مع فضيلته على منبر مفتوح
علي سعد الموسى*
خالفت مساء الثلاثاء الماضي تعهداً شخصياً قطعته على نفسي في فترة سابقة بأن أتحاشى الظهور المنبري وأن يبقى التواصل بين أفكاري وجمهوري مكتوباً موثقاً بالأحبار ولي مع هذا المسلك قصة خاصة دفعتني نحو قرار العزلة الشفهية.
اخترت مكان العودة المنبرية في منتدى فضيلة الشيخ أحمد العميرة، لأن الضيف المقابل على ذات الطاولة كان فضيلة شيخنا الآخر الدكتور محمد بن يحيى النجيمي إيماناً بأن الحوار مع الشخص الصريح لا يجلي التباين فحسب، بل يشد الجمهور وهو ما كان أمام أكثر من 400 شخص في حاضرة رجال ألمع التي ما زلت حتى اللحظة مؤمناً بأنها بذرة أساس لمشروعنا الثقافي الوطني.. هذه البيئة (الألمعية) لا يشذ فيها الفعل عن الاسم ومخطئ من يظن أن الأسماء دائماً لا تعلل.
أكتب هنا، عن الليلة، استكمالاً لخواطر كانت يومها ناقصة، أو تعليقاً على جمل لم تتح المساحة الوقتية لها أن تنجلي بما فيه الكفاية، مع اعتذاري للشيخ النجيمي إن أنا استغللت مساحتي هنا لمناورة فردية قد لا تكون متاحة له بذات القدر أو أنني واصلت الحديث بعد أن قفلنا الميكرفون ومن الشجاعة أن أعترف أن هذا ليس من قياسات المروءة في السجالات الفكرية. من باب الإنصاف، أحمد لشيخنا الفاضل كل مواقفه الجريئة المسؤولة تجاه أزمتنا الفكرية في ضلال الإرهاب وأشهد له أنه دافع عن قيم الدين والوطن ضد الفئات الضالة بأدوات فقهية تنم عن عقلية موسوعية شمولية وعن سعة اطلاع مكنته من الاحتجاج بالدليل حتى لتخاله (صحيحاً) متحركاً برؤية منهجية متقدمة. أشد على يديه مرة أخرى لأنه، وبالدليل الشرعي، يحمل رؤية واضحة بلا لبس حول العلاقة بين الوطنية والهوية الإسلامية وأؤكد له أن المرتكزات الأربعة التي وصفها في نهاية ورقته تلك الليلة تصلح بامتياز لأن تكون المرجع الذي يحتكم إليه كل مشهدنا الثقافي في لحظات الاختلاف وحمى التصنفيات.
غير أن تقييمي لمحاضرتنا الحاشدة أمام جمهور غفير جداً يذهب بي لتأكيد انطباع مسبق أن فضيلة الدكتور النجيمي يعشق بشكل (لاذ) عراك الجدل مع الأفراد والتيارات شأنه شأن بدايات أدبيات الصحوة التي قفز رموزها من الظل للضوء ارتكازاً على معارك ثنائية إما بين فردين أو بين مدرستين أو تصنيفين. المركز المتقدم جداً لفضيلته لا يناسب عودته للمربع الأول، إلى افتعال المعارك مع الأفراد والتيارات، لأن هذا المربع مناسب للمبتدئين إلى باب الشهرة وقد لا يناسب قامة ثقافية في مثل مكانته.
