"هكذا انتم يا معشر المتزوجين تظنون أنكم ملوك وان غيركم يعيش في متاهة"
رددت على طارق وأنا أحاول أن أجد لي مكانا بين أغراضه المبعثرة في كل مكان:
"في الحقيقة هذا هو أحسن وصف للمكان الذي تعيش فيه"
"سلمان"
"سم"
"قطع السلطة"
هذا ما استفدته من نادية إهانات جسدية ونفسية. مازحت طارق وسألته عن جون ألم يحتك بك؟ فرد علي وهو في المطبخ:
"لا أظن أنه يود الاحتكاك بي ما لم يحصل على الحزام الأسود "
لم تخرج نادية من عند أم محمد إلا بعد العصر وخلال ذلك الوقت كنت تحت رحمة طارق والذي لم يدعني حتى أخذ مني موعدين على العشاء يشترط في أحدهما أن يكون في عطلة نهاية الأسبوع . عندما وصلت إلى الشقة وجدت أم محمد قد استقر بها المقام على أريكة طويلة في الصالة. كان خداها المتوردان دليل على أنه كان هناك نقشا حاميا.باغتها قائلا بعد أن جلست أمامها :
"ماذا تظنين؟؟"
نظرت إلى بهدوء ثم استقرت عيناها على مزهرية توسطت المسافة فيما بيننا :
"لا أظن الذي أرسلها إلى هنا بوضعها ، قد رباها على مكارم الأخلاق"
كم هي رائعة أم محمد إذ توصلت إلى نتيجة. كل شيء فيها يبدو رائعاً. عيناها الواسعتان ، شعرها الضارب إلى الحمرة و فمها الضيق الذي يبدي أسناناًً هي أقرب إلى الجواهر إذا رصت إلى بعضها. اقتربت منها وأنا أقول:
"هل من الممكن أن تفصلي قليلاً"
أخذت نفساً عميقا ثم قالت:
"لا أعرف كيف بدأ الحديث إلا أنني حاولت أن أفهمها أن ما قمت به أنت وطارق هو ما كان ينبغي على أبيها وأخيها أن يفعلاه إذا رأوها في نفس الموقف إلا أنها قاطعتني قائلة:
" المشكلة أنكم لا تفهمون الحياة"
"هل من الممكن أن تشرحي لي الحياة"
"الحياة هي أوسع من أن تحشر في جلباب وهي أوسع من أن يسيطر عليها أناس قد حكمت حياتهم الشك والريبة . الحياة بمعنى آخر هي ملك للجميع ولا يحق لأحد أن يمنعها عن أحد"
"اتفق معك في جملتك الأخيرة وهي أن الحياة ملك للجميع ولكن هل يعني هذا أنه يحق لي بما أن الحياة ملك لي أن أتعدى على ملكك في الحياة؟؟
"لا"
"ممتاز. إذن حياتي وحياتك وحياتنا جميعا ينبغي أن تكون تكاملية، أي بمعنى آخر ينبغي على حياتي أنا وحياتك أنت وحياة كل فرد أن أن لا تؤذي حياة الفرد الآخر بل ينبغي أن تفيده وتدفعه للأمام ، وبهذا يرتفع المستوى العام للحياة عند الجميع أليس كذلك؟"
ترددت نادية قليلا ثم قالت: " نعم ... تقريبا"
"لا ليس تقريبا أريد إجابة قاطعة. إذا كان حياتي الخاصة تؤثر سلبا في حياة الآخرين، ألا ينافي ذلك قولك إن الحياة ملك للجميع؟"
"نعم"
"ممتاز. والآن لو أن كل شخص في الحياة فعل ما يحلو له من ملذات، فمثلا عاقر الخمور والمخدرات أو أن تكون فتاة وقد خلعت الحجاب واختلطت مع من ينظر إلى قدميها قبل وجهها وتقع في براثن الزنا أو تلتصق بوحل السحاق....."
"قاطعت نادية الحديث معترضة:
" أنا لم أفعل ذلك"
"ومن قال أني أتحدث عنك يا عزيزتي . أنا أفرض فرضا فقط. أرجع إلى الموضوع فأقول لو أن شخصا فعل ذلك كله، هل يحق لنا أن نتركه بحجة أنه حر في حياته؟؟"
تلكأت قليلا ثم قالت:
"ربما لا "
"تكفيني ربما . طيب لو أن شخصا فعل أحد هذه الأشياء هل تنطبق عليه نفس الإجابة السابقة؟"
"علمت أنها وقعت في الفخ فقالت:
" لماذا تجعلين حرية اللباس قرينة الزنا والسفاح ومعاقرة الخمور والمخدرات؟".
