على خلاف ما جرى في تيمور الشرقية ، وعلى خلاف ما جرى في جزر الملوك .. اقتحم الجيش الاندونيسي مزمجرا تحت غطاء كثيف من القصف الصاروخي إقليم آتشيه المسلم الذي يطالب بالانفصال عن اندونيسيا..وعلى خلاف ما جرى في تيمور الشرقية من اجتماع الدول الغربية والشرقية على تأييد انفصالها من اندونيسيا ، تجاهلت دول العالم ما يجرى في إقليم آتشيه .إنه أمر عجيب ، ويزداد الأمر غرابة عندما نقترب من الصورة فنكتشف أن إقليم تيمور الشرقية النصراني حصل على مقعد في الأمم المتحدة ، بينما قطعت المحادثات مع قادة إقليم آتشيه وهاجمته .وكلما اقتربنا من الصورة ازددنا حيرة .. لماذا استنوق الجيش الاندونيسي أمام نصارى جزر الملوك ، وأستأسد على مسلمي إقليم آتشيه . إنها تساؤلات كثيرة سنحاول في هذه المقالات الإجابة عليها وعلى غيرها ..أين يقع إقليم آتشيه ؟ باختصار ..يعتبر إقليم اتشيه الذي يشن الجيش الاندونيسي هجوما لسحق الحركة المطالبة باستقلاله معقلا للمسلمين ومنطقة غنية بالنفط والغاز والثروات الزراعية مثل البن وجوز الهند .ويقع هذا الإقليم الذي يبلغ عدد سكانه أربعة ملايين نسمة في أقصى شمال غربي الأرخبيل الاندونيسي الكبير في شمال جزيرة سومطرة .تكتسب آتشيه أهميتها بالنسبة لجاكرتا ليس فقط بسبب المخزون الكبير من النفط والغاز الطبيعي الموجود بها، بل أيضا للاستثمارات الزراعية الضخمة فيها.وتسمى عاصمة الإقليم 'باندا آتشه' أي 'المدخل إلى مكة' نظراً لتاريخها كمحطة تعبئة للحجاج المسلمين المتجهين إلى مكة عن طريق البحر .لمحة تاريخية عن الإقليم : قبل دخول الإسلام إلى اندونيسيا ، كانت اندونيسيا عبارة عن عدة ممالك مستقلة لا يجمعها بينها رابط ، وكان يوجد في آتشيه مملكة كبيرة تحمل الاسم ذاته [ مملكة آتشيه ] في شمالي سومطرة ، وكان هذا إقليم آتشيه هو أول منطقة في اندونيسيا الحالية تعتنق الإسلام .وتختلف الروايات في تحديد تاريخ بداية دخول الإسلام إلى آتشيه فبينما يذهب البعض إلى أن بداية دخول الإسلام كانت في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي ، يذهب آخرون إلى أن الإسلام قد وصل إلى هذه المناطق قبل هذا التاريخ بقرن من الزمان .. وتذكر كتب تاريخ الملايو أن أول ملك مسلم حكم مملكة آتشيه يدعى [جيهان شاه ] وذلك عام 602 هـ وإنه لم يكن من سكان البلاد ، وإنما تزوج منهم فقبلوه ملكا .. ولعل يؤكد هذا التاريخ وهذه الرواية ما ذكره الرحالة الأوروبي [ماركوبولو] عن زيارته إلى جزيرة سومطرة عام 692هـ حيث قضى خمسة أشهر فيها فيقول : ' إن جميع سكان البلاد عبدة أوثان اللهم إلا في مملكة [برلاك] الصغيرة الواقعة في الزاوية الشمالية الشرقية من الجزيرة – وهي إقليم آتشيه – حيث كان سكان المدن وحدهم مسلمين ، أما سكان المرتفعات فكلهم وثنيون ، أو متوحشون يأكلون لحوم البشر ' , وبعد نصف قرن من رحلة ماركوبولو زار هذه المنطقة الرحالة المسلم [ابن بطوطة] في عام 746هـ فوجد الحكم الإسلامي وقال عن مشاهداته : ' .. وهو السلطان الملك الظاهر من فضلاء الملوك ، شافعي المذهب – وهو المذهب المنتشر حتى اليوم في اندونيسيا – محب للفقهاء ، يحضرون مجلسه للقراءة والمذاكرة ، وهو كثير الغزو والجهاد ، ومتواضع ... وأهل بلاده شافعية محبون للجهاد يخرجون معه تطوعا وهم غالبون على من يليهم من الكفار ، والكفار يعطون الجزية .. ' .