



-
عضو فعّـال
عائشة .. في غـرفة التشريح .. !2/2
د. محمد الحضيف 8/9/1428
20/09/2007
عندما التحقت عائشة بالجامعة ، كان ( شهاب الإسلام ) ، طالباً في السنة الثانية في كلية التربية . لم تعرف حقيقة شخصيته ، إلا حينما صارت هي في السنة الثالثة ، في كلية الطب ، وهو كان قد تخرج وقتها من الجامعة ، وقلت مشاركاته في منتديات الانترنت ، وإن لم يفتر حماسه . ظلت لغته ، وأسلوبه في الكتابة ، بنفس القوة والحدة . تجربتها في الكلية ، حيث احتكت أكثر ، وتفاعلت على مستويات متفاوته ، مع أفراد مختلفين ، من أساتذة وزميلات .. إضافة إلى كونها صارت أكبر ، وأكثر نضجاً ، جعــلها أقل قابلية لهذا النوع من الطرح ، وأقل انجذاباً ، لِلَغة بهذا المستوى من الحدة . لكنها .. في أعماقها ، ظلت تشعر بانجذاب إليه .
بعد أن عرفت شخصيته ، تشجعت وأرسلت له رسالة بريد إلكترونية . ذكرت في الرسالة أنها تعرفه ، وعرفته بنفسها ، وشكرته على مواقفه ، وطرحه الجريء . بررت إرسال الرسالة إليه ، بأنها افتقدت حضوره في الانترنت ، وأن مشاركاته قلت بشكل ملــــحوظ . رد عليها برسالة ، شكرها فيها ، وذكر أن قلة مشاركته في الانـــترنت ، تعود لتخرجه من الجامعة ، وانشغاله بالبحث عن وظيفة . ختم الرسالة ، بالدعاء لها بالتوفيق في دراستها ، وحياتها المستقبلية .
لغة الرد في رسالته كانت باردة . لم يكن بها احتفاء ، أو حماس ، أو تشجيع من أي نوع .. فضلاً عن أنها لم تشتمل على أي مفردة حميمة . قلق صار يساورها ، وتكدر خاطرها .. لكنها عزت ذلك لطبيعته الجادة ، أو ربما أنه يرى أن التزامه الديني ، يمنعه من أن يستخدم لغة غير رسمية ، وكلمات مجاملة ، مع امرأة ليست من محارمه . وقفت عند عبارته ، التي تمنى لها فيها التوفيق في حياتها المستقبلية . هي الآن في آخر سنتها الرابعة في الكلية ، وبقي على تخرجها سنتان . هل هــــذا هو ( المستقبل ) ، الذي تمنى لها التوفيق فيه ..؟ حين أعادت قراءة الرسالة ، وجدت أنه قد أشار إلى دراستها ، وتمنى لها التوفيق فيها أيضاً .. إلى جانب ( حياتها ) ، المستقبلية .
طــــــافت في ذهنها خــواطر سيئة ، وقلبت أفكاراً سلبية : هل كانت حساباتها خاطئة .. أكانت سنوات من الوهم ..؟ ليس أقسى ، وأكثر فجيعة ، من أن تراهن على وهــم . تمــــضي سنوات عمرك .. تراه إلى جانبك ، بناءً عالياً ، صنعته من شوق ، وحب .. وتحسبه مشروع حياة ، ثم تفيق ذات صباح ، فلا ترى إلا سراباً ، وتتلمس .. وليس ثمة شيء . أمس رفــــضت العريس الثامن ، الذي يتقدم لخطبتها . أغلبهم زملاء في الكلية ، من دفعات سابقة ، تخرجوا أو على وشــك التخرج . متفوقون ويغلب على سلوكهم المحافظة والانضباط الشديد .
