سيادة القاضي ، بعد ما وضعنا القصيدتين بين أيدي عدالتكم ، سنتابع دفاعنا ، بكافة الأدلة والبراهين والحجج الدامغة ، والتي نثبت فيها ، بطلان إدعاء وكيل المدعي-الصنوبري- وبراءة موكلنا المتهم –ناصر الفراعنة-. إذ أننا نطرح سؤالاً : ما هي السرقة الأدبية ؟ وما معيار أن يكون الشاعر سارقاً ؟ أن هذا السؤال يا سيادة القاضي ، قد أجاب عنه أهل الاختصاص ، لا المتطفلين على الشعر والنقد ، يقول أبي الهلال العسكري في مؤلفه الصناعتين في الصفحة 202 وما بعدها، وهو الحسن بن عبد الله بن سهل من كبار أهل الأدب واللغة توفي عام 395 هــ في تعريفه للسرقة الأدبية ( قد أطبق المتقدمون والمتأخرون على تداول المعاني بينهم، فليس على احد فيه عيب ، إلا إذا أخذه بلفظه كله) ، وهذا يعني أن السرقة لا تكون إلا إذا أخذ الشاعر ممن سبقه اللفظ بأكمله ، واللفظ يدخل فيه المعاني والصور والتراكيب الشعرية ، وبالرجوع إلى النصين ، لا وجود للسرقة بمعناه الأدبي فلا الصور متشابه ولا المعاني ولا ألفاظ ، وإنما التشابه كان في القوافي ،وإليك الأمثلة:
قال الصنوبري : شجتك العيس حنت إثر عيسِ ممارسة المَرَوْرَى المرمريسِ
وقال الفراعنة : حائلاً رابع سنه مـن خيـار العيـس عيـس خفهـا لادرهمـت كنـه بالنـار محسـوس
ما وجه التشابه هنا ؟ هل الفكرة واحدة أم المعنى واحد ، الجواب بكل تأكيد وجه الشبه مفردة عيس ، بل أن الشاعر الفراعنة والمتهم في القضية ، قد فاق خصمه في الصورة الجمالية ، إذ شبه ركض ناقته وكأنها تطأ بقدميها النار فتزيد إسراعا من لظاها ، وهي كناية عن دافع السرعة.
قال الصنوبري : متى ما تهوِ إِحداها بسدْسٍ هوت حرف مغيبةُ السَّديس
وقال الفراعنة : ناقـتـي ياناقـتـي لاربــاع ولاسـديـس وصليني لابتي مـن وراء هـاك الطعـوس
الشاعر المتهم بالاتهام الباطل ، يذكر عمر ناقته ، وأنها في العمر المناسب والذي يساعدها على قطع المسافات الطويلة ، بينما الصنوبري تدور رحاه بين السدس والسديس، وقد جاء في القاموس المحيط معنى السدس والسديس بأنه (السُّدْسُ، بالضم وبضمَّتينِ: جُزءٌ من سِتةٍ، ـ كالسَّديسِ، وبالكسر: أن تَنْقَطِعَ الإِبِلُ أربعةً، وتَرِدَ في الخامِسِ،) وهذا يعني أنه لا توافق بالمعنى حتى وأن توافقت المفردات .
قال الصنوبري: لها من حيث ما وخدت لهيب لهيبُ النارِ يلهبُ في يَبيس وهذا البيت لا يوجد له مقابل في قصيدة الفراعنة لا في المعنى ولا في مفردة القافية .
قال الصنوبري: فلم تد دختنوس لها قتيلاً وأينَ دياتُ قتلى دختنوس
قال الفراعنة : نقشت خمساً من الخمس في يـوم الخميـس ليـت شعـري مـا ارادت بهـذا دختنـوس
والمتأمل في هذين البيتين يجد أن التشابه في أسم دختنوس ، ولا توافق في المعنى ، فالشاعر المتهم أراد من دختنوس إسقاط لمعنى مغاير تماماً عن ماذهب إليه الصنوبري ، مع العلم أن دختنوس أسم ، وقد جاء معناها في القاموس المحيط (بنتُ لَقيطِ بنِ زُرَارَةَ التَّمِيمِيِّ، وهي مُعَرَّبَةٌ، ـ أصلُهَا: دُخْتَرِْنُوشُ، أي: بنتُ الهَنِيءِ. سَمَّاهَا أبوها باسمِ ابْنَةِ كِسْرَى، ـ ويقال: دَخْدَنُوسُ، بالدالِ.) ، والأسماء كمفردات القوافيّ ، ليست محلاً للسرقة بأي شكل ٍ من الاشكال.