و لا نستبعد أن يكون ماركوبولو قد هون من شأن المسلمين حقدا وحسدا .إلا أنه لم تمض عدة قرون على انتشار الإسلام في اندونيسيا ، إلا وبليت اندونيسيا بما بليت به الدول الإسلامية من الهجمة الاستعمارية الصليبية البغيضة ، حيث احتل البرتغاليون مضيق مالاقا عام 917هـ ، وسيطروا على شمالي جزيرة سومطرة – بما في ذلك إقليم آتشيه - عام 928 هـ ، وجوبهت الحركة الاستعمارية بحركة جهادية قوية من مسلمي آتشيه إلا أنها ضعفت في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين لسيطرة البرتغاليين على مضيق مالاقا ، وبسبب النزاع الذي نشأ بين العلماء الذين دعوا وطالبوا بالجهاد والحكام الذين استكانوا ولانوا .ثم بعد صراعات بين الدول الكبرى في هذا الوقت ..وصل الأسطول الهولندي إلى سومطرة عام 1005 هـ ، حيث نجح في هزيمة البرتغاليين ثم انقض الهولنديون على المسلمين يعملون فيهم القتل والانتقام ..وبدأت هولندا تشدد قبضتها على اندونيسيا وسط مقاومة عنيفة من المسلمين ، ومن أشهر هذه المعارك حرب إقليم [آتشيه] ضد الهولنديين المعتدين واستمرت هذه الحرب ثلاثين عاما من عام 1290- 1322 هـ حيث أعلن سكان مملكة آتشيه الجهاد ضد الهولنديين وكان سلطانهم آنذاك يدعى [إبراهيم منصور شاه] ، وظهر من الأبطال في هذه الحرب [ تنكو عمر] ، وبرغم انتهاء هذه الحرب في عام 1322 هـ إلا أن المقاومة والاضطرابات استمرت عشر سنوات أخرى حتى عام 1332هـ قبل الحرب العالمية الأولى .وفي هذه الفترة بدأت الحركات الإسلامية توحد صفوفها وتنظم جهودها ، وقامت ثورة واسعة في جميع أنحاء البلاد لم تستطيع القوات الاستعمارية المعتدية القضاء عليها إلا في عام 1346 هـ [ 1929م ] .وتقول المصادر التاريخية إن الهولنديين بداوا محاولة السيطرة علي إقليم آتشيه في عام1873, لكنهم فشلوا في السيطرة علي كامل أرضه طيلة سبعين عاما تقريبا, حتي أخرجهم اليابانيون من الإقليم في عام1942 .وفي عام 1945 م أعلنت اندونيسيا استقلالها ،وتم تشكيل الدولة الاندونيسية التي ضمت الجزر التي كانت تحت الاحتلال الهولندي ومن بينها سومطرة التي يقع إقليم آتشيه في طرفها الشمالي .وبعد الاستقلال مباشرة قام الإسلاميون بتشكيل الحكومة برئاسة محمد ناصر ، حيث اتسمت الأوضاع بالاستقرار والهدوء ، إلا أن ذلك لم يدم طويلا حيث قام رئيس الجمهورية أحمد سوكارنو وبمساعدة الشيوعيين بإزاحة الإسلاميين من الحكم وبدأت حلقة من قمع الإسلاميين في البلاد .ونظراً لموقفها المشرف في مجابهة الاستعمار الهولندي، منحتها الحكومة الإندونيسية في عام 1950 م ما يسمى 'منطقة خاصة' ذات حكم ذاتي فيما يتعلق بالدين والتعليم والعادات الاجتماعية ، لكنها لم تمارس هذا الحكم الذاتي على أرض الواقع، حيث يعيش معظم أهلها تحت خط الفقر ، وبسبب عدم المساواة الاقتصادية إلى جانب عوامل أخرى لا تقل أهمية، قرر سكان المقاطعة النضال من أجل الاستقلال واشتعلت المنطقة في موجة من العنف والتخريب.
يتبع ...........
===========
مفكرة الاسلام
مواقع النشر (المفضلة)