القمر يرأس النجوم كل يوم في فلاة الليل ليحرس السماء , يجلس على كرسيه ثم يضع قدما على قدم وتجتمع النجوم حوله كما يجتمع الطلاب حول الشيخ في الحرم تجلس تستمع لحديثه وتأنس به لتقطع هذا الليل المظلم الطويل وتؤدي مهامها على أكمل وجه فهذا رجل ضال شارد حار في الطرق واختلطت الأمور في رأسه أي الدروب يسلك وأي الخطوط الذي يبلغه مسعاه فينظر للنجوم لترشده وتدله على الطريق الصحيح من وسط هذه الطرق الخاطئة وهذه شياطين تكفلت بنقل أخبار الغد لكاهن طاعن في السن تراكمت بعضها فوق بعض فلما لمست السماء انقض عليها أحد النجوم الشجعان بكل ما أوتي من قوة ليرديها على الأرض من دون حراك ..

الحديث اليوم سيكون ذو شجون خصوصا بعد نجاة القمر من عملية اغتيال (خسوف كلي ) وقع القمر إثرها مريضا 100 دقيقة واليوم عاد سالما معافى ..
جلس على مكانه المعتاد وحمدت النجومُ اللهَ على سلامة القمر وطمأنها هو على نفسه وبدأ يتفقد النجوم قبل أن يحدثها عن غرائب ما رأى في الأرض وعجائب قصص أهل الدنيا فمن النجوم من هو مميز يجلس بجوار القمر مباشرة ليستمع ويستمتع ومنها ما هو كسول يبتعد عن القمر حتى إذا سنحت له الفرصة يغفو غفوة خلف غيمة تسبح في الفضاء ويراه القمر فيرسل أشعته لتيقظه ..

قبل أن ينطق القمر رفع نجم الجدي يده وبعد أن أذن له القمر تنحنح وقال : ما هي قصة تلك العجوز التي تبكي مرة وتضحك أخرى بجوار ذلك الحجر.. !؟ هل هي مجنونة ..!؟ أم بها مس ..!؟
التفتت النجوم كلها تبحث عن العجوز فأشار الجدي بيده : هناك في سوريا ..
فقال القمر : والله مابها من جنون ولامس لكن هذه العجوز لها قصة مع هذا الزمن ..

قبل أربعين سنة كان لهذه العجوز ابن عم قد شغفها حبا , إن ابتسم أشرقت الشمس وإن كتم غربت الدنيا , فهي تنام لتراه في الحلم فإن رأته استيقظت نشيطة كأنها نائمة منذ أسبوع وإن لم تره قامت كسولة كأنها لم تنم منذ أسبوع.. روحها التي في جسدها لا تعتبرها روح من دونه .. جُـل وقتها يذهب تفكيرا به ولطالما تركت عملها وجلست تفكر فيه ..

أما هو فلا يرى الجمال إلا فيها ولا يرى أحدا يستحق الحب غيرها , إن نظرت إليه قلبه خفق وإن غضت عنه خفق أكثر
يعيش فقط لرؤيتها ويحب كل شيء لمسته يدها أو فيه من رائحتها ... لذلك تقدم وتزوجها

عاش الزوجان أحلى حياة وأرقى اجتماع .. وكيف لا تحلو الحياة وحبيبك معك ..!؟ وكيف تحلو الحياة وحبيبك بعيدا عنك..!؟
عاشا كوردتين في بستان أو كعصفورين في عش لم يتقصهما إلا ولد يلعبان معه يربياه أفضل تربية يخبر التاريخ أنه ولد أروع عاشقين..
السنة الأولى والثانية والعاشرة والعشرين ولم يرزقهما الله ذلك الولد ..

الزوجة تخاف من أن يتزوج أخرى ويذهب حبها ويضمحل ..
والزوج لم يفعل ذلك رغم كل الضغوط عليه ..إلا أن حبها أقوى من تلك الضغوط وما أقوى من يملك حندي الحب ..!!؟

بعد عشرين سنة جاءته تمشي بل تطير من الفرح هذا الكون لا يسع فرحتها وهذه الدنيا صغيرة جدا على مرحها : أنا حامل ..
كان جالسا فقفز كقفزة من ظن أنه ملدوغ وطفق يقبلها فهذه أجمل كلمة قالتها له منذ أن تزوجها , أخيرا سيأتي الولد المرتقب ستلد له أحب مخلوقة على وجه الأرض ولدا..
أصبح يداريها ويحرص عليها كما تحرص الأم على وليدها الوحيد.. أحضر لها ما تشتهي من الطعام ومالا تشتهي ..
ولو رفعت ريشة أنبها ألا تحملي ثقيلا .. وهي تضحك وتمرح بكل فرح بكل سرور ربي لك الحمد والشكر وما تكاد ترفع يدها عن بطنها تمسحه وتدعو الله أن ييسر لها ..