قال الصنوبري: ولا لمس الغرام حشاي إِلا تلقى ما التمست لدى لميس
وقال الفراعنة : سيدة هـاك القصـر أسمهـا الاول لميـس دونها سمـر الحناجـر بترهـا حـد مـوس
وهذا البيت كسابقيه ، لا وجود للتشابه في المعاني والصوّر ، وإنما في اسم لميس ، وقد وظفه الشاعر المتهم ، بمعنى يختلف عن بيت الصنوبري الغزليّ الصرف ، وهو أقل من أن يُلتفت إليه على اعتباره سرقة ، لأن السرقة كما قلنا وكما هو إجماع أهل الشعر والنقد لا يكون إلا في أخذ اللفظ كله–المعنى والتراكيب والصورّ- لا في المفردات والأسماء والقوافي.
قال الصنوبري: ونار الصب تذكو ثم تخبو ونارُ صبابتي نار المجوس
ويقول الفراعنة : كـم تمنـا إن معـه مثلهـا فتنـه بلـيـس كان يمكن قد قلـب نصـف إمتنـا مجـوس
التوافق كما هو واضح من البيتين في مفردة المجوس ، بينما الاختلاف في الصورّ والمعنى ، فالصنوبريّ يشبه نار صبابته كنار المجوس الدائمة بإشتعالها، بينما الشاعر المتهم استخدم المجوس كديانة ، تختلف عن ديانة امتنا الاسلامية، فما هو وجه الشبه يا ترى ...لا يوجد !
قال الصنوبري: ستبقيني لمن يبقى حديثا عروض حديث طسم أو جديس
ويقول الفراعنة : وطسم حدتها على حائـط المبكـى جديـس يـوم شقـت ثوبهـا بنـت عفـار شمـوس
وهنا أيضا التوافق في الأسماء والاختلاف في المعاني والصور ، فطسم كما جاء في القاموس المحيط ، هي قبيلة من عاد انقرضوا ، أو ما جديس فقد جاء في القاموس بمعنى أمير قبيلة ، وقد وظفها الشاعر المتهم بمعنى يختلف عن ما ذهب إليه الصنوبري ، إذ أن الصنوبري لا تزال رحاه تدور في محيط الغزل ، بينما موكليّ-المتهم- قد ذهب ابعد من ذلك ، إذ انه استعان بالأحداث التاريخية والتي صاحبت هذين الأسمين وإدخالهما في الغرض السياسي الذي بنيّت عليه القصيدة.
