الحمد لله
لقد أصبح أناس بين عشية وضحاها ضحايا ركبتهم أنواع من الهموم والغموم والديون فقام سوق الجلطاتِ وأمراضُ الضغطِ والسكري ومراجعةُ المستشفيات وحالاتُ الهلوسة ، وأصبح من الناس من يكلم نفسه كالمجنون ، وثلاثة عشرة جلطة أصابت ثلاثة عشر شخصا ، وازدهر سوق المستشفيات وعلت الناس النوباتُ والسكتات القلبية ، وكل ذلك بسبب الأسهم وصدق الله " إن الإنسان خلق هلوعا ، إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا " إنه أمر ظاهر في سوق الأسهم اليوم ، هم وغم ونكد ، وضيق صدر وهلع ، وتسمع الأخبار العجيبة من أحوال الناس وما آلت إليه أمورهم ،
أيهاالمسلمون: :
أخرج البخاري رحمه الله بسنده عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها ، وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي ، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين ، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة ، فوافوا صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف تعرضوا له ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ، ثم قال : ( أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء ) . قالوا : أجل يا رسول الله ، قال : ( فأبشروا وأملوا ما يسركم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا ، كما بسطت على من كان من قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم ) وفي روايةعندمسلم(وتلهيكم كما ألهتهم )

أيها الاخوة في الله : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال ( فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا ، كما بسطت على من كان من قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم ) وعلى الرواية الثانية ( وتلهيكم كما ألهتهم ) لقد وقع ما كان يحذره ويخشاه صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان ، خصوصا في سوق الأسهم هذه الأيام .. فلقد شوهد التنافس المحموم بين عدد كبير من الناس في هذه السوق ، فمنهم اشترك بجميع امواله ، ومنهم من اقترض قروضا مباحة او محرمة ، ومنهم من باع بيته وجميع ما يملك ، ، وتسمر الجميع امام شاشاتالاسعار واجهزت الحاسب .. وأصبح أكثر الناس يتخبطون يمنة ويسرة ..حتى وقعت الكارثة ..وانهار السوق ..

فماذا حصل ، لقد خسر صغار المستثمرين ، وضج الناس ..فمنهم من مات بالسكتة القلبية ، ومنهم من اصيب بالجلطة ، ومنهم فقد عقله ، ومنهم من طلق زوجته ، ومنهم قتل او آذى من.حوله..

قصص توجع القلب ، وتدمع العين ، وتفرح العدو ، ويضيق لها صدر الصديق ..والمسلم لا يقول امام هذه الكارثة الا انا لله وانا اليه راجعون ..اللهم أجرنا في مصيبتنا هذه واخلفنا لنا خيرا منها إن الأحداث التي تمر بالمسلم ينبغي أن تدفعه للاعتبار والاتعاظ، لا أن يكون ممن لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون .
نقف وقفات مع ماوقع من نزول كبير في سوق الأسهم نستلهم من هذا الحدث الدروس والعبر
الوقفةالأولى:

يجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره ، فما حصل إنما هو بأمر الله تعالى ، ليعاقب من يستحق العقوبة ، ويُحذر من يستخدم عقله في تحركاته،

فالله سبحانه هو الهنا وخالقنا ، هو أعلم بمصالحنا منا ، وهو أرحم بنا من امهاتنا وآبائنا .. وما حكم به علينا فهو خير لنا عرفنا ذلك أم لم نعرف .. يقول تعالى (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ، وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ، وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )

والجميع يجب أن يحمد الله تعالى أن أنار بصيرتهم ، حتى ولو بخسارة كل ما يملك ..

فكون الانسان ينتبه الآن ، خير له من أن يستمر في غفلته حتى يأيته الأجل وهو يلهث وراء الدنيا ..

وما حصل إنما هو تذكير للجميع لكي يعودوا الى ربهم سبحانه ويتركوا ما هم عليه من مخالفات سواء في الاسهم او غيرها ..يقو ل عز من قائل ..{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ، لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }الروم41..
ثانياً: أن حب المال الزائد عن الحد الطبيعي يشقي الإنسان، بينما هو يبحث عن السعادة، لاسيما حين يصل الحد في الولع بالمال إلى عبادته، فحينئذ تكون التعاسة نتيجة حتمية لهذه العبودية المذلة. ومن صور عبودية المال منع الحقوق الواجبة فيه كالنفقة الواجبة ومنع الزكاة، والانشغال بأمر المال على حساب عبادة الله كالصلاة والذكر الواجب. قال صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار. .
ومن صور العبودية أن يكون فقدان المال أوبعضه سبباً في الهلع والجزع إلى حد المرض أو الموت عياذاً بالله من ذلك .
وأسوأ من ذلك أن يدفع حب المال والأسى على فقده إلى الاعتداء على حياة الآخرين أو أموالهم، كما حصل من بعض المواطنين إثر الانخفاض
الكبير في أسعار الأسهم.
ثالثا : أن هذا من الابتلاء، ودليل على أن الدنيا دار كبد، وأنها ليست دار سعادة حقيقية. وأن السعادة الحقة في الآخرة التي لاخوف فيها ولاهم فيها ولايحزنون.
فأهل الجنة يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)
المسلم العاقل ينبغي أن يعمل لهذه الدار التي هي دار النعيم المقيم. ولاتلهه العاجلة عن الدار الآخرة .