علامة الاستفهام كبرت : هل فرّطت بمستقبلها ( الحقيقي ) ، متعلقة بسراب ..؟
تتابع على خاطرها ، أسماء الشباب الذين تقدموا لخطبتها .. ورفضتهم . أكثرهم تدور أحاديث الطالبات الخاصة حولهم . لا تتذكر أن واحدة من الطالبات ، التي كانت توزع عليهن نسخاً من مقالات ( شهاب الإسلام ) ، تحدثت عنه بإعجاب ، ولو بطريقة عابرة .. رغم أن بعضهن يتبنين آراءً ، أكثر تطرفاً مما يطرح . تساءلت في سرها بمرارة : " كيف ربطت مستقبلها ، وعلقت قلبها ، بمعرف مجهول في الانترنت " ..؟ كيف لو عرفت زميلاتها ، أنها رفضت مستقبلاً لها ، مع خالد ، ومحمد ، وناصر ، وفهد ، وعبد الكريم .. من أجل شهاب الإسلام ، الذي يتمنى لها ( التوفيق في حياتها المستقبلية ) ..؟ لكن مع من ..؟ سؤال انغرز في قلبها ، مثل مخيط غار في كرة صوف . تعوذت من الشيطان ، وهي تفتح إحدى الصفحات الداخلية لكراسة محاضراتها ، وتتأمل عبارة كتبتها ، قبل سنتين ، بأكثر من لون : " شهاب الإسلام .. أضأت قلبي ..! " . إلى جانب العبارة في أسفل الصفحة ، ألصقت قصاصة مقال ، لشهاب الإسلام عنوانه : عائشة الصالح .. قبس من نور يضيء دهاليز كلية الطب " .
مستقبلها الذي جعلت شهاب الإسلام أهم أركانه ، تشكل من حلمها .. بإنسان يؤمن برسالتها وليس بــ ( صورتها ) . نظرت إلى إقبال الزملاء ، على طلب الزواج بها .. أنه رغبة في جمالها ، وليس إيماناً برسالتها ، وتقديراً لدورها . في الكلية نفرت من زملائها ، الذين يتهافتون كالفراش ، على الجميلات . زميلاتها ممن لم يتوفر لهن حد أدنى من الجمال ، لم تشفع لهن جديتهن ومحافظتهن . التناقض بين المبادئ والأفعال ، بــــــــدا صارخاً ، وهي ترى فتيات يذبلن بين قاعات الكلية ، وممرات المستشفى .. لأن حظهن من الجمال قليل . بينما .. الرجال ، أصحاب الشعارات ، عندما لا يتوفر الجمال يبحثون عنه خارج الكلية ، لدى من هُنّ أكثر جاذبية .. بدعوى ( النقاء ) . تصبح الطالبة أو الطبيبة ، أقل نقاء وطهرانية ، إذا كانت أقل جــــــمالاً . هذا هو المبدأ ، الذي تتندر عليه ، هي وزميلاتها .. مقابل الهمس ، الذي يعلو أحياناً ، بين ( الذكور ) ، عن تبسّط طالبات الطب والطبيبات ، في علاقاتهن مع زملائهن الرجال .
هي الآن تخطو خطوتها الأخيرة ، نحو نهاية مشوارها . ست سنوات مرت ، هي المسافة بين حلم طفلة التاسعة ، ومشروع امرأة الرابعة والعشرين . إحساسها بالاخــتلاف ، أصبح أعلى وتيرة ، وأسرع إيقاعاً . ليس فقط نظرة أهل بيتها وأقاربها ، الذين تعودت عليهم منذ سنوات ، ينادونها بالدكتورة . لقد تغيرت صفتها الأكاديمية كذلك . لم تعد طالبة ، بل صارت تسمى Residence ، أو طبيب مقيم . أصـبحت تدخل غرف العمليات .. لتشارك في رفع الألم ، وتخفيف المعاناة عن الناس . منظر الناس يسلمون أرواحهم .. طواعية لآخرين ، ويأتمنونهم على أجسادهم ، لم تكن عملية سهلة . استشعرت المسؤولية ، إلى درجة أنها في بعض المرّات ، تتردد في اتخاذ الخطوة الأولى ، لخوض تجربة معادة ومكررة ، ضمن روتين عملها اليومي .
