



-
عضو فعّـال
أ.د. سعود بن عبد الله الفنيسان جزاه الله خير
21/2/1429
28/02/2008
قال تعالى: "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ" [البقرة:158].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:
لقد كثر الكلام عن حكم زيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله في توسعة المسعى، حتى وصلت الحال بالبعض إلى الفتوى بعدم جواز العمرة، أو يتحلل المحرم باعتباره محصراً، أو إلزامه بفدية لسعيه في غير مكان السعي –في نظرهم- فأردت أن أدلي بدلوي بشيء من التفصيل لوجهة المجيزين، ومناقشة رأي المانعين، وهذا تفصيل لما سبق أن نشرته موجزاً في موقع (الإسلام اليوم) قبل موسم الحج الفائت، ويتلخص هذا البحث بالنقاط الآتية:
تعريفات للصفا –المروة-المسعى-الفرق بين الطوافين.
المسعى مشعر من مشاعر الله.
لمحة موجزة عن توسعة الحرم عامة، والمسعى خاصة.
المسعى هل يأخذ أحكام المسجد؟
منشأ الخلاف.
أدلة المجيزين والمانعين لتوسعة المسعى.
المناقشة.
الخلاصة.
التعريفات:
الصفا: قال الأزهري في تهذيب اللغة: (الصفا والمروة جبلان بين بطحاء مكة والمسجد). وكذا قال ابن منظور في لسان العرب، وقال ابن الأثير في النهاية: (الصفا أحد جبلي المسعى)، وقال الشاعر (الأعشى) يهجو عمير بن عبد الله بن المنذر:
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا *** ولا لك حق الشرب من ماء زمزم
وذكر أبو إسحاق الحربي في كتابه المناسك أن الصفا يمتد (من طرف باب الصفا إلى منعرج باب الوادي.. وأن طرفاً من جبل أبي قبيس يتعرج خلف جبل الصفا)، وهذا يدل على أن جبل الصفا ملتصق بجبل أبي قبيس، وأنه جزء منه، وتمتد مساحته في التوسعة الشرقية إلى موضع قصر الضيافة، وكانت تغطي هذا الجبل على قاعدته وجوانبه وعلوه وأسفله إلى موضع السعي دور وبيوت وأسواق.
ويمتد شمالاً إلى منعطفه نحو البطحاء في أصله وقاعدته الغربية جنوباً إلى منعرجه نحو أجياد الصغير (موقع قصر الضيافة).
المروة: قال ابن منظور في اللسان: (المروة حجارة بيض براقة، وجبل بمكة شرفها الله تعالى) وعامة كتب الفقه والمعاجم تنص على أن الصفا جبل صغير يقع في سفح جبل أبي قبيس والمروة جبل صغير يقع تحت جبل قعيقعان باتجاه باب الفتح اليوم- موضع سبيل ماء زمزم.
المسعى: اسم مكان للسعي بين جبلي الصفا والمروة الذي نص عليه قوله تعالى: "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ..." [البقرة:158]. ويطلق لفظ المسعى على (بطن الوادي-المسيل). مكان الرمل بين الميلين- وهذا من باب تسمية الجزء وإرادة الكل، وإلا فهذه الآية وفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام وقوله: "... اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" تنص على وجوب استيعاب السعي مسافة ما بين الجبلين.
الفرق بين الطوافين: لقد سمَّى الله المسعى طوافًا (... فلا جناح عليه أن يطوف بهما) غير أن الطواف بالمسعى غير الطواف بالبيت، يقول ابن الهمام الحنفي المتوفى (681هـ) في كتابه (فتح القدير) (2/460): والفرق بين الطواف بـ(البيت) والسعي أن الطواف دوران لا يتأتى إلا بحركة دائرية، فيكون المبدأ والمنتهى واحداً بالضرورة.
أما المسعى فهو قطع مسافة بحركة مستقيمة، وذلك لا يقتضي العودة إلى بدئه.
