كان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله بهدوئه الراسخ .. وغترته ولحيته المصبوغتين بالبياض .. يفيض تلقائية وهو يضع مسجله الصغير القديم على تلك الطاولة الصغيرة .. ثم يقلب ـ على الهواء مباشرة ـ الشريط .. ويدفنه في بطن المسجل .. ثم يضغط زر التسجيل ببساطة متناهية تبث الطيبة والاطمئنان في قلب كل من يشاهد برنامجه (على مائدة الإفطار) حتى ارتبط وثيقا برمضان .. بعبادته .. بإفطاره.. بابتلال العروق .. وفرار الظمأ .. لأن العلاقة تبدو وثيقة بين الطيبة القلبية .. والتلقائية المريحة !!

كان أخي أول صبي يفتقر في حارتنا إلى نظارة طبية إذ أنهكه قصر النظر .. وكانت تلك فرصة سانحة لأعدائه أن يلقبوه بـ (علي الطنطاوي) لتشابه النظارتين المقعرتين اللتين تغطيان نصف الوجه تقريباً.. وكان ذلك كافيا لأن يودع النظارة إلى غير رجعة.. ولو كان بعيد النظر لافتخر بذاك اللقب ..

كان الشيخ الطيب ـ علي الطنطاوي ـ يقول بلهجته العامية الدافئة : " إحنا أمة ما عم تقرأ التاريخ ".. سقى الله أيامك شآبيب الصلوات والرحمات والمكرمات.. فنحن تطورنا بعدك إلى الأسوء فقد صرنا أمه تخاف أن تكتب تاريخها أصلاً.. وصدق المتنبي (من يهن يسهل الهوان عليه) !! دعونا نغرس لكم بعض الأمثلة ..

أبو مصعب الزرقاوي وصمة عار في جبين الأمة العربية والإسلامية حتى يرث الله الأرض ومن عليهاـ إذا لم نتدارك الوضع ـ حقيقة اختلطت علي مشاعر الدهشة واليأس وامتزج الحزن بالغضب .. حيال ظاهرة أبي مصعب الزرقاوي.. ذلك الرجل .. بل تلك الإرادة التي مرغت كرامة (الأم ريكا).. وداست ثم دسّت أنفها في أتربة ضفاف دجلة..

أبو مصعب الزرقاوي اللص الذي سرق شموخ الجبال.. وانتزع عنفوان النخيل.. وعتو الرياح.. ليعتلي منصب المدير التنفيذي الأول لشركة الخطوط العربية الإسلامية.. التي استوعبت جميع رحلات السفر الدولية.. و تولت بمهارة فائقة الحجز المؤكد لتوابيت الأمريكان المتجهة إلى الجحيم !!

تبا لأمة تتجاهل.. أو تخاف من كتابة تاريخ هذا البطل.. وصولاته وجولاته.. تباً لأقلام الفتات والمخلفات .. تباً لحناجر العملة التي تنبح لمن تخاف بطشه أو ترجوا ثوابه ..تباً لصحافة البلاط والصرف الصحي وكنّاسيها الذين يمجدون الأبطال الوهميين .. أبطال الخصى والموائد .. نعامات الحروب .. بينما تخاف من كتابة السيرة الذاتية لمدرسة البطولة والإقدام والجهاد في سبيل الله (أبو مصعب الزرقاوي)؟

عندما بدأت نذر الحرب تقترب بين مقاتلي بلدة فيتنام وقوات الاحتلام الفرنسي أنذر (هو شي منه) الفرنسيين قائلا: "تستطيعون أن تقتلوا عشرة من رجالي مقابل رجل أقتله منكم، ومع هذه التضحية من جانبنا، سوف تخسرون الحرب ونكسبها نحن". وبعد أكثر من عشرين سنة تحققت النبوءة وهزمت وأهينت في فيتنام جيوش فرنسا ثم بعدها جيوش أمريكا .. فأحب الفيتناميون هذا الرجل إلى درجة العشق بلا تزلف ولا رهبة أو مداهنة ونفاق فأطلقوا عيه لقب (العم هو) .. انظروا كيف يتباهى الكوبيون ب (جيفارا).. واليوغسلان (بتيتو) ..وكيف يسطر الهنود تاريخ (غاندي).. وكيف يعظم الصينيون (ماوتسي تونج) ..

جميع الأمم تسطر وتبالغ في تاريخ ثوارها وزعمائها ونحن نفرّط ونهوّن من تاريخنا ..لدرجة أننا لا نعرف حتى إسم الزرقاوي .. هل رأيتم أكثر من هذا الذل والهوان الذي تتمرّغ فيه الأمة العربية والإسلامية؟ حتى الكلام والكتابة عن الأبطال غُلقت دونه الأبواب.. ونصبت دونه المعتقلات والمشانق.. بل حتى مجرد تعزية أهل أبي مصعب الزرقاوي صار جريمة في قوانين الفاطميين الجدد !!

آمل ممن يعرف اسم وكنية ولقب وقبيلة وحي أبي مصعب.. وطفولته.. وشبابه وعنفوانه.. وقصصه ومآثره وبطولاته وتصريحاته.. وطريقته المفضلة في نحر البقر الأمريكية.. أن ينثر ما في جعبته.. لنشم البطولة فقد كدنا نفقد حاسة الشمّ.. واقترح ممن لديه القدرة المادية والفنية إنشاء موقع باسم هذا البطل.. لعلنا نكفّر عن خطايانا تجاهه وأمثاله من الأبطال المجاهدين لتكون كلمة الله هي العلياً .. لعلنا نعتق رقابنا من لعنة التاريخ .. ولعنة الأجيال القادمة..

والآن .. اسمحوا لي أن أناجي بصوت مرتفع روح أبي مصعب الزرقاوي :

أبا مصعبِ الزرقاءِ هل لك عودة .. فإن جيوش الروم تنهى وتأمر ُ
قدمت على تاريخنا ذات ليلة .. فرائحة التاريخ مسك وعنبر ُ
رفاقك في الأنبار شدّوا سروجهم .. وجندك في بغداد هلّوا وكبّروا
تناديك من شوق مآذن مكة .. وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر ُ
ويبكيك صفصاف الشآآآم ووردها .. ويبكيك نهر الغوطتين ودمّر ُ
وتبكيك أنهار الفرات ونخلها .. وكرْمُ ُ وزيتونُ ُ وشيحُ ُ وأزهر ُ
وتبكيك أرتال الجهاد وأُسْدها .. وسيفُ ُ ورشاشُ ُ وشبلُ ُ يفجّر ُ
وتفديك هاتيك الجيوش بأرضنا .. وكل عميل بالعمالة يسكر ُ

سلاماً دار قوم مؤمنين.. أنتم (الباسقون) ونحن إن شاء الله بكم لاحقون