موطن الحضارة
الفترة الممتدة بين 6000-3500ق.م، أكدت الممالك السورية والمكتشفات على أن سوريا هي موطن الحضارات في المشرق فمثلا إن موقع الكرم في البادية السورية، قدّم دليلا على ممارسة الزراعة المروية عبر جرّ المياه من الينابيع أو الأنهار (الفرات). وهي من أوائل المواقع التي دجنت الحيوانات وعرفت الزارعة. ولعل الاستقرار الذي أمنته حياة الزراعة أدى إلى ابتكارات وتقنيات جديدة في كافة المجالات. وتنبغي الإشارة إلى أن مواقع المجتمع المشرقي استخدمت المعادن ولا سيما النحاس منذ الألف الخامس قبل الميلاد. ومع حوالي 4500 ق.م سوف نجد مواقع الجنوب الرافدي وتبعا لإشراطات البيئة الطميية والمستنقعية تعمد إلى تكييف الوسط الطبيعي بما يلائم احتياجاتها فقد قام سكان هذه المواقع بمكافحة ملوحة التربة، وتجفيف المستنقعات ومارسوا الزراعة المروية بإتقان، ولعل استخدامهم لتقنيات الري الصناعي حتّمت نشوء سلطة مجتمعية وبنى اجتماعية متطورة وهذا ما أدى إلى تأسيس أولي للقاعدة المادية الاجتماعية لنشوء المدن الأولى مع نهاية الألف الرابع فبل الميلاد.

وعلى هذا يقول برنيتيس: إن الفترة الممتدة بين نهاية الألف الرابع قبل الميلاد وبداية الألف الثالث قبل الميلاد (فترة قيام مملكة ماري)، تلعب دورا خاصا في تاريخ البشرية، ففي هذه المرحلة قامت سلطة الدولة التي هي نتاج حركة المجتمع وتطوره.
سورية وما حولها في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد 3500 ق. م:
مع حلول منتصف الألف الرابع، أصبحنا أمام محددات عدة أدت فيما أدته إلى نشوء المدن الأولى في سوريا والمشرق. فالتطور الاجتماعي الاقتصادي التجاري الذهني شكّل رافعة حضارية مستمرة منذ نشوء الزراعة حتى هذا العصر. فكان طبيعيا أن نصبح أمام مجتمعات مركبة ذات علاقات حياتية معقدة فرضت وجود سلطات سياسية ولو في طورها الابتدائي بالإضافة إلى بدايات التواجد المؤسساتي للفاعليات التجارية والاقتصادية والحرفية.