قال الصنوبري: فتاة حبها للقلب سلم ولكن دونها حرب البسوس
ويقول الفراعنة: في عيوني يكفـخ الطيـر ويطيـح الفريـس وانتهض جساس من دون خالتـه البسـوس
لك أن تتأمل يا سيادة القاضي ، في مفردة البسوس ، والتي وردت في كلا البيتين ، لا وجود للتشابه البتة ، فحرب البسوس أشهر الحروب التي مرت على جزيرة العرب، وأصبحت مضرب مثل لجميع الشعراء والأدباء ، فالصنوبري شبه حالة يأسه من الوصول إلى محبوبته ، إذ صوّر هذا اليأس وكأنه حرب ، توقد ناره الأعداء، على الرغم من أن هذا الحب ناره في الأصل برداً وسلاما ، وعلى العكس ما ذهب إليه الشاعر المتهم إذا أنه استعمل البسوس وعلاقة جساس بتلك المعركة ، على إسقاطات سياسية بحته تتوافق مع مضمون ومغزى النص. قال الصنوبري: ترى شمساً مقنعةً بليلٍ وخداً في غلالة خندريس
ويقول الفراعنة: كلهم من شـدة الجـوع راحـوا خندريـس بين غيبوبة مخدر وصحـوة عـرق سـوس
يعتقد وكيل المدعي ، بأن مفردة خندريس ، هي حكر على الصنوبري ، والحق أن مفردة خندريس مفردة معربة كما ذكر ذلك صاحب القاموس المحيط اذا أن الخندريس هو الخمر مشتق من الخدرسة ، ومع ذلك كله فقد نجح الشاعر المتهم في توظيف مفردة الخندريس بشكل أكثر جمالاً من الصنوبري والذي جعل الخد في غلالة الخمر ، وشتان بين الاثنين ، فالفراعنة استطاع أن يجعل من الجوع مفعول الخمر، يدفع بصاحبه إلى أن يثور بلا شعور ، وفي هذا توافق مع المعنى الذي قصده الشاعر المتهم .
قال الصنوبري: لهم خلقُ الأسودِ ممثلاتٌ على أمثال أخلاقِ التيوس
ويقول الفراعنة: وعيشتي مابين أسـوداً ولـو مانـي رئيـس خير من كوني رئيساً على شلقـة تيـوس
في هذا البيت ، يتحدث الصنوبري عن الأخلاق، بينما الشاعر المتهم يتحدث عن الرئاسة ، فالصنوبري يرى أن أخلاق الأسود تختلف عن أخلاق التيوس، بينما الفراعنة يرى أن الرئاسة على أمثال التيوس ليست مطمع ولا شرف ، بل أن تكون أسداً بين أسود لا أن يقال لك رئيساً على من هم أقل درجة من الأسود ، هو الفوز بعينه ، وهذا أيضا يتوافق مع الإسقاطات التي استعملها الشاعر المتهم ليعضد بها مضمون قصيدته ، ولا يوجد هناك تشابه في المعنى وإن وردت مفردة التيوس والأسود فهذه مفردات حق لكل الشعراء ، وهي من المسلمات ويعرفها كل من لا يفقه الشعر فضلاً عن من يدعيّ بأن الشعر مجال اختصاصه.
قال الصنوبري: للدن ظلت دنانير القوافي ترد عليهمُ رد الفلوس
ويقول الفراعنة: آفة المرء اثنتان الـف كـاس وحـب كيـس والنفوس اليا بغيـت اتعرفهـا ارم الفلـوس
هذا البيت كسابقيه ، لا نعلم ما وجه التشابه ، بل أن الجمال قد وظفه الشاعر المتهم وصدق إذا أن هناك نفوس ضعيفة ، قد ولد الجشع والطمع فيها ، حتى أصبحت لا ترى إلا المال ، وهي على أتم الاستعداد لأن تبيع مبادئها من أجل المادة ، ولا توافق ولا تشابه في المعنيين. إننا بعد هذا العرض ، وفي هذا الموضع ، نستذكر ما قاله أهل الاختصاص ، فهذه الآمدي في كتابه الموازنة الجزء الأولى ، الصفحة 346 ، يوجه رسالة ، لا بد أن تصل إلى المتطفلين على النقد ، حتى يعلموا أن أهل الاختصاص لهم بالمرصاد، وأهل الإنصاف قد أقفلوا الطرق المؤدية إلى أطماعهم الشخصية ، إذ يقول عن السرقة (إنما هي في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا في المعاني المشتركة بين الناس، التي هي جارية في عاداتهم، ومستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم، مما ترتفع الظنَّة فيه عن الذي يورده أن يقال: إنه الذي أخذه من غيره) إذ أن غاية التداول للمعاني بين الشعراء هي الابتكار في الصورة الفنية, حتى يحقق الاختلاف والتطور بين السابق واللاحق. والذي نخلص اليه من قول الآمدي ، إنه بمفهوم المخالفة إذا كانت المعاني مشتركة بين الناس فليست محل سرقة ، وعلى الرغم من أن المعاني التي جاء به الصنوبري تختلف بالكلية عن المعاني الذي جاء به الفراعنة ، فإنه من باب أولى توافق القوافيّ هو أيضا ليس من السرقة ، وعليه القول بأن الفراعنة قد سرق الصنوبري ، هو قولاً مردوداً على أهله لا يستند إلى دليل وإنما هو إدعاء باطل. وقد ذهب أبو هلال العسكري إلى ما ذهب إليه الآمدي بخصوص المعاني المشتركة ، وعلى افتراض وجود تشابه في المعاني بين الفراعنة والصنوبري رغم عدم وجود ذلك وهذا ما اثبتناه سابقاً ، يقول (أن يَكْسُوها ألفاظًا من عندهم، ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ويُورِدُوها في غير حليتها الأولى، ويزيدوها في حسن تأليفها وجودة تركيبها وكمال حِلْيَتها ومعرضها؛ فإذا فعلوا ذلك فهم أحق بها ممن سَبَقَ إليها، ولولا أن القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول، وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين) وهذا يعني أن المقياس في الجودة الفنية, هو قدرة الشاعر على ابتكار الصورة الجديدة، وليس التقدم أو السبق..