ربما دفع منظر الصف الأول في المحاضرة الحاشدة، شيخنا النجيمي لأن يلغي محاور اللقاء ظناً منه أن دغدغة تياره الخاص بخطاب عاطفي من القدح وإلقاء المعايب وإقصاء وجهات نظر الآخرين قد يحلق به إلى أفق جديد من الشعبوية. لكن الصف الأول - بمشالحه - ليس كل المشهد. إنه جزء منه، ولو أن شيخنا رفع رأسه حتى نهاية القاعة الواسعة لربما رأى بقية الأجزاء، والفارق أن خطاب التيار الذي يمثله شيخنا يخاطب الأعصاب والعواطف ولهذا ظن شيخنا، وهو قد قال هذا في المحاضرة: إن هذا هو جمهوري وهو قد جاء لأجلي، أما أنتم أيها الليبراليون فلا جمهور لكم، ولك أن تجرب الحضور بمفردك لتعرف عدد جمهورك بالضبط. لست في حاجة أن أدخل هذه التجربة ولن يخدعني حتى ولو كنت بمفردي سواد الصف الأول. شعور شيخنا الفاضل بابتسامات الصف الأول، ونحن نعرف بالضبط مكان هذا الصف في كل لقاء عام، دفعه إلى نشوة انتصار ومن ثم إلى كشف حساب نحو مزيد من إقصائية التصنيف. تحدث شيخنا بثنائية - الإسلامية والليبرالية - متهماً التيار الأخير أن له ولاءات أجنبية مستشهداً بحكاية - شيكات السفارات - وتقارير مؤسسة راند وكل هذا في الماضي وإلى اليوم من باب - الهواء الطلق - لأن واحداً فقط لم يقدم دليلاً ملموساً حتى اللحظة. قصة الولاء للقيادة وللوطن كتهمة - لليبرالية - تنقضها أصوات القنابل من مايو 2003 حتى اليوم ويدحضها كتاب المقدسي الشهير (الكواشف الجلية.. ) الذي كان تياراً متطرفاً من بين التيار يوزعه مجاناً بالآلاف، ويدحضها أيضاً تيار الهوية الأممية على حساب الهوية الوطنية ويكفي فضيلة الشيخ أن ندلل على أصوات من الصف الأول بالمحاضرة التي طالبته في ذات الليلة أن يسرد الدليل الشرعي على مشروعية البيعة لولي الأمر وعلى جواز القول بالهوية الوطنية. كلنا نعرف من أين جاء التيار الذي باشر التفجير والتكفير ونسف اسم الوطن واستبدل مسمياته: كل تيار يقدم أدلته الملموسة وسأعيدها بالفم المليء: أنا مع مرتكزاتك الأربعة مثلما أنا مع إيماني العميق أننا تيار إسلامي واحد متوحد وإن اختلفت الرؤى مثلما أنا مع دعوتي القديمة أن التيار الإسلامي، وكلنا في صلبه، لا بد أن ينظف ثوبه وخطابه مما علق به أو تلبس به وصولاً إلى ما وصل إليه قبل صحوة المجتمع وجهاً واحداً وصفاً متحداً أمام هذه الفئة.
ولنعرج نهاية على شكوى فضيلته من أن التيار الإسلامي يواجه إقصائية لا تسمح له بالظهور أسوة بغيره من تيارات التصنيف المختلفة على المشهد الثقافي. هذه محاولة لوضع ريشة أمام بؤبؤ العين لأن حضور كل الأسماء التي استعرضها فضيلته من - مناوئيه - لم تحاضر ولم تقف على المنابر حتى ولو لمجرد عشر النسبة التي كان فيها حتى رموز العنف مثل الفهد أو الخضير. لقد أثبتت الأرقام أن بعض رموز القوائم الأمنية الشهيرة وصلت منبرياً مئات المرات على المسرح المكشوف ولك شيخنا الفاضل أن تعلم أن ذات الإحصاءات تبرهن أن العام الجاري وحده قد شهد أكثر من مئة ألف نشاط إسلامي فأين الإقصائية التي عنها تتحدث.
وختاماً أهمس في أذن صاحب المنتدى فضيلة القاضي الشيخ أحمد العميرة: أشكر لك من القلب استضافتك وجهدك وموقفك الشريف من الأحداث ذاك الذي برهنت عليه في كلمتك ومداخلتك الضافية مع همستين: الأولى: ألا تظن أن المكان كان قفراً ثقافياً لأنه بكل الشواهد من التاريخ والحاضر منارة ثقافية وطنية رائدة. الألمعي مؤدب أديب مطبوع بالفطرة. الثانية: ألا يستغل (البعض) عبركم هذا المنتدى من أجل قفل مساحة ثقافية عرفت بالانفتاح الواعي وألا يستغلكم البعض كي يكون المنتدى الجميل في النهاية رسالة خاصة. إذا ودعت (ألمع) مشروعها الوسطي المفتوح فعلى ثقافتنا صلوات الرحمة.
* أكاديمي وكاتب سعودي
http://www.alwatan.com.sa/daily/2007.../writers04.htm
مواقع النشر (المفضلة)