6
قال شتربة: إني أسمع منك كلاماً يدل على أنه قد رابك من الأسد ريبٌ، وهالك منه أمرٌ.
قال دمنة: أجل، لقد رابني منه ذلك، وليس هو في أمر نفسي،
قال شتربة: ففي نفس من رابك؟ قال دمنة: قد تعلم ما بيني وبينك، وتعلم حقك علي، وما كنت جعلت لك من العهد والميثاق أيام أرسلني الأسد إليك، فلم أجد لك بداً من حفظك وإطلاعك على ما أطلعت عليه مما أخاف عليك منه.
قال شتربة: وما الذي بلغك؟ قال دمنة: حدثني الخبير الصدوق الذي لا مرية في قوله أن الأسد قال لبعض أصحابه وجلسائه: قد أعجبني سمن الثور؛ وليس لي إلى حياته حاجةٌ، فأنا آكله ومطعم أصحابي من لحمه. فلما بلغني هذا القول، وعرفت غدره ونقض عهده؛ أقبلت إليك لأقضي حقك؛
وتحتال أنت لأمرك. فلما سمع شتربة كلام دمنة، وتذكر ما كان من دمنة جعل له من العهد والميثاق، وفكر في أمر الأسد، ظن أن دمنة قد صَدَقَهُ ونصح له؛ ورأى أن الأمر شبيهٌ بما قال دمنة. فأهمه ذلك؛
وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي ولم آت إليه ذنباً، ولا إلى أحد من جنده، منذ صحبته؛ ولا أظن الأسد إلا قد حمل علي بالكذب وشبه عليه أمري: فإن الأسد قد صحبه قوم سوءٍ؛ وجرَّب منهم الكذب وأموراً هي تصدق عنده ما بلغه من غيرهم: فإن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار؛ وحملته تجربته على الخطأ كخطأ البطة التي زعموا أنها رأت في الماء ضوء كوكبٍ، فظنته سمكةً، فحاولت أن تصيدها، فلما جربت ذلك مراراً، علمت أنه ليس بشيءٍ يصاد فتركته.
ثم رأت من غد ذلك اليوم سمكةً، فظنت أنها مثل الذي رأته بالأمس، فتركتها ولم تطلب صيدها. فإن كان الأسد بلغه عني كذبٌ فصدقه علي وسمعه في، فما جرى على غيري يجري علي.
وإن كان لم يبلغه شيءٌ، وأراد السوء بي من غير علةٍ، فإن ذلك لمن أعجب الأمور. وقد كان يقال: إن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه ولا يرضى. وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط. فإذا كانت الموجدة عن علةٍ، كان الرضا موجوداً والعفو مأمولاً.
وإذا كانت عن غير علةٍ، انقطع الرجاء: لأن العلة إذا كانت المودة في ورودها، كان الرضا مأمولاً في صدورها. قد نظرت: فلا أعلم بيني وبين الأسد جرماً، ولا صغير ذنب، ولا كبيره. ولعمري ما يستطيع أحد أطال صحبة صاحب أن يحترس في كل شيءٍ من أمره، ولا أن يتحفظ من أن يكون منه صغيرةٌ أو كبيرةٌ يكرهها صاحبه؛ ولكن الرجل ذا العقل وذا الوفاء إذا سقط عنده صاحبه سقطةً نظر فيها، وعرف قدر مبلغ خطئه عمداً كان أو خطأً.
ثم ينظر هل في الصفح عنه أمرٌ يخاف ضره وشينه؟ فلا يؤاخذ صاحبه بشيءٍ يد فيه إلى الصفح عنه سبيلاً. فإن كان الأسد قد اعتقد على ذنباً؛ فلست أعلمه؛ إلا أني خالفته في بعض رأيه نصيحةً له؛ فعساه أن يكون قد أنزل أمري على الجراءة عليه والمخالفة له؛
ولا أجد لي في هذا المحضر إثماً ما: لأني لم أخالفه في شيءٍ إلا ما قد ندر من خالفة الرّشد والمنفعة والدِّين، ولم أجاهر بشيءٍ من ذلك على رءوس جنده وعند أصحابه؛ ولكني كنت أخلو به وأكلمه سراً كلام الهائب الموقر وعلمت أنه من التمس الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ منافع الرأي؛ وازداد فيما وقع فيه من ذلك تورطاً ، وحمل الوزر.
وإن لم يكن هذا، فعسى أن يكون ذلك من بعض سكرات السلطان: فإن مصاحبة السلطان خطرةٌ، وإن صوحب بالسلامة والثقة والمودة وحسن الصحبة.