المسعى مشعر من مشاعر الله:
إن الله سبحانه حدَّد المشاعر لخليله إبراهيم عليه السلام، وسماها الله مقاما، وأمر الأنبياء باتباعها والوقوف عند حدودها، فقال: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". ومقام إبراهيم فُسِّر بأنه موضع القدمين له حينما كان يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل، كما قال تعالى: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [البقرة:127]. وموضع القدمين اليوم موضوعة داخل زجاج بلوري مقابل باب الكعبة. والمراد باتخاذه مصلى: أداء ركعتي الطواف خلفه وهذا قول جمهور المفسرين. وفسر بعض العلماء (مقام إبراهيم) بالحرم كله، أي ما بين الأميال مما يحرم فيه قتل الصيد وقطع الشجر والظلم والقتال، وليس المسجد فقط الذي في جوفه الكعبة ومحاط بالجدران، وقد بوَّب الإمام البخاري في صحيحه: (باب من صلى ركعتي الطواف خارج المسجد)، وطاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد صلاة الصبح، فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى (الأبطح)، وأخرج البخاري بإسناده عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها وهو بمكة لما أراد الخروج: "إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون، ففعلت ذلك فلم تُصلِّ حتى خرجت" ومن هذا الحديث أخذ جمهور العلماء أن من نسي ركعتي الطواف قضاهما حيث ذكرهما في حل أو حرم.
وقال ابن المنذر: احتملت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لآية "واتخذوا مقام إبراهيم مصلى" حين صلى ركعتي الطواف خلف المقام أن تكون صلاة الركعتين خلفه فرضاً، ولكن أجمع أهل العلم على أن الطائف تجزئة ركعتي الطواف حيث شاء. وليس ذلك أكثر من صلاة مكتوبة، ولعل الخلاف مبني على ما هو المراد بـ(المسجد الحرام)، فتبين أن (مقام إبراهيم) و(المسجد الحرام) فيهما قولان:
الأول: أن المسجد الحرام هو الذي وسطه الكعبة، والمحاط بالجدران ومقام إبراهيم: موضع القدمين لخليل الله إبراهيم عليه السلام.
الثاني: أن المسجد الحرام ومقام إبراهيم هو الحرم كله الذي يحرم فيه قتل الصيد وقطع الشجر، فمعظم مساكن ومساجد مكة في هذا القول داخلة في المسجد الحرام تضاعف فيها الحسنات.
لمحة موجزة عن توسعة الحرم عامة والمسعى خاصة:
كان المسجد الحرام منذ أن بناه خليل الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام لم يجرؤ أحد على السكنى بجواره، وإنما اتخذ الناس منازلهم في الشعاب ورؤوس الجبال تعظيماً له حتى جاء الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم (قصي بن كلاب)، فأذن للناس البناء حوله وأمرهم أن يبنوا منازلهم على شكل دائرة تحيط به من جميع الجهات، وأن يتركوا بين كل بيتين طريقاً يوصل إلى الكعبة، وهكذا كانت العرب تجعل بيوتها مدورة حتى لا تشبه بناء الكعبة، ولم يزيدوا ارتفاعها عن سبعة أذرع، حتى لا تعلو بيوتهم الكعبة تعظيماً لها.
وكان المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر صغيراً لا تتجاوز مساحته (2126م2) ولم يكن له جدار يحميه، وكانت الدور محيطة به وأبوابها مشرعة عليه، وبقي كذلك إلى زمن عمر بن الخطاب سنة 17هـ لما جاء (سيل أم نهشل) ودهم الكعبة، وأزاح المقام عن مكانه، وانهدمت بعض جدران المسجد، فأخذ الناس (المقام) وألصقوه بباب الكعبة، فذعر الخليفة بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء فسأل الناس من يعرف مكان مقام إبراهيم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن أبي وداعة: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين لقد قسته بمقاط (حبال) عندي، ثم قال له: اجلس عندي، وأرسل من يأتي بها. فلما جيء بها قاسوا ما بين الكعبة وموضعه قبل السيل فوضعوه في مكانه اليوم، ثم أمر الخليفة أن تشترى دور يوسع بها المسجد، فاشتريت فأدخلت فيه، ومن لم يرضَ من أصحاب تلك الدور أخذ ثمن داره فجعل في خزانة الكعبة يأخذه هو أو ورثته متى شاء وقال لهم: (إنما نزلتم على الكعبة فبنيتم في فنائها ولم تنزل عليكم. ثم أمر أن يحاط المسجد ببناء قصير، وبلغت مساحة توسعة عمر بن الخطاب هذه (3613م2).
وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 26هـ قام بشراء عدد من الدور المجاورة للمسجد، واتخذ له أروقة مسقوفة بعد أن كان فضاء مكشوفا، وبلغت مساحة المسجد في عهده (4482م2).
وفي عهد عبد الله بن الزبير بعد أن احترقت الكعبة عام 65 من الهجرة لما رماها الحجاج بالمنجنيق، فزاد ابن الزبير من مساحة المسجد زيادة، كبيرة حيث بلغت مساحتة في عهد (7465م2).
وفي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان وسع في المسجد حتى بلغت مساحته (10270م2) وأتى بأساطين (أعمدة) الرخام من الشام ومصر، وسقفه بخشب الساج المزخرف، وجعل على رؤوس الأساطين صفائح الذهب، وفرش أرضية الحرم بالرخام.
وفي عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور عام 137هـ زاد في المسجد زيادتين كبيرتين من الجهتين الشمالية والغربية حتى بلغت مساحته (12512م2).
وفي عهد الخليفة المهدي العباسي جرى توسعتان كبيرتان للمسجد والمسعى الأولى، هدم فيها دور ألحقت في المسجد أعلاه وأسفله وشقه الشامي الذي يلي دار الندوة، وضاق شقه اليماني الذي يلي الصفا، وكانت الكعبة في شق المسجد غير متوسطة، وذلك أن الوادي كان داخلاً بالمسجد، وكانت الدور وبيوت الناس من ورائه، وكان الطريق من المسجد إلى الصفا في بطن الوادي، ثم يمر بزقاق ضيق حتى يخرج إلى الصفا، وكان المسعى في موضع المسجد الحرام، وفي محل السعي بيوت مسكونة، فلما حج المهدي ورأى ذلك قال: لابد لي أن أوسعه حتى أوسط الكعبة في المسجد على كل حال، ولو أنفقت فيه جميع أموال بيت المال فأمر المهندسين فقدّروا ذلك وهو حاضر، فصرفوا الوادي عن المسجد، ثم نصبت الرماح على الدور من أول موضع الوادي (محل الرمل بالمسعى) إلى آخره، ثم ذرعوه من فوق الرماح حتى عرفوا ما يدخل بالمسجد من ذلك وما يكون بالوادي فيه، فلما نصبوا الرماح جنبي الوادي وزنوه مرة بعد مرة ثم قدروه. وبلغت مساحة المسجد والمسعى في عهده (15491م2).
وفي عهد الخليفة المعتضد العباسي عام 281هـ أضيفت دار الندوة، وهي تمثل مساحة مربعة، وأصبحت رواقا من أروقة المسجد يتوسطها فناء صغير، وجعل لها باب يشرع إلى (سويقة) مسمى باب الزيادة.
وفي خلافة المقتدر العباسي أضيفت إلى المسجد الحرام داران للسيدة زبيدة، وأصبحت رواقا من أروقة المسجد يتوسطهما فناء صغير، وجعل لها باب يقال له (باب إبراهيم)، وكانت هذه آخر زيادة في مساحة المسجد الحرام، وبقي المسجد لا تغيير في مساحته تلك إلى بداية التوسعة السعودية الأولى عام 1375هـ ولم يشهد أي توسعة طوال حكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، وإنما اقتصر العمل خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة على الترميم والإصلاح والنظافة.
يتبع في الرد التالي
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
قوانين المنتدى
مواقع النشر (المفضلة)