عندها تذكرت أني لم ادعه للدخول.
"عفواً نسيت، تفضل."
"لم آتي في منصف الليل لأتفضل. قل لي هل لنادية حبة خال على خدها الأيمن؟
غابت عني الذاكرة قليلاً إلا أن حبة الخال كانت مميزة لها.
"نعم" لماذا؟؟
قال وهو يزفر بغضب:
" إذن هي. هيا ألبس وسأنتظرك عند باب البناية."
توجه إلى الدرج بسرعة فسألته
": ماذا حصل؟؟"
توقف في منتصف الدرج وقال لي
": "لقد رأيتها وهي تتأبط ذراع أحد الأوغاد قبل "قليل"
كان الخبر صدمة لي. كأنه لم يخبرني وإنما صعقني. نعم كانت هذه هي النهاية الطبيعية ...أو أن شئت فقل بداية النهاية. وهل المفروض أن نتوقع أن نجدها وهي ممسكة بمصحف؟ ولكن وقوع المصيبة ليس كتوقعها. حتى طارق الذي كان بارداً عندما ذهبت في المرة الأولى لم يكن كذلك الآن. تبا لهذا الأب، ألا يغار؟؟
نظرت إلى أم محمد وأجبت أسئلتها الكثيرة والتي لم أفهم معناها بكلمتين:
"لن أتأخر"
ذهبت مع طارق إلى المكان الذي رآها فيه. لم نتحدث طوال الطريق. كنت ما أزال أوبخ نفسي فأنا السبب... جائتني إلى البيت تطلب مساعدتي وتركتها تذهب ببساطة فقط لأن أباها غضب وأمرها بأن تخرج من عندنا ...كم أنا أحمق وهل يتوقع من ذلك المخلوق انه سيأمرها بقيام الليل وصيام النهار!!
وصلنا إلى المنطقة التي رآها فيها وعلى الرغم من مكوثي في هذه المدينة ثلاث سنوات فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدمي مثل هذه الجهة. كانت المحلات ذات واجهات غريبة وأصوات الديسكو تخرج من بعضها. وأما الناس فهم خليط عجيب من الألوان، فهناك نساء ورجال وهناك من هم بين بين!!لم أملك نفسي من توجيه السؤال لطارق:
" كيف أتيت إلى هنا؟؟"
أجاب وهو ينظر إلى المحلات: لم آتي إلى هنا ولكني رأيتها تتجه إلى هنا بصحبة أحد أبناء الشوارع حيث كنت في بداية الشارع اشتري عشاء.
تمتمت وانا انظر معه إلى المحلات
"جزى الله خيرا ً أم محمد فقد كفتني هذا الأمر"
"تلك هي"
نظرت إلى الجهة التي أشار إليها طارق فإذا بالفعل هي بشحمها ولحمها وأما ثيابها فلا!!
نظرت إلى مرافقها، فإذا هو علج لا اشك في انه لا يعرف أباه وقد نسي أمه. وبهدوء اتجهت إليها وعندما رأتنا علتها الدهشة واضطربت قليلاً. كان ذلك المعتوه ما يزال يتحدث إليها ولكنه لما لم يجد منها تجاوباً، انتبه لوجودنا.
قلت له بهدوء: إنها أختي وأريد الذهاب بها. سكت قليلا ونظر إليها إلا إنها لم تجب. قال طارق موجهاً الحديث إليه بعد ان اقترب منه حتى كاد يلتصق بوجه:
"ما الأمر ؟؟ هل هناك مشكلة؟؟"
جفل الشاب واعتذر ثم ابتعد عنها فانطلقنا بها. لم أشأ أن أتكلم حيث كنت أريد أم محمد أن تتولى المهمة ولكنها بادرت بالهجوم:
"أظن بأنه لا يحق لكما أن تتدخلا في حياتي الخاصة"
تمتم طارق وهو ينظر إلى المباني على جانب الطريق:
"لم أتصور أن هناك من يحفظ الدستور الأمريكي في ظرف شهرين"
أكملت وكأنها لم تسمع تعليق طارق:
"أنا أعرف ما تفكرون فيه إلا أن تفكيركما خاطئ. جون أخ لزميلتي في السكن وقد تعرفت عليه عن طريقها وكان المفروض أن تكون....."
