ومن ههنا يعلم أن أهل الملل الثلاث: اليهود والنصارى والمسلمين يتفقون على تعظيم إبراهيم u والانتساب إليه، وقد أبطل الله دعوى اليهود والنصارى لذلك، وحكم بان أولى الناس بإبراهيم الذين اتبعوه على التوحيد، والبراءة من الشرك والمشركين، ومحمد r والمؤمنون معه، وذلك أن ملة إبراهيم هي: عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له، والبراءة من المشركين وما يعبدون، وهي التي أمر الله نبيه محمد r باتباعها، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] فالمسلمون هم الذين على ملة إبراهيم دون اليهود والنصارى، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}[الحـج:78]، وقد مضت عصور المسلمين على هذا الاعتقاد، وهو أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يقبل الله ولا يرضى دينا سواه، وأن كل من لم يدخل دين الإسلام الذي جاء به محمد r فهو كافر مستوجب لدخول النار والخلود فيها إذا مات على ذلك، ولهذا أوجب الله دعوة الناس كلهم من اليهود والنصارى وغيرهم إلى الإسلام وجهادهم لإعلاء كلمة الله ودينه ليدخل في الإسلام من شاء الله أو يخضع لسلطان الحق، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، ولم تزل الحرب سجالا بين المسلمين وأعدائهم والأيام دولٌ، وضمن الله نصره لمن نصره، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7-8]، وقد عظمت محنة الإسلام والمسلمين في العصور المتأخرة بغلبة النصارى على كثير من بلاد المسلمين ثم باستيلاء الموالين لهم من المنتسبين للإسلام، فلما زال عن بلاد المسلمين الاستعمار العسكري بقي الاستعمار الفكري في التعليم والإعلام وسائر نظم الحياة ينفذه من ربطوا أنفسهم بالتبعية لدول الغرب الكافر، وذلك بسبب جهلهم بحقيقة دين الإسلام، وبعدهم عن القيام بشرائعه وأحكامه في أنفسهم فضلا عن حمل شعوبهم على ذلك؛ فأذلهم الله وسلط عليهم دول الكفر والطغيان دولة الأمريكان تعدهم وتوعدهم وتمنيهم، وجعلت لنفسها الوصاية على بلادهم والتدخل في شؤونها الداخلية باسم "هيئة الأمم المتحدة"، ودولة الأمريكان هي المتحكمة في الحقيقة فجعلوها مرجهم يتحاكمون إليها في قضاياهم، وأبرز مثال لذلك القضية الفلسطينية لم تستطع الدول العربية والإسلامية حلها، ولا حل لها إلا بجهاد دولة اليهود من خارج فلسطين، وهذا لا ينتظر ممن تقدم وصف حالهم، ولكن قد قال الله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] فهذا وعد من الله والله لا يخلف الميعاد، ولا ينتظر النصر إلا بشرطه المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7-8].
ومن آثار احتلال النصارى لبلاد المسلمين عسكريا في السابق، وتنفيذ مخططاتهم على أيدي المتولين لهم في الحاضر لم يكتف الأعداء وأولياؤهم من المنتسبين للإسلام بما نشروه في مجتمعات المسلمين من أنواع الفساد والانحرافات، وقد اتخذوا المرأة أداة لذلك منذ بداية الاستعمار وإلى اليوم باسم حقوقها وحريتها، وكذا ما وضعوه من القوانين التي جعلوها بدلا من شرع الله فحكموا هذه القوانين، وفرضوا التحاكم إليها، لم يكتفوا بهذا وذاك حتى طمعوا في إفساد عقيدة المسلمين في أصل دينهم بطريقة ماكرة فلذلك روَّج لها المنافقون على علم، وقبلها كثير من جهل المسلمين لجهلهم بحقيقتها؛ بل وجهلهم بحقيقة دين الإسلام، وهذه الطريقة الماكرة الخبيثة هي ما يسمى : بـ "دعوة التقريب بين الإسلام والنصرانية"، أو " دعوة التقريب بين الأديان"، أو "وحدة الأديان"، أو "توحيد الأديان الثلاثة"، أو "الإبراهيمية"، أو "الملة الإبراهيمية"، أو "الوحدة الإبراهيمية"، أو "وحدة الكتب السماوية"، ومن عباراتهم عن هذه الدعوة "الإخاء الديني"، و "نبذ التعصب الديني"، و "الصداقة الإسلامية المسيحية"، و"التضامن الإسلامي المسيحي ضد الشيوعية" أو "ضد الإلحاد" .
وكل هذه الأسماء والعبارات من لبس الحق بالباطل، ومن زخرف القول لتزيين الباطل، وقد يمعنون في الخداع والتلبيس فيعبرون عن هذه الدعوة بـ "حوار الحضارات" أو " حوار الأديان"، والغاية من هذه الدعوة أحد أمرين:
1- احترام الأديان الباطلة، أو احترام ما يسمى بالأديان السماوية كاليهودية والنصرانية، وذلك بعدم الطعن فيها، وبترك الجهر ببطلانها، وترك إطلاق اسم الكفر على من يدين بها، وهذا ما يعبر عنه بعضهم بـ " التعايش السلمي بين أهل الملل الثلاث".
2- الاعتراف بصحتها، وبأنها طريق إلى الله كالإسلام، ومعنى هذا أن كلاً من اليهود والنصارى والمسلمين لا فرق بينهم إذ كل منهم على دين صحيح.
وهذه حقيقة الوحدة المزعومة، وبهذا يكونون إخوة فلا عداوة ولا بغضاء؛ بل لا دعوة ولا جهاد، والقول بهذه الوحدة كفر بواح، وهو معدود في نواقض الإسلام.