تحيات طيّبات عليكم جميعا
.. سألني احد الشعراء والمهتمين اسئلة كانت في جوهر العملية الشعرية ولقد اجبته عليها ,
وسأثبت لكم سؤاله الجميل وجوابي عليه , عسى ان يجد من يواصل النقاش بصدده .

(
عرضك شيق يدل على مرجعية كبيرة في الأدب العربي

أستاذي الفاضل :

دعني أقول مداخلتي قبل أن تنتهي من طرحك علَّ و عسى أن أجعلك تكتب أكثر ! و في هذا الفائدة المرجوة من وجودِ أمثالكَ هنا ..

في البدء ..
لمن الريادة ؟
السياب أم الملائكة ؟

سواءً هل كتبت " هل كان حباً " للسياب أم " الكوليرا" للملائكة قبل بعضهما !

سيدي ..
هناك معلومة محيرة

كتب المسرحي علي أحمد با كثير عام 1921 م مسرحية " اخناتون و نفرتيتي " و كتبها على طريقة شعر التفعيلة !
أي قبل (التجارب العراقية) بما يقارب 25 عام ! بالرغم أن في حينها كان يسمى هذا الشعر .. بالشعر المرسل !


حسناً هذه واحدة !

في ديوان نزار قباني " قالت لي السمراء " عام 1944م كانت هناك قصيدة مكتوبة على طريقة التفعيلة .. أعتقد أن اسمها " المحال " أو ربما غير ذلك .. فالألوان بدأت تبهت في الذاكرة !


إذن لمن الريادة ؟

مداخلة أخرى :
قلتَ في عرضكَ التأريخي .. أن نازك و السياب خرجا عن الشكل الخليلي !
ربما هذه فكرة عامة .. لكني أرى _ و لستُ خير راءٍ _ أنهما ما خرجا من البحور الخليلية إنما قاموا بدمجها و تكرار تفعيلة البيت الواحد حتى أصبح " شعر التفعيلة " .. أي أن مسألة الوزن ما زالت عالقة بذاكرة الشاعر العربي ! إلى حينٍ قريب !!!!


شكراً لكَ سيدي ..
جميلٌ هو طرحك .. )

..................................

فكان جوابي :

اخي العزيز
كلّما حاولت الردّ , وجدت ما يشغلني عنه , بيد اني توفّرت الآن على الوقت..
اشكرك على اضافتك الرائعة , والتي كانت بلا ادنى ريب توسيع للموضوع وتغليظ لخطوطه , واظنّك من بعض هذا الهمّ الشعري ..

فيما يتعلّق بالريادة , فهي مما كثُر الحديث عنه دون ان يقفوا على الرائد الأول , وليس في وسعنا اعتبار علي احمد باكثير رائدا لهذا الشكل الشعري , رغم انه كتب النصّ بتشطير فعولي قصير في مطلع الأربعينات لا العشرينات كما قرأت ذات مرّة , ونازعه على ذلك لويس عوض الذي كتب هو الأخر نصّا يمكننا اعتباره سلفا لقصيدة التفعيلة الحالية .

اما الشعر المرسل فلقد اطلقه للمرة الأولى الشاعر العراقي ( الزهاوي ) في محاضرة القاها سنة 1922 ونُشرت في ديوانه ( الأوشال ) الذي طُبع في القاهرة عام 1924 , ولتأكيد دعواه نشر قصيدة من 26 بيتا وقال في صددها ( على الشاعر ان يحافظ في قصيدته على البحر سواء اكان من بحور الشعر القديمة ام الجديدة وان ينتقل بعد كل بضعة ابيات الى روي جديد , فأن القصيدة لا تخلو من مطالب مختلفة مع مناسبة بعضها ) وسأثبت لك ولأخواني بعضا من الأبيات المرسلة للزهاوي , وهي منظومة على بحر واحد وهو بحر الطويل , ولكنها بقواف مختلفة :

لموت الفتى خير له من معيشة ......... يكون بها عبئا على الناس

يعيش رخيّ العيش عشْر من الورى ...... وتسعة اعشار الأنام مناكيد

وهذه هي المرّة الأولى التي تُطلق تسمية الشعر المرسل على الشكل الذي يتبنّى مقاييس العروض الموروثة ولكنّه يتخلّى في شرط بنائه عن القافية , ولقد اجابه رفائيل بطي والرصافي وآخرين في محور شهير بمجلة الحرية البغدادية في عام 1923 ,

لا يمكن لأحد ان يعتبر علي احمد باكثير او لويس عوض من روّاد شعر التفعيلة لأسباب عديدة , لعلّ من اهمّها :

1 ـ عدم تبنّيهما الشكل الجديد في كتابات لاحقة
2 ـ عدم دخولهما مجال التنظير النقدي لتفعيله
3 ـ فشلهما في تكريسه في الذائقة العامة

واظنّك تعلم انّ ابا العلاء المعري , كتب في ( الفصول والغايات ) ابياتا ينتقل فيها من بحر الى آخر وبتشطير فعولي قصير مع محافظته على القافية التي تأتي كتصريع للأبيات :

ما فعل ابنا قيلة
وبنو بقيلة
والرائحة والعازبة
وكسرى والمرازبة

وهنا ايضا لايمكننا اعتباره رائدا لمعرفتنا بولع ابي العلاء بالغريب من الألفاظ او التجريب الشكلي الذي قاده لاحقا الى ان يكتب ( لزوم ما لا يلزم )

واما نزار قباني , فلم يشر بنفسه الى ذلك ابدا ولا حتى في محور مجلة الآداب حول الشعر العربي المعاصر وآفاقه المستقبلية عام 1953 , ولا حتى الدكتور منير العجلاني الذي كتب مقدمة مجموعة قالت لي السمراء في عام 1944 , بسبب انّ القصيدة عمودية في بنائها , ولكنّها حديثة في طريقة تقطيعها وتدوينها ,

وفيما يتعلّق بالسياب ونازك وايّهما سبق صاحبه الى الريادة ,
فأعتقد ان حظوظ السياب اوفر في ذلك لأن نازكا كتبت قصيدتها الكوليرا ( حسب روايتها ) في يوم 27 _ 10 _ 1947 , وارسلتها الى بيروت ونشرتها مجلة العروبة في اوّل كانون الأول من عام 1947 وبعد اسبوعين من هذا التاريخ صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب ( ازهار ذابلة ) واشتمل على قصيدة ( هل كان حبا ) ولقد علّق السياب على القصيدة في الحاشية بقوله ( انها من الشعر المختلف الأوزان والقوافي ) , ومن الجدير بالذكر ان السياب كان قد ارّخ القصيدة في 29 _ 11 _ 1946, وان الديوان مكث اشهرا عديدة في القاهرة بأنتظار ان يُطبع , وهناك من اكّد هذا الأمر ,
ومن هنا يكون السياب اسبق من نازك بحوالي العام في نظم اوّل قصيدة لا تخضع للتشطير الخليلي الموروث ..

وكما نعرف جميعا , ان ما فعله السياب او نازك , انهما دافعا عن هذا النموذج دفاعا مريرا ضد محاولات اقصائه من الذاكرة , فأستحقّا بذلك لقد ( روّاد شعر التفعيلة )

ثانية احيّيك , واعتذر عن الأطالة , لأن الأسئلة كانت في جوهر العملية الشعرية
ولقد حاولت ما وسعني الجهد للأجابة بأيجاز ..