لم تكمل حيث حاصرنا ثلاثة من الشبان رابعهم جون. تمتم طارق بعد أن نظر إليهم:
"وهؤلاء هل هم أصدقاء زميلتك أم أخوة جون؟"
كان واضحا أنهم لم يأتوا لمناقشة مشكلة ارتفاع الضرائب عندهم ولا مشكلة غلاء المهور عندنا. نظرت إلى المنطقة التي نحن فيها فإذا هي شبه خالية من السكان وهذا يدل على اختيارهم الدقيق. تقدم جون وهو يتمتم ساخراً:
"أتظن أنه يحق لك بأن تأخذ صديقتي " ثم التفت إلى أصحابه وصاح ساخرا:
"هيه ما رأيكم يا رفاق يقول بأنها أخته"
قال أحدهم وهو يضغط على عصا في يده: " دعنا نكسر عظامهم ونرسلها في أكياس صغيرة لأهلهم.
هذا ما ينقص أهلنا، بريد به عظامنا مكسرة. اقترب جون وكانت نادية تحاول تهدئته إلا أنه أزاحها عن طريقه. في تلك اللحظات العصيبة تذكرت خلف زعيم الحارة أيام الصبا إذا كان يجمعنا في إحدى الزوايا ويعطينا التوجيهات والنصائح الإرشادية في المعارك والمشاجرات. كانت أهم نصيحة يرددها دائما هي: " إذا جد الجد كن أنت البادئ تكن أنت الفائز " وبناءا على تلك النصيحة فما أن كان جون في مرمى يدي حتى كانت قبضتي قد نشبت بين أسنانه.. وبدأت المعركة. كان من المفترض أن يكون من نصيبي اثنين ومن نصيب طارق اثنين إلا أن ذلك لم يحصل. فقد كان قوتي لا تتحمل إلا نصف واحد من نوعية جون. اشتبكت أنا وجون ولم ادري ماذا حصل لطارق في البداية حيث كنت مشغولا برد اللكمات التي يسددها الثور الذي أمامي. بدأت قوتي تنهار وأنا أتلقى سيلا جارفا من اللكمات ممن كان كما علمت فيما بعد أنه عضو في نادي الملاكمة التابع للجامعة. كنت اسمع صرخات بجانبي وحيث لم إنها لم تكن مني وبالتأكيد لم تكن من الثور الذي أمامي لأنه كان في وضع مريح فقد خمنت أنها تصدر من رفيقي طارق. وبعد لحظة توقف جون عن تسديد القذائف باتجاهي. نظرت إليه فإذا هو قد اشتبك مع طارق. كان طارق هو الذي يصدر الصيحات- وليست الصرخات كما اعتقدت - مع كل لكمة يسددها لجون. نظرت إلى أصحاب جون فإذا الأول منهم قد توسط الشارع بلا حراك وأما الآخر فقط توسط مجموعة من الأخشاب بجانب إحدى المستودعات وأما الأخير فقد جلس على ركبتيه وهو ممسك ببطنه. نظرت إلى طارق وجون وقد أخذ كل منهم موقعه وهو ينظر إلى الآخر. نظر طارق إليه وقال وهو يبتسم( لم افهم إلى الآن كيف استطاع الابتسامه وأمامه ذلك الثور الهائج):
إلى الآن وانأ في وضع دفاعي ولكن الحال سيتبدل يا صاحبي: وما أن أراد الهجوم حتى داهمتنا أصوات سيارات الشرطة قادمة نحونا. اتجه جون بسرعة إلى رفاقه وساعد أحدهم على النهوض بينما ساعد الملتوي الآخر. غادرنا جون ورفاقه وهو يتوعدنا بلقاء آخر. صاح طارق والابتسامة الماكرة تعلو وجهه: " أنا بانتظاركم" ثم التفت إلي وقال:
"لقد أعادوا لي أيام الشباب. توقفت عند الحزام الأسود 2( دان) ولو أكملت لأرسلتهم بأكياس إلى أهلهم."