لم يكن ترددها في دخول غرفة العمليات .. الذي تفـــكر فيه ، ولا تعلنه ، نتيجة خوف ، أو رهاب من أي نوع . ثمة صراع يتنامى داخلها . فهي .. إزاء ما تراه من تقصير وتجاوزات ، تحدث في غرف العمليات .. تجاه المرضى ، طورت لنفسها معادلة صارمة : " يسلمك روحه .. تحافظ عليها ، يأتمنك على جسده .. لا تخونه " . معادلتها الصارمة ، التي لم تتهاون في تطبيقها ، كثيراً ما أدخلتها في جدالات حادة ، مع أساتذة وزملاء . اعترضت مرّة ، على وجـــود زميل بملابسه العادية في غرفة العمليات ، لأنه كما يقول ، وصل متأخراً ، ولم يجد الوقت لتبديل ملابسه . أصرت أن يبدل ملابسه ، أو أن العملية لن تبدأ ، كما هددت بالتصعيد .
في مرّة ثانية كانت المشكلة مع زميلة . جاءت إلى غرفة العمليات ، كما لو كانت تدخل قاعة أفراح .. كما تقول . المكياج طبقات ، والعطور أنواع . أبدت استياءها في البداية ، ولكن .. حينما بدأ المكياج يسيح ويختلط بأحمر الشفاه .. قررت أن تتوقف ، وتوقف كل شيء . لم يكن الوضع يسمح بأي نوع من أنصاف الحلول . تم استبدال الزميلة بأخرى ، لكن القصة خرجت من غرفة العمليات .. ووصلت العميد . لم تحصل محاسبة ، ولا لفت نظر . لكن أصداؤها وتداعياتها ، ظلت تتردد داخل الكلية ، عبر التعليقات الساخرة ، التي يتداولها الطلاب والأطباء : غرفة العمليات صار يطلق عليها ( قاعة الديسكو ) ، أما العملية نفسها ، فأصــــــبح اسمها .. بين الطلاب والطالبات ، ( حفلة الدي جي ) .
مسألة الانضباط المهني ، في غرفة العمليات ، تبدو يسيرة ، أمام موقفها الحاد والقطعي ، تجاه حماية خصوصية المرضى . حين يأتي دورها في الجدول ، لتكون ضمن الطاقم الطبي داخل غرفة العمليات ، تحدث حالة استنفار قصوى بين جهاز التمريض ، الذي سيتولى تجهيز المريض . التعليمات تنفذ بدقة ، بخصوص الأجزاء التي يمكن كشفها من جسم المريض ، الذي ستجرى له العملية . عندما يكون المريض أنثى ، تتابع شخصياً إجراءات تجهيزها لغرفة العمليات . في البداية واجهت إهمالاً ، أو تجاهلاً ، أو رفضاً من الأطباء .. بـــشأن طلباتها بهذا الخصوص . لكنها .. متسلحة بموقف شرعي وأخلاقي ، قاومت كل الضغوط ، وأساليب الإهمال والتجاهل . لم تكن تتردد في التعبير عن اعتراضها ورفضها ، لأي سلوك ترى فيه انتهاكاً لخصوصية مريض ، تحت أي تبرير . كثيرٌ من الألقاب والصفات ألصقت بها ، ويتم تداولها همساً ، بين بعض الأطباء مثل : ( حارسة العورات ) . تتصنع اللامبالاة أحياناً ، وتتظاهر بالقوة . لكن .. حين تخلو بنفسها ، يعتريها الضعف البــــــــشري .. فتــــــــــبكي . تحدث نفــــــسها : " الجميع يـــؤثر الســـــلامة " ، حتى ( الطيبون ) . في إشارة منها للأطباء المتدينين .
