مر شهر كامل على وفاة بواب المدرسة (أبو دواس) وذهبت لأزور نهلة في بيتها الملحق أصلاً في المدرسة وقد وعدتها أن أحضر معي الغداء الخاص لها ولأطفالها مع بعض الهدايا والألعاب قدمها لهم صاحب أحدى محلات الألعاب (حامد الحمد) رجل من كبار أهل الخير

ويعمل إمام لجامع المجمع القروي الذي نقطنه


تجاذبت الحديث مع نهلة وكانت لا تفتر من الحديث عن زوجها حتى إنها التفتت إلي قائلة : اتصلي برقم أبي دواس الذي في جوالك!!(اغديه يرد)
قلت لها: نهلة أجننتِ!!


- اصدق انه مات ولكن لا تحرميني من شعور الاتصال به!! اتصلي أرجوك فقط أريد أن اتصل وحتى لو كان الهاتف مغلق!! أريد فقط أن استمتع باسمه وهو ظاهر على شاشة التلفون!!


وهي تمسح الدموع عن خديها و تنتحب ...
تمزق قلبي من الهم فما لذي يمكن لي أن أفعله أمام أرملة مسكينة تفجع بوفاة زوجها وتيتم أطفالها وتتحمل مسؤولية هي أكبر من حجمها حقيقتاً ومن عمرها .


قلت لها وأنا أحتضن طفلتيها
: نهلة يا حبيبتي إن الله أختاره شهيداً وقد شاهدتيه في رؤيا قبل أسبوع يقول لك أنني حي ارزق وفسرها لك الشيخ أن الله تقبله شهيداً..لا تكوني أنانية وأفرحي له بالنعيم المكتوب عند ربه ..أم أنك تغارين من الحوريات؟؟.


قالت: أوه غاليتنا ..... اوه غاليتنا....عندما حصل الحادث كدت أن أجن وأنا أشاهد زوجي ينزف أمامي تصدقين اتصلت بالإسعاف وبعد عناء رد علي موظف أجنبي وأخبرني أن الحوادث في قريتنا ليست من اختصاصهم بل هي من اختصاص إسعاف قرية وردة الحناء
ثم عاودت الاتصال بإسعاف قرية ( وردة الحناء) فرد علي موظف ليخبرني إن الحوادث في قريتنا من اختصاص إسعاف المجمع القروي

ظلت تردد: كدت أن أجن

كدت أن أجن .... وزوجي ينزف أمامي ويصارع الموت – تساقطت دموعها الساخنة وهي تعتصر من القهر-


لماذا نترك ضحية لمزاجية موظف إسعاف كسول لماذا لا يتم تنظيم هذا الأمر !!


أكملت بغيض : لماذا لا يوجد رقم موحد لاستقبال اتصالات الإسعاف وليقم صاحب الرقم بتوجيه السيارات إلى المكان المناسب ....استمرت تحكي بقهر:
ظل ابو دواس ينزف وينزف


وبعد عناء أخرجه أحد الرجال ونقلة إلى المستشفى وأنا معه وتم عمل العملية وقال الطبيب لو تم إحضاره في بداية الحادث لما توفي .!!


قلت لها: أنه القدر يا حبيبتي فاحمدي الله على سلامتك أنت


قاطعتني : بل هو تقاعس سيارات الإسعاف وتهربها هو الذي قتل حبيبي.......هو الذي قتله........!
أنتِ لا تعرفينه يا أستاذة غالية –مثلي- لا تعرفينه !!


كم كان رائعاً!!


كم كان رقيقاً!!


أنصت لها وقد قتلني الهم لأني أعجز عن أن أقدم لها شيئاً وواصلت هي كلامها:


... سأبوح لك بسر..كنت دائماً ادعي التعب من الأطفال والأعمال المنزلية أمام زوجي فكان يسبقني بعد صلاة الفجر إلى المدرسة ويقوم بتنظيفها حتى لا أتعب أنا بالتنظيف ثم يقول لي : لا عليك يا نهلة لا عليك !!
تكفيك أعمال المنزل وسهرك مع الطفلة المريضة البارحة ....


كم كان حنون .جداً معي
واصلت كلامها وقد أصبح وجهها جامداً من الإحباط :

.أصبحت أتذكره كلما دخلت إلى هذه المدرسة. وإلى غرفة المخزن وأتذكر كلماته ولقد تعبت من تساؤل الصغيرتان عنه .


غصت الحسرة في قلبي وهناك كارثة حقيقية لا تعلم عنها نهلة – لقد أرسلت إدارة التعليم بعد تبليغنا عن وفاة البواب ابي دواس ..أن على نهلة أن تخرج من بيتها هي وأطفالها بعد انتهاء فترة العدة ليسكن فيه البواب الجديد.

كيف تتصادم الدنيا كلها مع أرملة شابة مثل نهلة !!


فقد وجدت نفسها فجأة في رحلة الحياة بلا زوج



وبلا بيت



وبلا سند.



وليس هناك راتب تقاعدي لزوجها فهو أصلا موظف على بند الأجر اليومي!! أي ان راتبه توقف منذ اليوم الذي مات فيه

لم أشأ أن أخبرها بذلك فأين ستذهب نهلة!!