لم تعد تحملني قدماي فقت وأنا استعد للجلوس على قارعة الطريق متلمسا بعض جراحي:
"وانأ كذلك أعادوا لي ذكريات الحارة"
توقفت سيارتي شرطة بالقرب منا فاقتربوا منا بحذر وسلطوا أضوائهم الكاشفة علينا فأتضح لهم ولنا أنه لا يوجد في المنطقة أحد سوانا. بعد أن تأكد الرقيب أننا عزل اقترب منا ونظر إلى ثم وجه ككلامه لطارق:
"هل صاحبك بخير"
"أظن ذلك لكنه يحتاج لإسعاف"
" هل يمكن أن تشرح لي ما الذي حصل"
"الأمر بسيط تمييز عنصري من بعض الشبان"
هز الرقيب رأسه وقد وجد في لكنة طارق العربية ما يؤيد قوله ثم قال:
" فهمت. هل يمكن أن تتفضل معي أنت وصاحبك إلى مركز الشرطة"
"بكل سرور ولكن بعد أن يتلقى صاحبي العلاج اللازم"
كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا عندما وصلت إلى الشقة. وعندما وقفت عند الباب تذكرت أنني لم آخذ معي المفتاح فطرقت الباب. وكلمح البصر فتح الباب. نظرت إلى أم محمد ثم شهقت وهي تقول:
"حادث"
رددت بعد إن اتكأت على الجدار
"أظن أن القصة أطول من أن أشرحها عند الباب"

دخلت بعدها واتجهت مباشرة إلى السرير وبعد لحظات دخلت علي أم محمد بصينية ملئت بشتى الانواع من الأدوية الشعبية حملتها إياها جارتنا أم عزيز أشهر عطارة في الحارة. كانت أم محمد تستحثني على ذكر التفاصيل فسردت ما اذكر من أحداث تلك الليلة الرهيبة مع تجاوز بعض الأحداث التي لم أكن فيها بكامل قواي العقلية. تمتمت أم محمد وهي تضع ثلجا على إحدى الكدمات:
"مسكين طارق ليس هناك أحد يعتني به"
لم أستطيع أن أرد زفرة خرجت من صدري وان أقول:
"نعم مسكين"
كان يراودني شعور بان جون ارحم من أم محمد وهي تعارك جروحي.
"وماذا حصل لنادية"
سبب لي ذكر اسمها ألم أكثر من لكمات جون وأدوية أم محمد. نظرت إلى أم محمد ثم قالت وهي تخلط عدة مساحيق لتبدأ جولة جديدة:
"مالك لا ترد"
"لأنني أتمنى أن يكون هذا هو آخر العهد بها"
ولم يكن الأمر كذلك إذ بعد أسبوع أو أسبوعين من الحادثة عدت إلى البيت من الجامعة وعندما حاولت فتح الباب بالمفتاح الذي معي فوجئت بان الباب موصد من الداخل. طرقت الباب، فأطلت علي ام محمد بنظرات حادة ذكرتني بمناقشاتنا الحامية حول ضبط ميزانية المنزل. نظرت إلي طويلا قبل أن تقول:
"نعم"
آخر شيء توقعت أن ترد به علي. إلا أنني قلت وأنا أحاول أن اخفي دهشتي :
"أظن أنها شقتي وأظن أني أعرفك ألست أنت .... زوجتي؟"
"نعم ولكن عندي ضيفة اسمها نادية"
لا ادري لماذا اتجهت يداي مباشرة الى الكدمات التي ما زالت تزين وجهي. أكملت أم محمد وهي تمسك مقبض الباب:
" اقترح أن تقوم بزيارة طارق"