الحمد لله الذي أنزل السحاب وأجرى الأودية والشعاب ، ونشر رحمته من بعد ما قنطوا ،
والصلاة والسلام على من استغاث فأُغيث واستسقى فسُقي
ودعا الله بالمطر فلم ينزل من منبره إلا ولحيته تقطر من ماءه !
ثم أما بعد :
في العطلة الصيفية الماضية أخذت ترما صيفيا
لا لمواد حملتها معاذ الله ولا لتأخر في سنيّ عمري
ولكن لتخفيف العبأ والساعات التي تقصم فقار ظهرك ... كان الجو حارا نهارا ومساءً وعصرا وظهرا وفجرا أيضا
رياحٌ محمّلة بالأتربة وهواء له حفيف مخيف؛ أخرج في الصباح الباكر فلا أجد إلا الغبار الذي يعلو زجاج سيارتي
فأضغط على الماء والمساحات فيتحول التراب إلى طينٍ لازب أحوقل وأسترجع وأسأل الله أن يرحمنا برحمته..
وكنت عندما أخرج من جامعتي في الظهيرة أرى رمال النفود كأنها ألسنة نار متوهجة
فأتخيل لو سقاها الله بغيث من عنده فماذا سيكون حالها ؟!
ولا أطيل النظر إليها لأنها تشعرني بالحرارة فوق حرارة الجو فوق حرارة السيارة التي أركبها
فوق حرارة نفسي وضيقها على هذا الحر الشديد !
وما بين طرفة عينٍ وانتباهتها يبدّل الله من حالٍ إلى حالِ
فأصبحت تلك الرمال غاية في الحسن وآية في الجمال فرائحة المطر التي تنبعث منها
والعشب الصغير الذي يكسوها يجعل منها جنة غناء وروضة فيحاء وجداول الماء من حولها تشعرك بالرحمة الإلهية التي أنزلت عليك بالفعل !
وتحركت الوديان بماءٍ منهمر وتحرك بعدها وادٍ كبير بل هو أكبر وادٍ في الجزيرةِ العربية بل هو أكبر وادٍ جافٍ في العالم...
أرأيت البحر ؟
أم نظرت إلى النهر ؟
أم شاهدت فيضان ؟
إنه أعظم من هذه كلها فالبحر مخلوق منذ أن جعلت الدنيا ولا جديد فيه ، والنهر كسابقه ، والفيضان غضب لا نود رؤيته
وأما ودياننا التي مشت فهي ترقص بين الرمال وتشق التراب في منظرٍ بديع قلّ أن يتكرر ويندر أن يُرى
فمن الصعب أن تتخيل مهما كان خيالك واسعا أن هذه الصحراء القاحلة والمفازة المخيفة والكثبان الرملية العتيدة سيجري بينها نيلٌ عظيم
ليكوّن بحيرة ـ أعظم ـ بين الرمال الصفراء وتحت الجبال والصخور
كنت أنظر إلى الوادي وهو يمشي على أشده وكان بجانبي شيخ طاعن بالسن ينظر كما أنظر ويتعجب كما أتعجب
فالمنظر العجيب قد أخذ بلب الصغير والكبير والرجل والمرأة بل لو نطقت العجماوات لقالت : سبحان الله ما أعظم جوده !
وبعد قليل من الوقت انتبهت لهذا الشيخ فسلمت عليه ـ وصبّحته بالخير ـ فرد بتحيةٍ هي أحسن من تحيتي وحياني بكل حفاوة
فأخَذتْ هذه الحفاوة بمجاميع قلبي لكي أقبل رأسه بعدها !
ابتسم لي ثم قال بلهجته القصيمية المـكسـرة: (الله ياولدي إذا عطى عطى ، واللي عند الله مهوب بشوي) !
يالهذه الكلمة المفعمة بالإيمان المغدودقةِ بالصدق، نعم... الله عز وجل إذا منّ على عباده فهو الكريم الذي ليس بعده كريم
وهو إذا أعطى فإنما يعطي من خزائن لا يفنيها كثرة السؤال ولا يقللها ما يذهب منها بل لو قام الإنس والجن فسألوا الله
من خيراته فأعطى لكل واحدٍ مسألته ما نقص ذلك من ملكه شيء إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البـــحـــر...
وقد أصاب الناس القنوط فيما مضى من سنين حتى أتت شرذمة زعمت أنها ستغرق الديار بالأمطار ـ قرأت هذا بنفسي في أحد المقالات ـ
وأنها ستنبت الأرض وأنها ستحل قضية الجفاف وأنها .... وأنها ....
وقد صدق الناس هذا وتوكلوا على الشرذمة وفوضوا الأمر لغير خالقه !
فماذا كانت النتيجة ؟
لقد سُقينا.... نعم ....ولكن سُقينا الغبار والتراب الذي ملأ أفواهنا وضيّق صدورنا ... وخنس بعدها من تحدّى؟
ولا يظن القارئ أنني لا أؤمن بقضية الإستمطار أو أجرّم من يؤمن بها .. بالعكس أنا أؤمن بها وأؤمن بكل شيء فيه مصلحة للإنسان في دنياه
فربنا قال : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}البقرة29
وليس بعد قول الله قولٌ لأحد !
ولكن القضية أننا يجب أن لا نتوكل على الإستمطار وأن لا نعقد عليه الآمال والتطلعات ونكف أكفنا عن دعاء ربنا عز وجل..
وفي هذه السنة عندما توجهت القلوب للحي القيوم واشرئبت الأعناق وانقطعت الأسباب وأيقن الناس أن لا ملجأ من الله إلا إليه
... أمر الله عز وجل السماء أن تبتسم للأرض
التي طال شوقها وذبل عودها ... فتعانق الحبيبان وتضام العاشقان على أوتار : (اللي عند الله مهوب بشوي)
تحياتي.
أهديكم ذا الصور من قلب الحدث
انظروا إلى النهر الذي يمشي بين الرمال ، سبحان الله
مواقع النشر (المفضلة)