تحيّات طيّبات عليكم جميعا اخواتي واخواني في المنتدى
ابدأ بتدوين قسم آخر اتناول فيه معنى مصطلح الشعر الحر ومتى نشأ وما هي البدائل التي اقترحها النقاد من اجل رفع اللّبس المفاهيمي الذي رافق المصطلح ..
الشعر الحر .. مصطلح اطلقته للمرّة الأولى الشاعرة نازك الملائكة في مقدّمة كتابها ( شظايا و رماد ) الذي صدر في عام 1949 ، وفي الحقيقة فأن شاعرتنا لم تكن مستقرّة على التسمية ، اذ انها كانت تكتب احيانا ( الشعر المعاصر ) للدلالة عليه .
اما السياب الذي سبقها في كتابة اول قصيدة لا تخضع في بنائها الشكلي والفني للنظام العروضي الموروث ، فأنه لم يكن يميل الى التنظير واطلاق التسميات على الأشكال الشعرية الجديدة .

ما تقصده نازك الملائكة بمفهوم الشعر الحر هو انطلاقه من مبدأ اعتبار الشطر الواحد بيتا شعريا مكتملا وقائما بنفسه دون ان يحتاج الى شطر ثان لنتمكّن من تسميته ( بيتا ) كما هو الحال مع الشعر العمودي ، فالبيت في الشعر العمودي يكتسب تسميته من اشتماله على صدر وعجز ، تكون تفعيلاتهما متساوية .. مثلا لو اخذنا بيتا للمتنبي وقمنا بتقطيعه عروضيّا :

احبّك يا شمس الزمان وبدره ............ وانْ لامني فيك السّها والفراقد

هذا البيت من بحر الطويل وتفعيلاته متساوية في كلا الشطرين وهي :

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ............ فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

( وبوسعي ان أشرح لمن يجد صعوبة في فهم علم العروض ، وعملية تقطيع الأبيات لأرجاعها الى بحورها ).. ما اعنيه ان في الشعر الحر يمكننا ان نعتبر الشطر الذي يشتمل على تفعيلة واحدة او بعض تفعيلة بيتا كاملا يوازي البيت العمودي المتكوّن من شطرين بتفعيلات كاملة .. فمثلا من ابيات في قصيدة ( الأسلحة والأطفال ) للسياب نجد ان هناك اختلافا واضحا في عدد التفعيلات :

عصافيرُ ام صبية تمرح
فعولن فعولن فعولن فعل

ام الماء من صخرة ينضح
فعولن فعولن فعولن فعل

فيخضلّ عشب وتندى زهور
فعولن فعولن فعولن فعولن

زهور ونور
فعولن فعولن
وتفاحة مزهرة
فعولن فعولن فعل

(مجموعة انشودة المطر الموجودة ضمنا في المجموعة الكاملة الصادرة عن دار العودة / ص 567 ) .. هنا سنجد ان عدد التفعيلات تختلف من بيت الى آخر دون ان نسمّي هذا الأمر خطأ عروضيا .

هذا هو الأختلاف الجوهري بين النموذجين الشعريين ، وكما ان الشعر العمودي ذاته خضع للتطوير واستحداث بحور جديدة وآفاق اوسع في البنى الفنيّة للقصيدة كالموشّح والدوبيت والكان كان والقوما و المنوليا.. وهذه كلّها لم تكن موجودة على ايام الفراهيدي وانما استُحدثت لتكون قادرة على مواكبة واقع المجتمعات العربية في تغيّرها وتبدّلها واتّساعها وانفتاحها على ثقافات جديدة وافدة ،
حدث ذات الأمر مع الشعر الحر ففي البدء كانت القصيدة الحرّة تُنظم على البحور ذات التفعيلات المتشابهة كالمتقارب والرجز والكامل والمتدارك والخبب .. اخذ الشعراء لاحقا ينظمون قصائدهم على البحور ذات التفعيلات والوحدات الوزنية المختلفة كالطويل والبسيط ,
كما في قصيدة لمحمود درويش :
اكلّما
خمشت عصفورة افقا
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن

فهذا الوزن هو للبحر البسيط , اي ذات الوزن الذي نظم عليه المتنبي قصيدته الخالدة في سيف الدولة :

الخيل والليل والبيداء تعرفني ............. والسيف والرمح والقرطاس والقلم
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن ............. مستفعلن فعلن مستفعـــــلن فعلن

وبعد حوالي عقدين من الزمن على نشوء الشعر الحر تمّ احداث واضافة اول توسعة جوهرية في شكله الفني الا وهي ( التدوير ) من خلال شاعر عراقي شاب اسمه ( حسب الشيخ جعفر ) وذلك في النصف الثاني من عقد الستينات .. حوالي عام 1968 .
والتدوير هو ان نقوم بتدوير التفعيلات بحيث نلغي فكرة البيت الشعري المتكون من تفعيلة واحدة او اثنتين او اكثر لترتفع فكرة القصيدة الشاملة التامة على حساب البيت الشعري التام , فالقصيدة المدوّرة تتكوّن من تفعيلات متصلة لا تنقطع من اولها الى آخرها , ومثالا على ذلك قصيدة للشاعر عبد الوهاب البياتي الذي توفي في عام 1999 في دمشق وهو يحلم بمتر مربع واحد في عراقه ليضمّ جسده بعد موته :

ارسم صورتها فوق الثلج , فيشتعل اللون الأخضر في عينيها
والعسلي الداكن , يدنو فمها الكرزيّ الدافـــــيء من وجـــــهي
تلتحـــــم الأيــــــدي بعنـــاق ابدي ، لكنّ يدا تمتــــــدّ فتمسح
صورتها , تاركة فوق اللون المقتول بصيصا من نور لنـــهار
مات...

كان هذا النصّ منظوما على بحر الخبب وتفعيلته هي ( فعلن ) , ولكننا رأينا معا ان الشاعر لاينتهي من الكتابة حتى تكتمل الفكرة , ويقوم لأجل ذلك بتدويرها على امتداد النص ..

سأكتفي بهذا القدر تاركا الحديث في المرة القادمة عن الرهانات الفنية التي فتحت الباب على تجريب فضاء شكليّ جديد في الشعرية العربية المعاصرة وهو قصيدة النثر ,,

مع خالص مودّتي للجميع