وكل هذا يندغم بشكل متجانس مع تضخم العمران والتمدن حيث بتنا في مواقع هذه الفترة نعثر على معابد ضخمة. ولعل مواقع الجناح الشرقي للمشرق العربي تؤكد ما ذكرناه آنفا، فمن موقع مدينة أوروك إلى أريد ومرورا بتبة غورا أما مواقع الجناح الغربي فنجد تل براك وتل حلف في الجزيرة السورية العليا ومواقع مدن حبوبة الكبيرة الجنوبية وعارودة وتل قناص. وتشير الأبحاث الأثرية والتاريخية إلى تشابه النمط المعماري لمعابد تلك المواقع فيما بينها. ويبدو وأن الخط الحضاري للمشرق العربي آنذاك تطور متزامنا بين المواقع الرافدية والمواقع الشامية وهذا ما يوثق في بواكير نشوء الكتابة في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد.
وبالاتجاه نحو الربع الأخير من هذه الألفية نجد ظهور الأختام الأسطوانية التي ابتكرت نتيجة الحاجة لها في التبادل التجاري والسلعي لكافة أوجه الحياة التجارية الزراعية والحرفية والحيوانية. حيث بتنا في هذه الفترة أمام أختام اسطوانية تخّتم البضائع وتحمل أسماء أصحابها.
الجدير ذكره هنا، هو أن مدينة حبوبة الكبيرة الجنوبية أنشئت على الفرات وفق مخطط مسبق ودقيق. وقد أحيطت بسور طوله 600 متر وعرضه ثلاثة أمتار. إن صفة المخطط المسبق للإنشاء والسور الواقي للمدينة سنجدها مكررة في نشوء مدينة ماري مع مطلع الألف الثالث وكذلك في تل الخويرة وإبلا وغيرها من الحضارات السورية القديمة.
وتشير الدراسات التاريخية إلى أن الواقع الديمغرافي في هذه الفترة كان يشمل السومريين والأكاديين، حيث يلاحظ تواجد أكادي إلى جانب السومريين منذ ذلك الوقت وهذا ما تؤكده معطيات الوثائق والاكتشافات الأثرية الحديثة[2].
ويشير الباحث برينتس إلى أن السومريين وحين جاؤوا إلى المشرق العربي /الرافدي (سوريا والعراق)/ في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، أكملوا ما كان بدأه العبيديون /4500 _3500 ق.م/ وقد دل على ذلك بأن الكتابة واللغة السومرية احتوت على كلمات كثيرة مقتبسة ممن قبلهم، بالإضافة إلى أن الكثير من أسماء الآلهة السومرية مأخوذة من لغات الشعوب التي سكنت الرافدين قبل السومريين. كذلك يشير الباحث إلى أن المدن السومرية كلها تقريبا تحمل أسماء غير سومرية وتعود في أصولها إلى الحضارات التي سبقت السومريين /العبيديون/ وغيرهم من الحضارات السورية في المنطقة.
وباطراد ومع اقترابنا من نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، فإننا نجد أن مدن المشرق الأولى تمتلك مصالح اقتصادية تجارية حتمت نشوء السلطة الزمنية بديلا عن سلطة المعبد بحيث بدأت تنظم فاعليات الحياة المشرقية بما يتلائم مع تطور المجتمع في مواقعه المتعددة. وسرعان ما نجد أنه مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، مثل بعض المدن في شمالي شرق سوريا: تل العشارة _ تل ليلان _ تل براك وغيرها من مدن سورية قديمة. ونلحظ ظهور الموازييك في معبدها كأول ظهور له في المشرق.
الجدير ذكره هنا.. هو أن في هذه الفترة كانت الكتابة تخرج من عالم الحساب والعدّ باتجاه نشوء الكتابات التصويرية ومن ثم تحّول الصورة إلي رمز له قيمة صوتية مجردة. بحيث أصبحنا أمام ظهور لكتابات تسجيلية اقتصادية الطابع تحمل فواتير وسجلات لمواد واردة أو صادرة عن المعابد. ومع مطلع الألف الثالث قبل الميلاد سوف نلاحظ أن مملكة ماري السورية بدأت إنشاء مدينتها وفق مخطط مسبق وداخل سور على الفرات الأوسط بادئة الخط الحضاري لسورية في عصر الكتابة.
يقول جان كلودمارغرون: "لقد سمح نهر الفرات لسورية أن تشرع بعملية التمدن، ذلك أنه يسّر لها التطور من خلال العلاقات التجارية انطلاقا من المدن السومرية في الألف الرابع قبل الميلاد. وهو دائما وأبدا وللأسباب ذاتها الذي ضمن تطور سورية الداخلية في الألف الثالث قبل الميلاد".
إنشاء مدينة ماري 2900 ق.م
مدن المشرق العربي مع مطلع الألف الثالث قبل الميلاد: مع حوالي 2900 قبل الميلاد سوف نجد أننا أمام ظهور لمدن جديدة، بالإضافة إلى استمرارية لمدن من العصر السابق. فإلى جانب أوروك نجد كيش _ أور _ لجش _ شوروباك _ أدب في الجناح الشرقي، في الجناح السوري فسنجد مملكة ماري وتل الخويرة بالإضافة إلى وجود مواقع ك ابلا وأوغاريت وغيرها من ممالك ومدن سوريا القديمة. أما البروفيسور مارغرون فيؤكد أن ماري حسب الاعتقاد القديم هي عاصمة سومرية ولكن الأبحاث الحديثة تظهر أن ماري تمتلك صفات خاصة بها والى جانبها صفات سومرية وسورية قديمة.

ولعل من أهم خصائص دورة حياة هذا العصر:
أولًا: حصول تطور في مجال العمران وتقنياته مما أدى إلى توسع المدن وتلبية النظام العمراني لحاجات السكان المادية والروحية.
ثانيًا: انفصلت السلطة المعتقدية عن المجتمع عمرانيا، بحيث أصبحنا أمام معابد مفصولة عن المحيط المديني ففي العصر السابق أبانت مواقع مدن أوروك وحبوبة الكبيرة الجنوبية وعارودة وقناص أن المعابد كانت تقام في أحياء خاصة. مع ملاحظة أنه عثر في مملكة ماري على معابد الألف الثالث ومعبد مرتبط بالقصر الملكي /قصر معبد/ الذي يعد من أكبر القصور في الممالك القديمة، ما يشي باستقلالية ما عن الخط المعماري الذهني الاعتقادي الذي كان سائدا
ثالثًا: في مجال الحياة الفنية أصبحنا في هذا العصر أمام ظهور لاتجاهات فنية جديدة، سواء في الأسلوب أو المعالجات أو مواضيع المجالات الفنية. كل هذا تحقق في الفسيفساء والنقش على الأختام وصناعة الفخار.
رابعًا: لعل من أهم ما يميز هذا العصر هو توطد دعائم السلطة الزمنية وانفصال السلطة المعتقدية عنها، ونشوء مؤسسات تعنى بأوجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية والحرفية.
يقول الباحث مارك لوبو: إن الإشغال البشري في سورية والمشرق العربي في الألف الثالث قبل الميلاد، كان أثره ملموسا في منحيين:

الأول في الزراعة
الثاني المتولد عن الأول والذي يتجلى في التجمعات المدنية وبناء الحضارات.
إن هذين المنحيين يتميزان في الانتشار الواسع والعميق بحيث بتنا أمام بنى اجتماعية واقتصادية لجماعات بشرية ومدن وممالك وصلت لمراحل متطورة في كافة المجالات التجارية والصناعية والفنية والاجتماعية وفي التنظيم والعلاقات والقوانين والتجارة وجميعها كانت من صفات مملكة ماري التي ارتقت بين الحضارات السورية القديمة.