لكنها الأيام وقضاء الله وقدره ودوام الحال من المحال ومخطيء من يثق بالزمن جاؤوها بجثة زوجها هامدة : لقد مات وقتله الجيش السوري بتهمة أنه إرهابي..
اللسان صمت والدمع انقضى والدم سار من العيون .. المحبوب مات يا رب رحماك صارت كالمجنونة ولربما المجنونة أفضل حالا..
الكون الفسيح صار كله كأنه قشة لم تعد تحتمل هذا الخبر ..
تهز الجثة فلان أنت لم تمت .. أنت تمزح .. فلان كيف تموت ..!؟ كيف تترك الولد الذي في بطني ..!؟ فلاااااااااااااااان لكن لا مجيب
لم تعد تطيق الحياة وأي حياة تطاق بعد فقد المحبوب ..!؟ وبعد فراق أمير القلوب ..!؟
في كل ليلة تراه في المنام – إن نامت - وتقفز لتحضنه لكن تستيقظ ولاشيء ..

.. مرت الأيام ثقيلة ومضت الشهور بطيئة ووضعت ولدا أحبته حبا جما فهي تراه وريثا لحبيبها الأول فكان مجيئة كمجيء الربيع بعد شتاء قاسي ..
إن تنفس هذا الولد تنفست وإن كتم كتمت وإن بكى بكت وإن ضحك ضحكت فهو صورة لزوجها وهو قطعة من جسدها..
كل ما قاله العشاق في العشق وكل أبيات الحب وكل نثر في الهوى لن يصف حالها..

تعد الأيام عدا وتحصي الساعات لكي تراه كبيرا ..
صارت تعمل لدى البيوت لتجمع له ما يعيش به فهو الوحيد الذي تبقى لها وهو أملها بعد الله ..
كل يوم تنظر إليه وتنظر إلى قدميه ويديه .. هل صار رجلا ..!؟ هل أصبح كبيرا ..!؟
وهو يكبر يوما بعد يوم حتى دخل المدرسة وأنهاها وجائها بالشهادة متوفقا ..

في هذه الأيام ثار الشعب السوري يناشد عن حقوقه , ويطالب بطرد الظالم , ثار ثورة الأسد إن جاع ..
تحدوا الرئيس وما المانع في أن يموتوا كلهم لتحيى أمة من بعدهم ..!؟

في كل يوم يخرجون للشوارع وبسلاح بسيط يقفون أمام الدبابات والمدرعات وقفت بطل , وقفت شريف , وقفت مظلوم طال عليه الظلم
هم صبروا هم حلموا لكن اتق شر الحليم إذا غضب , فالبحر يبقى هادئا لكنه يدمر كل الذي أمامه إن هاج ..
وكان من ضمن من خرج ذلك الولد خرج وأمه خلفه تدفعه وتدعو له..
لم تفتأ تذكره بحق أبيه وبحق كل مظلوم ..
وكلما تذكر أبوه غضب وارتاع واندفع نحو الجنود يقاتلهم ويحاربهم يبحث عن الموت له أو لهم
إلى أن جاء اليوم المشؤوم فقتل .. نعم قتل ..
وجاؤوا بجثته لأمه .. الألم أحاط بها من كل جانب والفرح سورها .. فأصبحت بين قوتين قوة الفرح لأنها قدمت بطلا لسوريا , وقوة الحزن لأنه مات ابنها وانتزع قلبها ..

اعذروني فأنا لست أديبا لكي أصف لكم حالها فإني أخشى إن وصفت دمرت الصورة لذلك كل واحد يتخيلها في رأسه ..
تردت حالها وتذبذبت وهي الآن كما ترون مرة تبكي على ولدها ومرة تفرح لأنها قدمت شهيدا ..

سكت القمر بعد أن نزلت على خده دمعة ثم أردف : اللهم يسر الأمر لسوريا اللهم أزل الظالم وأعطف على المظلوم
فأمنت النجوم ..

وبدأ الصبح يخرج فذهبت النجوم للنوم إلا نجمة الصبح تحاول أن تتحدى الشمس وتبقى فترة أطول فتهش عليها الشمس بأشعتها
فتهرب النجمة وتنام , وتنام كل النجوم , وينام القمر , وتبقى العجوز مستيقظة ...


بريشة
ثاني التومي

هذه القصة خيالية
وأعتذر عن الإطالة