"لأني أعلم كما تعلمين أنت ما يفعل اللباس الفاضح لأنثى بمراهق لا سيما إن كان يتسكع معها في منتصف الليل"
نظرت نادية إليَّ شزرا، فقلت لها معتذرة:
" لا تغضبي مني وأنا أعلم أنك تظنين أننا ننظر للحياة نظرة يملؤها الشك والريبة بعكس الناس هنا حيث أنهم يعيشون على البساطة وإن شئت فقولي الحرية، أليس كذلك؟"
سكتت.
"السكوت علامة الرضا. اسمعي يا عزيزتي كل مشروع ونظرة وفكرة ومنهج في الدنيا له مقياس صادق لا يحتمل اللبس ولا الخطأ"
"ما هو؟"
"النتائج. انظري يا عزيزتي إلى نتائج ما يسمى بالحرية هنا على المستوى الاجتماعي، لا أدري إن كانت كلمة ضياع تكفي أم لا . فالمصابين بالأمراض الجنسية والنفسية تعج بهم المستشفيات، العائلات شبه المدمرة هي الأصل والصحيحة فيهم شاذة. قارني بين هذه النتائج التي تصدرها مراكزهم مع نتائج مجتمعنا "ويا ليت قومي يعلمون"
قطعت أم محمد قصتها ونظرت إليَّ وقالت مبتسمة وهي تغمز بعينها:
" ما رأيك بي، ألا أصلح أن أكون محاضرة في جامعتك؟"
قلت وأنا أبادلها الابتسامة:
" تصلحين بأن تكوني عميدة جامعة المناظرات قسم الفلسفة. والآن هل اقتنعت نادية بما قلتي؟"
ملأت أم محمد رئتيها بالهواء ثم أكملت قصتها:
" لم تقتنع بل قالت: " أنتم تدورون حول أمور عفى عليها الزمن ، الناس هنا وصلوا القمر ، لماذا لا تفتحون أعينكم على الحقيقة ، لقد تقدم الغرب علينا، هم نجحوا ونحن فشلنا . ينبغي علينا أن نتخذ الناجح قدوة هذا من إيجابيات الحياة إلا إذا كنت تنكرين ذلك"
" أنا لا أنكر ذلك، بل في الحقيقة استغرب أن يخرج هذا الكلام منك وقد كنت أظنك ذكية"
انتبهت وكأنها لدغت وقالت.
" ماذا تقصدين؟!
" الأمر بسيط ، أين نحن الآن؟؟"
"في أمريكا "
ممتاز . ما الذي أتى بنا إلى هنا؟"
لم تجب.
"يبدو أن الإجابة صعب. سأجيب عنك هذه المرة. نحن هنا لأننا نعلم أنهم قد تقدموا علينا في العلم، فأتينا لنتعلم ما تقدموا به علينا، وأظن الطريق إلى ذلك العلم هو الدراسة في الجامعات لا الحانات"
ردت نادية وهي تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه:
"الحياة في نظرتكم جافة. كل شيء حرام"
" إن أردت الحقيقة فكلامك قد جانب الصواب لأن كل شيء حلال إلا ما حرم الله. فالأصل الِحل والاستثناء هو التحريم، وأنا أتحداك أن تأتي بشيء قد حرمه الله علينا وليس فيه مفسدة. بل شيء مصلحته أعظم من مفسدته وقد حرم.
قالت وكأنها وجدت لقمة سائغة:
" أنا لا أتكلم عن الله فهو أعلم بمصلحتنا ولكن أتكلم عن نظراتكم أنتم للحياة والحرية.
" عزيزتي إن كان الله أوحى لك بشيء عن حرية المرأة لا نعرفه فجودي به علينا، وإلا فإن النصوص محفوظة وموجودة في متناول الجميع. هذه واحدة والأخرى إن الحرية إذا كانت باباً للفساد الأخلاقي فهي حرام ليس في الإسلام فقط بل في جميع الأديان السماوية"
قالت وقد بدا الغضب يتضح من خلال نبرة صوتها:
" ألم أقل لك إن نظرتكم للحياة يملؤها الشك والريبة"
عزيزتي عندما تذهب المرأة مع الرجل إلى حانة في منتصف الليل فإن ذلك لا يمكن أبداً أن يفسر بأنه محاولة بريئة لكسب صديق ، وإن أردت نصيحتي فعليك بالذهاب فوراً للفحص فالناس هنا موبوءون"
كان الذعر باديا في عينيها. لم تستطيع أن تخفي اضطرابها وتململها. جلست قليلا ثم استأذنت وعندما وصلت إلى الباب، قلت لها وأنا اضغط على يديها:
"عزيزتي نادية، لاحظي أنى لم أذكر في كلامنا آية أو حديثا، ليس استخفافا بهما والعياذ بالله، ولكن لأني رأيت بأن نظرتك للحياة تعتمد على العقل. فأردت أن اثبت لك أن الإسلام يوافق العقل السليم ولا يناقضه. وإن أردت دليلا عقليا على ما قلته لك فما عليك سوى الذهاب إلى أقرب مركز للشرطة واحسبي خلال يوم واحد بلاغات الاغتصاب والسرقة والقتل وغيرها من الجرائم. كم أتمنى يا عزيزتي أن نأخذ من كل شيء أفضله وننتقي لحياتنا أفضل واطهر الأثواب ولا نكون كالثيران تدور في الحلبة بحثا عن خرقة حمراء ترفع لها.
