تسعى إلى استقلال الإقليم بقيادة حسن تيرو الذي يقيم في السويد منذ 1979 .وتتهم حركة تحرير آتشيه الحكومة بنهب الثروات الطبيعية في الإقليم وخصوصا النفط والغاز وبشن سياسة احتلال وحشية بواسطة قواتها المسلحة وعبر توطين مهاجرين من جزيرة جاوا التي تتركز فيها السلطة السياسية في اندونيسيا .كما أعلنت إندونيسيا مقاطعة آتشيه منطقة عمليات عسكرية منذ عام 1990 حتى عام 1998 في محاولة لقمع أنشطة حركة تحرير آتشيه .وأشار تقرير لمنظمة العفو الدولية إلى وجود انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في المنطقة شملت إعدامات سريعة وحالات اختطاف وتعذيب واعتقال تعسفي، واعتبر ما يحدث هناك أمرا شائعا في تلك الفترة .وقد أدت المواجهات بين الجانبين في آتشيه إلى مقتل أكثر من عشرة آلاف شخص معظمهم من المدنيين .وقد تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في المنطقة في بداية يونيو عام 2000م ، وفي محاولة لقطع الطريق على حركة تحرير آتشيه منحت جاكرتا أواخر عام 2000 م حكما ذاتيا واسعا للإقليم وقررت توزيعا جديدا للثروات يعود بالفائدة على سكان الإقليم وسمحت للسلطات المحلية بتطبيق الشريعة .لكن الكيان الدولي لم يول اهتماما كبيرا لهذه المواجهات التي تمثل احد أطول النزاعات في جنوب شرقي آسيا، فالولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى تعتبر أن قضية آتشيه «مسألة داخلية» لاندونيسيا بينما لم تنجح حركة التحرير التي لا يلقى برنامجها الإسلامي قبولا في الخارج، في تدويل هذا النزاع .جذور المشكلة .. لماذا يسعى الإقليم المسلم إلى الانفصال عن أكبر دولة إسلامية ؟قد يتعجب المرء كثيرا عندما يرى إقليما مسلما يسعى للانفصال عن دولة مسلمة وقد يسعى البعض فيتهم المنادين بالاستقلال بالخيانة وعظائم الأمور إلا أنه قبل أن تلقي التهم يجب أن نبحث عن أسباب هذا التوجه – الذي قد يكون غير محمود في أحايين ومحمود في أحايين أُخر - .ففي خلال السنوات القليلة الماضية تصاعدت نبرة الحديث عن الانفصال في آتشيه ،ووضع سكان بعض المدن والقرى أعلام جبهة تحرير الإقليم وهي من اللون الأحمر تحمل في وسطها النجمة والهلال‏,‏ بينما علقت علي الجدران لافتات كبيرة مطالبة بالاستقلال وحق تقرير المصير‏ .وفي الصعيد ذاته لم يستجيب أهالي الإقليم لحملة تسجيل الأصوات في انتخابات عام 2000 ، فلم تتجاوز نسبة التسجيل في آتشيه الـ ‏16%‏ فقط .الأمر الذي يشير أن آتشيه احتلت المرتبة الثانية بعد تيمور الشرقية في نسبة المقاطعين لانتخابات‏,‏ وفي ذلك إشارة واضحة إلي تنامي الرغبة في الانفصال عن اندونيسيا‏, لماذا كان سكان آتشيه الأكثر تمردا‏,‏ ورغبة في الانفصال عن اندونيسيا؟الذي لا يعرفه كثيرون أن هذا الإقليم له أسبابه الخاصة به التي دفعته إلي التمرد علي النظام الاندونيسي‏,‏ ولعل السبب الأول والأهم هو تدين الإقليم فالذي لا يعرفه كثيرون أن آتشيه من أكثر الأقاليم الاندونيسية تدينا ومحافظة وإسلاما في اندونيسيا‏,‏ فالمسلمون فيها يمثلون 100 % ، وفيه أكبر عدد من المدارس الدينية وحفاظ القرآن‏,‏ ولا غرابة في ذلك‏,‏ فموقعها الجغرافي في أقصي الطرف الشمالي لجزيرة سومطرة جعلها أول ارض وطأتها أقدام التجار والبحارة الحضارمة الذين جاءوا إلي المشرق حاملين الإسلام معهم‏.