الوقفةالرابعة:

يجب على كل مسلم أن يقدم طاعة الله تعالى ، ويجعل همه الأول في التفكير في الآخرة .. فيحاول أن يعمل الأعمال التي ترضي الله وترشحه لدخول الجنة ، ويترك الأعمال التي تغضب الله وتؤدي به الى النار والعياذ بالله .. يجب على كل مسلم أن يكون همه الآخرة وهو يتعامل مع أهل الدنيا وينافسهم عليها ، بل وهو يتفوق عليهم فيها .

يجب عليه أن يكون همه الآخرة وهو يتمتع بخيرات الدنيا ، ويتقلب في نعيمها ..

بل يجب عليه أن يستغل جميع ماحصل عليه من نجاحات في الدنيا ، لتحقيق الفوز برضى الله تعالى في الدنيا والآخرة ، حتى لو ادى ذلك الى ترك الدنيا باكملها ..يقول الله عز وجل مذكرا عبده المؤمن في هذا المجال :

{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ، وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }

بعض الناس هداهم الله لا يفكرون في الآخرة نهائيا مع أنهم مسلمون ، فتراهم يأخذون المال بأي طريق وبأية كيفية ، فلايحرمون حراما ، ولا يحلون حلالا ..همهم جمع أكبر كمية من المال..ويظنون أنهم بكثرة المال سيكونون سعداء ..وهذا مبدأ خاطىء وفهم قصر ، بل الواقع عكس ذلك تماما .

إن كثرة المال ليست هي السعادة، ولا العنصر الأول في تحقيقها، بل ربما كانت كثرة المال أحياناً وبالاً على صاحبها في الدنيا قبل الآخرة؛ لذا قال الله في شأن قوم من المنافقين ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) (التوبة: 55) والعذاب هنا هو المشقة والنصب والألم والهم والسقم، فهو عذاب دنيوي حاضر، وهذا ما نشاهده بأعيننا في كل من جعل المال والدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، ومنتهى أمله، فهو دائماً معذب النفس، متعب القلب، مثقل الروح، لا يغنيه قليل، ولا يشبعه كثير. وفي الحديث الذي رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، تصوير لهذه النفسية المعذبة قال: "من كانت الآخرةُ همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه ، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له
الوقفةالخامسة:
إن الخسارة في المال مهما كانت فلن تعادل خسارة الدين والأخلاق وخسارة الأنفس والأرواح .
فالمال كالريش ينبت ثم يزول ثم ينبت وهكذا ..

فهل تساوي أموالك كلها أن تسهر ليلة على السرر البيضاء ، ثم ماذا لو أصيبت إحدى رجليك أو يديك بألم شديد وقرر الأطباء بتر هذه الرجل أو تلك اليد ؟ .
أرأيت لو قيل إن هناك علاجاً في أقاصي الدنيا وقيمته جميع ما تملك أتراك تدفع هذا المال لصحتك ؟! ..
قطعاً لا أظن عاقلاً يتردد في ذلك ... إذاً ألا تحمد الله أن عافاك في بدنك وأطرافك فلقد أعطى كثيرا وأخذ قليلا ورزق وأنعم ووسَّع في الرزق فله الحمد على ما أعطى وله الحمد على ما منع .

ولا تنظر – أخي المسلم - إلى النعم المفقودة وإنما انظر إلى النعم الموجودة واستمتع بها واشكر الله على أن أبقاك صحيحاً مسلماً ، والخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بالكفر والمعاصي : (( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )) (الزمر : 15).
الوقفة السادسة :الصدقة وانفاق المال
أولاً: أنها تطفىء غضب الله سبحانه وتعالى كما في قوله : { إن صدقة السر تطفىء غضب الرب تبارك وتعالى } [صحيح الترغيب].
ثانياً: أنها تمحو الخطيئة، وتذهب نارها كما في قوله : { والصدقة تطفىء الخطيئة كما تطفىء الماء النار } [صحيح الترغيب].
ثالثاً: أنها وقاية من النار كما في قوله : { فاتقوا النار، ولو بشق تمرة }.
رابعا أن الله يدفع بالصدقة أنواعاً من البلاء فالصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ بل من كافر فإن الله تعالى يدفع بها أنواعاً من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض مقرون به لأنهم قد جربوه.
خامسا أن المنفق يدعو له الملك كل يوم بخلاف الممسك وفي ذلك يقول : { ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً } [في الصحيحين].
سادسا: أن صاحب الصدقة يبارك له في ماله كما أخبر النبي عن ذلك بقوله: { ما نقصت صدقة من مال } [في صحيح مسلم].
سابعا: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به كما في قوله تعالى: وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ [البقرة:272]. ولما سأل النبي عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي ذبحوها ما بقى منها: قالت: ما بقى منها إلا كتفها. قال: { بقي كلها غير كتفها } [في صحيح مسلم].
ثامنا: أن فيها انشراح الصدر، وراحة القلب وطمأنينته،
تاسعا: أنَّ الصدقة مطهرة للمال، تخلصه من الدَّخن الذي يصيبه من جراء اللغو، والحلف، والكذب، والغفلة فقد كان النَّبي يوصي التَّجار بقوله: { يا معشر التجار، إنَّ هذا البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة } [رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، صحيح الجامع].