كان قد بقي أمامها أسابيع لتتخرج وتصبح طبيبة عامة . لكن .. كأن قدرها يأبى إلا أن تنهي مسيرة حياتها الأكاديمية ، بحدث غير اعتيادي ، يضاف إلى سجلها الحافل بالمواجهات والمصادمات والمواقف المدوية . كان يوم اثنين ، خرجت من البيت صائمة ، جدولها اليوم مزدحم . أوصلها السائق إلى المستشفى ، متأخرة خمس دقائق . صعدت إلى القسم ، وأنهت تحرير بعض الأوراق . كانت هناك جولة على بعض المرضى ، حرصت أن تنهيها قبل التاسعة ، حيث أن موعد عملية ، ستكون ضمن طاقمها .. سوف يكون السـاعة التاسعة وعشرون دقيقة . لم تنس أن تتصل بجهاز التمريض ، لتؤكد على تجهيز المريض . صار لها عادة أن تصلي ركعتين ، قبل كل عملية تدخلها .. فاتجهت إلى مكتبها وَصلّت . وصلت غرفة العمليات في التاسعة وخمس دقائق . مريضة اليوم شابة في بداية عشريناتها ، تشتكي من فتق مزمن أسفل البطن . كانت المريضة قد وصلت ، فاتجهت إليها وطمأنتها ، وهدّأت من قلقها . بعد عشر دقائق ، اكتمل وصول الطاقم الطبي .
بدأت العملية ، ومرّت النصف ساعة الأولى بشكل اعتيادي . انتبهت بعد ذلك ، أن الطبيب ومساعده ، يتبادلان إشارات بالأعين . لم تفهم طبيعة هذه الإشارات ، ولم تجد لها تفسيراً .. إلا حين لاحظت أنهما يتعمدان إزاحة الغطاء عن بعض أجزاء جسد المريضة ، بطريقة تبدو عفوية . توترت .. لم يكن بمقدورها أن تفعل شيئاً ، سوى ملاحقتهما ، وتغطية الأجزاء التي تتعرض للكشف . انتهت العملية ، لكنها شعرت بإحباط شديد . مبدؤها : " يأتمنك على جسده .. ولا تخونه " . ، صار يلح عليها بأن تفعل شيئاً . في طريقها لغرفة تغيير الملابس ، قلبت الأمور ، فرأت أنه ليس لديها الكثير لتفعله . سلوكهما بدا عفوياً وتلقائياً ، ولا يمكن إدانتهما بأي شكل من الأشكال . أي تصعيد ، سيكون بالضرورة ضدها .
عندما انتهت من تبديل ملابسها ، غسلت وجهها واسترخت على أحد المقاعد . التوتر مع الصيام أرهقها ، والحدث زادها مرارة . مرت ربع ساعة ، شعرت أنها أكثر هدوءاً . نهضت وتوجهت خارجة من غرفة العمليات ، ثم خطر لها أن تمر على المريضة في غرفة الإفاقة ، لتطمئن عليها . حين أزاحت الستارة ، فوجئت بمنظر صدمها . المريضة ما زالت في غيبوبتها ، عارية تماماً .. الغطاء مرفوع عنها ، والطبيب ومساعده يتأملانها . صرخت :
- حسبي الله عليكم ..! هذا والله خيانة وإجرام ..
فوجئا بوجودها فارتبكا ، وحاولا استيعاب المفاجأة ، بالتظاهر بأنهما يقومان بإجراء روتيني ، لمتابعة حالة المريضة ، وذلك بالتهامس والإشارة لموضع العملية ، ثم إعادة تغطية المريضة . لم تنجح محاولتهما في تهدئتها ، أو الحد من انفعالها ، رغم أن الطبيب حاول الاستخفاف بها ، والظهور بمظهر الواثق من نفسه .. حين قال :
- روحي لبيتكم يا شاطرة .. أحسن لك .
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
قوانين المنتدى
مواقع النشر (المفضلة)