لذلك فأن اعتزاز أهل آتشيه بالهوية الإسلامية جعل المطلب الأساسي لسكان الإقليم هو إقامة دولة إسلامية علي أرضه‏..‏ وهذا الاعتزاز ذاته هو الذي دفع مسلمي الإقليم إلي قتال الهولنديين بشراسة‏,‏ منذ قدموا لاستعمار المنطقة‏.‏ لم يكن ثوار آتشيه مدافعين عن اقليمهم فحسب‏,‏ ولكن دورهم في حركة الاستقلال الوطني الاندونيسي كان مبرزا من البداية‏,‏ ومنذ حصول الإقليم على الوضعية الخاصة به في عام ‏1950‏ م ، فأن مسلمي آتشيه يواصلون مطالبتهم بإقامة دولتهم الإسلامية المستقلة‏,‏ وكان ابرز تلك المطالبات انتفاضتان قام بهما سكان آتشيه احداهما في عام‏76‏ والثانية في عام‏1989 .في كل مرة كانت انتفاضة الآتشيين تقابل بقبضة الجيش القوية‏,‏ وبعمليات سحق تؤدي إلي سقوط عشرات القتلي والجرحي‏,‏ الأمر الذي أدي في النهاية إلي تراكم شعور عميق بالمرارة والسخط لدي سكان الإقليم‏,‏ دفعهم إلي تجديد المطالبة بالانفصال وإقامة دولتهم المنشودة‏ .وقد سألت صحيفة الأهرام القاهرية عن أحد قادة الإقليم : لماذا هذا الإصرار علي الانفصال عن المجتمع الإسلامي في اندونيسيا‏,‏ باسم إقامة دولة إسلامية في آتشيه ؟ ؛ فكانت إجابته : أن الدولة الاندونيسية منذ قامت في عام ‏1945‏م ترفض الهوية الإسلامية وقد تخلت عنها لصالح مبادئ سوكارنو الخمسة البانقشا سيللا وإذا كانت الحكومة قد أذنت للكاثوليك بالانفصال وإقامة دولة كاثوليكية خاصة بهم‏,‏ فمن حقنا نحن المتمسكين بديننا‏,‏ والمعتزين بهويتنا الإسلامية أن نستقل ونقيم دولتنا التي نتطلع إليها‏,‏ ونحن نستغرب – والكلام لا زال له - لماذا يعطي ذلك الحق للكاثوليك‏,‏ بينما نحرم نحن منه؟‏!‏ .إذن نستطيع أن نقول أن السبب الرئيس وراء مطالبة الإقليم بالاستقلال هو بعد الحكومة المركزية عن الإسلام وعن الالتزام ولعل من يراجع تاريخ اندونيسيا منذ أيام سوكارنو وسوهارتو وهي تحارب الإسلام والإسلاميين ؛ بل أن حزب الرئيسة الحالية ميجاوتي أعلن عن رفضه وعدم قبوله في تطبيق الشريعة في الإقليم وهو الأمر الذي قد يفسر اندلاع الاشتباكات من جديد .السبب الثاني في موقف الإقليم هو الظلم وعدم العدل في توزيع الثروات ، فإقليم آتشيه إقليم غني وينتج ‏12‏ مليون طن من الغاز سنويا‏,‏ تمثل ثلث صادرات اندونيسيا في هذا المجال‏,‏ كما انه ينتج يوميا ما يتراوح بين‏15‏ و‏20‏ ألف برميل من النفط‏ ، والي جانب النفط والغاز‏,‏ فالإقليم غني بالذهب والفضة والمطاط والفلفل‏ إلا أن مع هذا كله يعتبر الإقليم من أفقر مناطق اندونيسيا .السبب الثالث في مطالبة الإقليم بالاستقلال هو دور الجيش وقيامه بقمع المسلمين بشكل لا يوصف ، ولقد اعترف بهذا الرئيس الاندونيسي السابق عبد الرحمن واحد حيث أكد أن جنرالات الجيش هم السبب وراء اضطرابات الإقليم .كما أنه بعد سقوط الرئيس سوهارتو اكتشفت السلطات وجود عدة مقابر جماعية‏,‏ دفن فيها عشرات من الناشطين الداعين إلي الاستقلال‏ .لعل هذه أهم الأسباب وراء مطالبة الإقليم بالاستقلال ، ولكن لا يزال هناك عدة أسئلة مثل ما السبب وراء الاضطرابات الأخيرة ، وهل سيحصل الإقليم على ما حصلته عليه تيمور الشرقية ، وغيرها من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في المقالات القادمة

========
مفكرة الاسلام