كنت أنظر إلى أم محمد وهي ترفع يديها مصورة الخرقة الحمراء.
كم كنت أتمنى وجودي مع أم محمد وهي تمارس هوايتها في الإقناع.
نظرت إلى أم محمد بعد أن انتهت من سرد قصتها وقالت:
" هاه، ما رأيك؟"
" في الحقيقة بعد هذه المناقشة الشيقة التي أدرتها، أرى أنه من المفروض أن أسألك عن رأيك"
إن أردت رأي فأتوقع أنه سيكون هذا هو آخر العهد بها"
" أخطأ طارق في توقعه وأخطأت أنا أيضا إلا أن أم محمد أصابت الحقيقة فلم نرى نادية فيما بعد.
في ذلك الأسبوع دعوت طارق مكرها لتناول العشاء وعندما أخبرته بزيارة نادية لنا وبما دار قال وهو ينظر إلى صحن الجريش:
" شيء واحد لم اعرفه؟"
" ما هو؟ "
" إذا كانت بالفعل لم تربى على مكارم الأخلاق فلماذا أتت إليكم؟"
" أعود لرأي أم محمد وهو أنها لم تتربى على مكارم الأخلاق وأزيد بأنها لم تتلق التنشئة الاسلامية الصحيحة وذلك لأن الذي تولى تربيتها يحتاج هو الى تربية من جديد هذا واحد.ثانيا لا أظن أن الذي علمها كل ما سمعت هو جون.
تمتم طارق: " ذلك الثور"
" إذا فهي أساسا عندما أتت كانت محملة بتربية تحمل فيها أفكارا منحرفة ولكنها عندما أتت إلى هنا شعرت بالخوف. والخوف عندما يستولى على القلب يغسل القلب من أدران الشهوات والشبهات. ألم تسمع قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس:22) هذا هو حالها فلما ذهبت واطمأنت صار حالها كما قال تعالى في الآية التي بعدها (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (يونس:23) تمتم طارق : " والآن هل من المكن أن ننسى نادية ونبدأ بموضوع آخر"
" موضوع .. أي موضوع ؟"
" الجريش"
" الجريش .. الجريش "
رفعت رأسي فإذا ابني محمد قد وقف أمامي .
" أبي. أمي تقول إذا لم تأتي فإنها ستأكل الجريش وتدعك "
هذا هو جريش أم محمد الرائع لم يتغير منذ عشر سنوات . اتجهت الى المغسلة لأغسل يدي وأغسل تلك الذكريات التي ما ظنت أنها موجودة بزخمها في رأسي بعد أن بدأ البياض يشق طريقه على جنبيه . دخلت على أم محمد وأنا أحمل الجريدة ووضعتها أمامها. قالت وهي تعد الأطباق:
" لا تتعب نفسك ليس فيها شيء ، لقد قرأتها"
قلت وأنا أشير بإصبعي على المقال:
" يبدو أن ذاكرتك بدأت تضعف"
نظرت قليلا ثم اتسعت عيناها فجأة ،
"إنها نادية. نعم نادية صاحبتنا، ماذا كان اسم صاحبها؟"
قلت بهدوء:
"جون"
التفتت إلى وهي تغمز بعينيها :
"يبدو أن لك ذاكرة قوية عندما يتعلق الأمر بجون"
نظرت إلى محمد خجلا وكأنه يعرف حكاية جون مع أبيه مع انه لم يولد ساعتها . قالت لي أم محمد وهي تضع طبق الجريش أمامي
" لا عليك لن اخبره"
في المساء زرت طارقا والذي أصبح مديرا لمجموعة والده الاستثمارية . ألقيت عليه الجريدة وجلست احتسي قدحا من الشاي . بعد أن فرغ من قراءة المقال نظر إلي ثم اسمعني المقطع الخير من المقال:
" إذا أردنا أن نلحق بركب الأمم المتقدمة ونساير المجتمعات المتحضرة فينبغي علينا أن نطرح جانبا أطروحات عصر أكل عليها الدهر وشرب"
ألقى الجريدة جانبا ثم قال وهو ينظر إلى السقف متأملا
" أنني أتسائل من أي أصدقائها تعلمت هذا الكلام؟!"


- تمت-