وإن لم يكن هذا، فبعض ما أوتيت من الفضل قد جعل لي فيه الهلاك. وإن لم يكن هذا ولا هذا،
فهو إذاً من مواقع القضاء والقدر الذي لا يدفع عنه؛ وهو الذي يحمل الرجل الضعيف على ظهر الفيل الهائج؛ وهو الذي يسلط على الحية ذات الحمة من ينزع حمتها ويلعب بها؛ وهو الذي يجعل العاجز حازماً، ويثبط الشهم، ويوسع على المقتر ، ويشجع الجبان، ويجبن الشجاع عندما تعتريه المقادير من العلل التي وضعت عليه الأقدار.
قال دمنة: إن إرادة الأسد بك ليست من تحميل الأشرار ولا سكرة السلطان ولا غير ذلك، ولكنها الغدر والفجور منه: فإن فاجرٌ خوانٌ غدارٌ: لطعامه حلاوةٌ وآخره سمٌ مميتٌ.
قال شتربة: فأراني قد استلذذت الحلاوة إذ ذقتها: وقد انتهيت إلى آخرها الذي هو الموت؛ ولولا الحين ما كان مقامي عند الأسد، وهو آكل لحمٍ وأنا آكل عشبٍ فأنا في هذه الورطة كالنحلة التي تجلس على نور النيلوفر إذ تستلذ ريحه وطعمه، فتحبسها تلك اللذة؛ فإذا جاء الليل ينضم عليها، فترتبك فيه وتموت.
ومن لم يرض من الدنيا بالكفاف الذي يغنيه وطمحت عينه إلى ما سوى ذلك، ولم يتخوف من عاقبتها، كان كالذباب الذي لا يرضى بالشجرة والرياحين، ولا يقنعه ذلك، حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل، فيضربه الفيل بآذانه فيهلكه. ومن يبذل وده ونصيحته لمن لا يشكره، فهو كمن يبذر في السباخ.
ومن يشر على المعجب، فهو كمن يشاور الميت أو يسار الأصم.
قال دمنة: دع عنك هذا الكلام واحتل لنفسك. قال شتربة: بأي شيءٍ أحتال لنفسي، إذا أراد الأسد أكلي، مع ما عرفتني به من رأي الأسد وسوء أخلاقه؟ وأعلم أنه لم يرد بي إلا خيراً، ثم أراد أصحابه بمكرهم وفجورهم هلاكي لقدروا على ذلك فإنه إذا اجتمع المكرة الظلمة على البريء الصحيح،
كانوا خلقاء أن يهلكوه، وإن كانوا ضعفاء وهو قوي؛ كما أهلك الذئب والغراب وابن آوى الجمل، حين اجتمعوا عليه بالمكر والخديعة والخيانة.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال شتربة: زعموا أن أسداً كان في أجمةٍ مجاورةٍ لطريقٍ من طرق الناس؛ وكان له أصحابٌ ثلاثةٌ: ذئبٌ وغرابٌ وابن آوى؛ وأن رعاةً مروا بذلك الطريق، ومعهم جمالٌ، فتخلف منها جملٌ، فدخل تلك الأجمة حتى انتهى إلى الأسد؛
فقال له الأسد: من أين أقبلت؟ قال: من موضع كذا. قال: فما حاجتك؟ قال: ما يأمرني به الملك. قال: تقيم عندنا في السعة والأمن والخصب.
فأقام الأسد والجمل معه زمناً طويلاً. ثم إن الأسد مضى في بعض الأيام لطلب الصيد، فلقي فيلاً عظيماً، فقاتله قتالاً شديداً؛ وأفلت منه مثقلاً مثخناً بالجراح، يسيل منه الدم، وقد خدشه الفيل بأنيابه. فلما وصل إلى مكانه، وقع لا يستطيع حراكاً، ولا يقدر على طلب الصيد؛ فلبث الذئب والغراب وابن آوى أياماً لا يجدون طعاماً: لأنهم كانوا يأكلون من فضلات الأسد وطعامه؛ فأصابهم جوعٌ شديدٌ وهزالٌ، وعرف الأسد ذلك منهم؛
فقال: لقد جهدتم واحتجتم إلى ما تأكلون. فقالوا لا تهمنا أنفسنا: لكنا نرى الملك على ما نراه. فليتنا نجد ما يأكله ويصلحه.