سيادة القاضي ..إننا وفي ختام مرافعتنا ، وبعد أن قدمنا لعدالتكم الحجج والبراهين ونقولات أهل الاختصاص ، نطالب عدالتكم برد دعوى المدعيّ بالحق الخاص ، على اعتبارها دعوى كيدية، لا يعضدها دليل ، وإنما بُنيت على الأهواء، وحق لأساسها الهش ، أن ينهار، ولما لا ، وهي تخالف أجماع الأدباء والنقاد ، فالتشابه في المفردات –القوافي- ليست محل للسرقة، وإنما السرقة محلها الصوّر والمعانيّ. سيادة القاضي..إن هذه الدعوى الكيدية ، لها أسبابها ومبرراتها،تلك الاسباب والمبررات لم تكن محض افتراء منا ، بل هي الحقيقة والتي يجب أن يعيها الجميع ، فالمدعي يعلم بأن موكليّ المتهم شاعر يحضا بشعبية عارمة، ويعيش في هذه الفترة سباق شعريّ أدبيّ في برنامج شاعر المليون، وأراد المدعيّ بدعواه ، أن يشوّشّ على مصداقيته الشعرية أمام الجمهور ، واختار هذه التوقيت لهذه الغرض ، وهو لا يعلم بأن الجمهور على قدر عاليّ من الوعيّ ، ولن يلتفت لهذه الأغراض الدنيئة ، كما أنه بدعواه يريد أن يختصر سلالم الشهرة على حساب سمعتيّ الأدبية، ومع ذلك كله، لا أطالب بتطبيق عقوبة الدعوى الكيدية في حقه، وإنما أطالب برد الدعوى وأنصافي من هذه التهمة الباطلة . يرفع القاضي الجلسة للمداولة ، والنطق بالحكم....يقف القاضي ، ويقف الجميع لإعلان الحكم ، يعلن القاضي حكمه قائلاً : بعد الإطلاع على أوراق الدعوى وبعد الاستماع لمرافعات أطراف الخصومة ، حكمت المحكمة حضورياً على المتهم ناصر الفراعنة بالبراءة من الدعوى الكيدية ، والحكم بإلزام المدعي بمصاريف وأتعاب المحامين ورسوم المحاكمة، وهذا الحكم بمثابة القطعيّ، والمحصنّ من جميع الطعون تحصيناً تشريعياً...رفعت الجلسة
وفي عام 2045 م ، حصل الطالب الباحث على درجة الدكتوراة في الأدب العربي ، ويعمل برتبة استاذ مشارك، في أحدى الجامعات العربية ، ومن المصادفات ، أن كلية الآداب ، في تلك الجامعة ، تحمل نفس
اسم الشاعر المتهم.!!!!
الكاتب القدير الأستاذ: فالح بن راشد ال حثلان
للأمانة منقول
مواقع النشر (المفضلة)