قال الأسد: ما أشك في نصيحتكم، ولكن انتشروا لعلكم تصيبون صيداً تأتونني به؛ فيصيبني ويصيبكم منه رزقٌ. فخرج الذئب والغراب وابن آوى من عند الأسد؛ فتنحوا ناحيةً، وتشاوروا فيما بينهم،
وقالوا: مالنا ولهذا الأكل العشب الذي ليس شأنه من شأننا، ولا رأيه من رأينا؟ ألا نزين للأسد فيأكله ويطعمنا من لحمه؟
قال ابن آوى: هذا مما لا نستطيع ذكره للأسد: لأنه قد أمن الجمل، وجعل له من ذمته عهداً. قال الغراب: أنا أكفيكم أمر الأسد.
ثم انطلق فدخل على الأسد؛ فقال له الأسد: هل أصبت شيئاً؟ قال الغراب: إنما يصيب من يسعى ويبصر. وأما نحن فلا سعي لنا ولا بصر: لما بنا من الجوع؛ ولكن قد وفقنا لرأي واجتمعنا عليه؛ إن وافقنا الملك فنحن له مجيبون.
قال الأسد: وما ذاك؟ قال الغراب: هذا الجمل آكل العشب المتمرّغ بيننا من غير منفعة لنا منه، ولا رد عائدةٍ، ولا عمل يعقب مصلحةً. فلما سمع الأسد ذلك غضب وقال: ما أخطأ رأيك، وما اعجز مقالك، وأبعدك من الوفاء والرحمة؟ وما كنت حقيقاً أن تجتري علي بهذه المقالة، وتستقبلني بهذا الخطاب؛ مع ما علمت من أني قد أمنت الجمل، وجعلت له من ذمتي.
أو لم يبلغك أنه لم يتصدق متصدقٌ بصدقةٍ هي أعظم أجراً ممن أمن نفساً خائفةً، وحقن دماً مهدراً؟ وقد أمنته ولست بغادر به.
قال الغراب: إني لأعرف ما يقول الملك؛ ولكن النفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت؛ وأهل البيت تفتدى بهم القبيلة؛ والقبيلة يفتدى بها أهل المصر؛ وأهل المصر فداء الملك.
وقد نزلت بالملك الحاجة؛ وأنا أجعل له من ذمته مخرجاً، على ألا يتكلف الملك ذلك، ولا يليه بنفسه، ولا يأمر به أحداً؛ ولكنا نحتال بحيلةٍ لنا وله فيها إصلاحٌ وظفرٌ. فسكت الأسد عن جواب الغراب عن هذا الخطاب. فلما عرف الغراب إقرار الأسد أتى أصحابه،
فقال: لكن أنا في للملك شبعٌ وريٌ؛ ولحمي طيبٌ هنيٌ، وبطني نظيفٌ، فليأكلني الملك، ويطعم أصحابه وخدمه: فقد رضيت بذلك، وطابت نفسي عنه، وسمحت به.
فقال الذئب والغراب وابن آوى: لقد صدق الجمل وكرم؛ وقال ما عرف.
ثم إنهم وثبوا عليه فمزقوه.م إنهم وثبوا عليه فمزقوه.
وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنه إن كان أصحاب الأسد قد اجتمعوا على هلاكي فإني لست أقدر أن أمتنع منهم، ولا أحترس؛ وإن كان رأي الأسد لي على غير ما هم من الرأي في، فلا ينفعني ذلك، ولا يغني عني شيئاً. وقد يقال: خير السلاطين من عدل في الناس. ولو أن الأسد لم يكن في نفسه لي إلا الخير والرحمة، لغيرته
كثرة الأقاويل: فإنها إذا كثرت لم تلبث دون أن تذهب الرقة والرأفة.
ألا ترى الماء ليس كالقول؛ وأن الحجر لم يلبث حتى يثقبه ويؤثر فيه. وكذلك القول في الإنسان.
قال دمنة: فماذا تريد أن تصنع الآن؟ قال شتربة: ما أرى إلا الاجتهاد والمجاهدة بالقتال: فإنه ليس للمصلي في صلاته، ولا للمتصدق في صدقته، ولا للورع في ورعه من الأجر ما للمجاهد عن نفسه، إذا كانت مجاهدته على الحق.
قال دمنة: لا ينبغي لأحد أن يخاطر بنفسه، وهو يستطيع غير ذلك، ولكن ذا الرأي جاعل القتال آخر الحيل؛ وبادئٍ قبل ذلك بما استطاع من رفقٍ وتمحلٍ.
وقد قيل: لا تحقرن العدو الضعيف المهين، ولا سيما إذا كان ذا حيلةٍ ويقدر على الأعوان؛ فكيف بالأسد على جراءته وشدته؟ فإن من حقر عدوه لضعفه أصابه ما أصاب وكيل البحر من الطيطوى
مواقع النشر (المفضلة)